جدل كبير مازالت تطرحه المحكمة الدستورية في تونس. الخلافات حولها ليست قانونية كما يفترض أن تكون وربما القانوني فيها ليس بالتعقيد الكبير، بل منذ الحديث عن تشكيلها كان الخلاف سياسيا في ظل الأزمات المتكررة وغياب مناخ الثقة بين الفرقاء، خاصة مع حركة النهضة التي يتهمها خصومها أنها المتسببة في تعطيلها بسبب رغبتها في تشكيلها على حسب ما ترغب، سواء في الفترة النيابية السابقة (2014/2019) عندما لم تجد أي صيغة حتى مع حلفائها في الحكم لإيجاد صيغة يتم تمريرها عبرها أو في الفترة النيابية الحالية (2019/2024) التي زادت الخلافات حولها مع معارضيها، إضافة دخول رئاسة الجمهورية على خط "المعركة" واعتبارها أن إجراءات تشكيلها غير دستورية.

المحكمة الدستورية بحسب تعريف وزارة العدل التونسية هي "هيئة قضائية مستقلة تتركب من اثني عشر عضوا من ذوي الكفاءة، ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون الذين لا تقل خبرتهم عن عشرين سنة. يعين كل من رئيس الجمهورية ومجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء، أربعة أعضاء، على أن يكون ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون ويكون التعيين لفترة واحدة مدتها تسع سنوات. يجدّد ثلث أعضاء المحكمة الدستورية كل ثلاث سنوات، ويسدّ الشغور الحاصل في تركيبة المحكمة بالطريقة المعتمدة عند تكوينها مع مراعاة جهة التعيين والاختصاص".

تعتبر المحكمة الدستورية التونسية إحدى أهم العناصر الجديدة التي جاء بها الدستور المصادق عليه من قبل البرلمان في يناير 2014 الذي حثّ على إحداث قضاء دستوري حقيقي يسهر على احترام الدستور من طرف جميع الهياكل العمومية والخاصة، ويكون المحصن للمنظومة القانونية التونسية. تمّ ضبط اختصاصاتها في نقاط تخص المؤسسات العليا للدولة في علاقة بالدستور وبالرئاسات الثلاث (الجمهورية والحكومة والنواب) وأيضا بالمعاهدات الدولية. وبالنسبة لرئاسة الجمهورية تكون حاسمة حتى في مسألة الإعفاء، وهذا جزء من أسباب الخلاف الحالي.

تعتبر المحكمة اليوم محل تجاذبات سياسية تهدد إمكانية تشكيلها حيث ألقت الأزمة التي تعيشها البلاد بضلالها على فرضيات التوافق حول أعضائها. بل ربما تكون الهيئة الدستورية الوحيدة التي يختلف حولها الجميع بسبب عدم الاتفاق على الأسماء التي يقدّمها البرلمان ورغبة كل طرف في تعيين مقربين منه على رأسها، بالإضافة إلى ما ذهب إليه الرئيس قيس سعيّد في علاقة بآجال التعيين التي سيتطرق لها المقال لاحقا.

والحديث عن المحكمة الدستورية هنا ليس تقنيا لأن ذلك لا يعني المتابع كثيرا وحتى التفصيل فيه قد لا يكون دقيقا، لكن الحديث سيكون سياسيا على اعتبار أن ما يقع في تونس من صراع في جزء كبير منه كذلك، وهذا كان منتظرا في ظل الإشكال الذي يُطرح حول التموقعات البرلمانية وغياب الأغلبيات الحاسمة في مثل هذه الحالات، لكن هناك إشكال آخر قد يتسبب في تعطيلها هو زمنية التشكيل التي حددها دستور 2014، بسنة على الأقصى بعد صدوره وهذا ما لم يحدث بسبب عجز البرلمان على تعيين أربعة أعضاء، وهذا خلق تأويلات كثيرة تفرض إجراءات جديدة وغير عادية.

ربما يكون من غير الموضوعية اتهام طرف بعينه في الخلافات الحاصلة حولها، لكن المتابع للشأن السياسي التونسي، سيجد نفسه أمام طرف ثابت في الأزمة وهو حركة النهضة. الحزب الذي كان مساهما في صياغة الدستور في فترة المجلس التأسيسي (2011/2014)، وهو الذي كان أحد الأحزاب الأغلبية في فترتي الانتخابات السابقتين، وفي كل مرحلة يتعطل تشكيل المحكمة يبحث عن خصم تتوجه له الاتهامات آخرهم رئيس الجمهورية الذي تناصبه النهضة العداء بسبب ما يعتبره البعض عدم رضوخ لخياراتها "وابتزازاتها".

الحديث عن أزمة المحكمة الدستورية يعيدنا إلى الفترة البرلمانية السابقة، وهي الفترة التي عرفت تناقضات غريبة، حيث أن حزبي نداء تونس والنهضة كانا في ائتلاف حكومي وبرلماني موسع يمكنهما من انتخاب أعضاء المحكمة، لكن على الرغم من التوافقات السياسية لكن قاعة البرلمان كانت مسرحا لخلافات كبيرة بينهما تؤكد أن لقاءهما السياسي كان مغشوشا وفي إطار مطامح سياسية ليس أكثر وقد أكدت الأيام صحة ذلك حتى في حزب نداء تونس الذي انقسم إلى شقوق عصفت به بسبب صراعات داخلية على المواقع وعدم الرضى على تغييب البعض في الحكومة.

وعلى الرغم أن العام 2018، كان الأقرب في تعيين رباعي البرلمان للمحكمة، لكن ذلك لم يتم بسبب التجاذبات بين الحكومة والمعارضة وحتى داخل الحكومة نفسها، فلم يتم انتخاب سوى عضو واحد لكن عدم الاتفاق على البقية أعاد الأمور إلى نقطة البداية، وتواصل الأمر إلى نهاية الفترة النيابية أين كان الاعتقاد سائدا بأن الأمور ستذهب في الاتجاه الصحيح، وهو ما لم يحصل أيضا.

بعد انتخابات 2019، تغيرت الخارطة السياسية، صعدت قوى جديدة بعضها منسجم مع الثورة التي وقعت في 2011، ويعتبر نفسه عنوان الدفاع عنها بعد أن النهضة خذلتها النهضة بتنازلاتها الكثيرة وهنا الحديث أساسا على على حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب، وبعضها رافض لتلك التحولات باعتبارها المتضرر الأساسي منها وتمثله عبير موسي باسمها وبعنوان حزبها الدستوري الحر. بالإضافة إلى هؤلاء صعد "تيار" جديد متسلح بالشعبوية، ويرى مراقبون أنه إلى جانب الدستوري الحر حالتين متوترتين تسيران بالبلاد إلى مسارات خطيرة باعتبارهما عنوانين قصويين يخوضان معركة ضد بعضهما على حساب القضايا الحقيقية للناس والتي يعتبر كلهما أنه ممثل لهما.

وبعد فترة قصيرة من الهدوء عادت أزمة المحكمة الدستورية إلى واجهة الخلافات والكل يتهم الكل بتعطيلها. وإذا كان حزبا الشعب والتيار أكثر ليونة في النقاشات التي تخصها، فإن النهضة وكتلة "الكرامة" القريبة منها وجدا نفسيهما في مواجهة معارضة من القصر، لكن في إطار دستوري أراد الرئيس أن يناور بدوره في عملية لا تخفي رسائل حول أزمة الحكم وتعطل تشكيل الحكومة. فالرئيس قيس سعيد وفي آخر تطور حول المحكمة الدستورية، وبعد أن وفر البرلمان نصابا يمكنه من إدراج تعديلات تتعلق بتنقيح القانون الخاص بالمحكمة الدستورية، بهدف تسهيل عملية التعجيل إرسائها، وهو تعجيل يرى قيس سعيّد أنه يستهدفه وعلى ذلك تعامل مع الأمر بشكل قانوني بحت متخل عن كل ليونة سياسية تجاه خصوم لم يعد لهم من هدف إلا الحرب عليه بشتى الطرق، خاصة أنهم يرسلون عبر صراعهم رسالات تهديد مبطنة عن فرضيات العزل وغيرها من تحجيم لصلاحيات الرئيس.

بعد سنوات على ما عرف بالمسار الديمقراطي في تونس مازالت العديد من الملفات عالقة وتنتظر أن يتحمل الفرقاء مسؤولياتهم في حلها. وخلاصة القول في علاقة بالمحكمة الدستورية أن الجميع يتعامل معها سياسيا، وعوض أن تكون حلا لإشكاليات قانونية، مازالت اليوم تخضع للصراع السياسي في مؤشرات على تواصل تعطيلها إلى الانتخابات المقبلة.