خلال ما يزيد عن خمسة عقود وضع الموسيقار الراحل على ماهر بصمته التجديدية المتفردة، ونقش بريشته فسيفساء موسيقية بأصوات أهم المطربين الليبين  والعرب، وحول على أوتار عوده العبقري أشعارا وقصائد الى ترنيمات كالنجوم في السماء، وحمل موهبته كطائر جميل يغرد على كل المقامات، ينثر فيض موسيقاه للعاشقين في شوقهم وفنائهم، ويصدح بايقاع حماسي يتيه بالوطن حبا صادقا بحرارة  لا تستشعرها إلا الروح الشرقية المفعمة بالعروبة. 

لا أحد نافسه إلا ألحانه، فنبوغه الموسيقي الاستثنائي، شكل لونا فريدا على ايقاعات شرقية، قدم فيها فكرا موسيقيا متجددا مستقلا، وبرغم أن سطوع موهبته في زمن كان فيه أغلب الملحنين العرب مأخوذين بإيقاعات غربية، تبحث عن مبيعات الكاسيت وسط شباب يتأثر بموجة غربية فنية يدعهما الإنتاج الباذخ والترويج الهائل، وخروج أنماط موسيقية على إيقاعات غربية ينظر لها على انها تحديثية، تجذب الأصوات العربية الباحثة عن الشهرة، كان على ماهر قابضا على شرقيته الجميلة وهويته العربية، التى فتن بها وأخلص لها في كل ما قدم ، لم ينجرف بموهبته الى تلك الموجة التى سحرت كثيرين، وآثر  التمسك بعوده على الجيتار،  واختار بشغف الربع تون  ولم يقترب من البوب، والروك آند رول والديسكو وغيرها من أشكال موسيقية غربية تكتسح زمان السبعينات والثمانينات، وتلتهم بدعم المنتجين الساحة الفنية العربية، لقا كان ماهر من القلة الثابتة، وحقق نجاحا متفوقا ملهما بشرقيته الموسيقية  وهو النجاح الذي عرفه منذ قرر أن يخوض مجال التلحين.


النجاح من اللحن الاول 


في يوم من ايام عام 1967 طرح الشاعر المعروف مسعود القبلاوي على الشاب الطموح الهاوي للموسيقى على ماهر والذي أجيز حديثا ملحنا وعازفا في قسم الموسيقى بالاذاعة في طرابلس، أن يقدما اغنية  للصوت الساطع في ذلك الزمن الفنان الراحل خالد سعيد، والذي حققت اغنيته "يا قمر علالي" نجاحا كبيرا و كان صوته في اوج شهرته، كان الشاعر المعروف يطلب من الملحن الشاب تقديم اغنية جديدة في موضوعها وفي موسيقاها، وربما كان القبلاوي يبحث في تعاونه مع شاب لم يسبق له التلحين عن تقديم اغنية مختلفة عن السائد،وهو ما قد ينظر له بالمغامرة، لكن القبلاوي كان يرى في هذا الشاب الشغوف ما يمكن أن يخدم غايته الفنية، فقصده رغم وجود أسماء موسيقية مهمة، وخلال جلسات مطولة بحث الشاعر والموسيقي الشاب عن افكار جديدة للاغنية، فكان موضوع الغربة عن الوطن، واتفق الاثنان أنه موضوع جديد في الاغنية الليبية وقريب من الناس، وهكذا قررا صناعة العمل، وكانت اغنية "طوالي"، وفعلا غنى خالد سعيد اللحن، وكان النجاح حليفها، و احب الناس العمل، ورحب به الجميع حتى انها اصبحت من الاغاني المطلوبة في راديو الجزائر في برنامج مع المهاجرين، واشتهرت في تونس، وباتت حديث الصحافة وسهرات الاذاعة، يقول مطلع الأغنية

طوالي مروح طوالي

لصغاري والوطن الغالي

لناسي لخوتى  و عشرت جيراني

لبوى وامى وعيالي

طوالي راجع لاحبابي

يكفي من الغربة يا صحابي

والبعد اللي مغير حالي   


 كان اللحن ثريا بالجمل الموسيقية العميقة، التي وضعت في قالب لحني ابداعي، بفواصل وتنوع في الكوبليهات، وايقاعات أعطت للكلمات الشعرية ترنيما بارعا، وكتب شهادة ميلاد لجدارة الموهبة، حتى انه يصعب استيعاب أن هذا اللحن المصاغ بهذه الحرفية كان لشاب صاعد، لكنها حالة نبوغ واضحة جعلت على ماهر يسجل نجاحه الكبير من أول لحن، ثم يأتي بعده مباشرة العمل الفارق في تاريخ الاغنية الليبية قصيدة "بلد الطيوب"، والتى اعتبرها الملحن الشاب تحد آخر لأن القصيدة بالفصحى ولشاعر بأسلوب ولغة الراحل علي صدقي عبدالقادر لم يكن بالأمر اليسير، وبدأ ماهر في تلحين القصيدة وكان الاقتراح المطروح أن يغنيها المطرب المغربي الشهير عبدالهادي بلخياط، لكن ماهر رفض ذلك، فكان يرى أن الأغنية ليبية و يغنيها مطرب من ليبيا، واثناء التلحين اضاف الملحن الشاب شطرا يردده الكورال يقول (يا ليل يا لالي) وهو مستوحى من الموشحات التى تشتهر في طرابلس وغالب المنطقة الغربية، واعترض الفنان الراحل حسن عريبي على الشطر، وحدث خلاف كبير حول الشطر الذي اصر عريبي على حذفه، وتدخل وزير الاعلام في ذلك الوقت الأديب الكبير الراحل خليفة التليسي لتسوية الخلاف و انتهى الأمر بعد سماعه إلى إحدى بروفات الأغنية، وبقي الشطر، واذيعت بصوت الراحل محمود كريم، وكان استقبال الناس كبيرا، وكتبت الصحافة مرحبة بل فاق نجاحها اغنية طوالي، وتعتبر الى اليوم علامة فارقة في تاريخ الاغنية الليبية ، واصبحت من اكثر الاغاني عرضا في الاذاعة، وتعاد في الحفلات لاكثر من مرة، بل قدمت في حفل مهرجان الاغنية الليبية  في عام 2003، اي بعد اكثر من ثلاثة عقود واستقبلها الجمهور بذات الحرارة، ثم توالت الأعمال الناجحة  باصوات محمود كريم، محمد رشيد، محمد السيليني وغيرهم كما قدم الحانه لاهم الاصوات العربية ومنها رائعته الوطنية "الوطن با لصحاب" التى غناها وديع الصافي، وقدم للمطرب المغربي عبدالهادي بلخياط "يوم التحرير" و "غنيلي الليلة"، وقدم للفنانة المغربية نعيمة سميح اغنية "غنيت لك" والتي غنتها أيضا المطربة السورية "ميادة الحناوي"، وقدم للفنانة عليا التونسية اغنيتها الشهيرة "لا القلب قلبي"وقدم للسورية اصالة نصري "ماشي من سيرتكم" وغيرهم وعلى مدى عقود كان كل لحن يقدمه علي ماهر يسجل حالة تجديد في الاغنية الليبية.


عاشق الموسيقى منذ نعومة أظفاره

ولد على ماهر في  طرابلس عام 1945م وتلقى تعليمه الأول بمدرسة المدينة القديمة، وثانوية طرابلس، ثم توجه إلى جامعة بنغازي والتحق بكلية الاقتصاد والتجارة، ونال منها درجة البكالوريوس عام 1966م، وعاد الى طرابلس، وعمل عاما واحدا بمصرف ليبيا المركزي، ثم قرر الانتقال إلى قسم الموسيقى بالإذاعة الليبية.
ومنذ طفولته برزت اهتماماته الفنية، عندما انتسب إلى الكشافة الليبية برعاية المرحوم علي خليفة الزائدي، حيث مارس الرسم والتمثيل وغناء الأهازيج صحبة عبدالرحمن قنيوة، ولحبه للموسيقى انضم في دراسته الجامعية، الى النشاط الطلابي وخلال الفترة  المسائية كان يتلقى دروسا على يد الموسيقار السوري خليل بكري والذي كان يعمل مشرفا على النشاط الموسيقي بالجامعة، وحانت الفرصة التى يتمناها لدراسة الموسيقى عندما تحصل عام 1971 على منحة السفر إلى القاهرة لدراسة الموسيقى والمسرح ونال بكالوريوس التخصص، ودبلوم الدراسات العليا ،وعاد عام 1977م يحمل حلما بتقديم المسرح الغنائي في ليبيا، ولكن ذلك الحلم لم يتحقق .


البعيد عن الاعلام الراحل في صمت

 برغم رصيده الفني النوعي ظل على ماهر بعيدا عن عدسات الصحافة، وقليل الظهور الاعلامي، لايعرف الناس صوته الا في بعض الاغاني الصباحية ،التي انشدها ومنها " صباح الخير يا عبدالله " حيث طلبت الاذاعة الليبية  منه وكان في القاهرة اغاني صباحية فسجلها بصوته، عدا ذلك لا يعرف الناس عن على ماهر الا الحانه الاستثنائية، وكانت في قناعته كما قال في حوار مع الناقد الفني والصحفي رمضان سليم، أن الفنان لا ينبغي له أن يجري وراء وسائل الإعلام ، بل أن وسائل الإعلام هي التي تبحث عنه، لأن القضية في نظره ليست مجرد قضية ظهور، كان على ماهر يهتم بالمحتوى،ومنشغل في قيمة ما يقدم للناس ، وكان يفضل الحديث بثقافته وموهبته الموسيقية عن العمل الفني لا عن شخصه، وحسبه في هذا ما قدم للمكتبة الاذاعية الموسيقية من ألحان فريدة .

وكما كانت حياته الزاخرة بالعطاء في صمت، رحل على ماهر يوم الجمعة الأول من يوليو 2022 في احدى المصحات التونسية بعد معاناة قاسية مع المرض، لاصور من المستشفى لا فيديوهات وداع او طلب علاج واهتمام او لوم على الإعلام ، رحل بوقاره تاركا فيضا من روحه ليترنم في لحن الخلود