يجرنا الحديث لمحاولة الوقوف بشكل قانوني، وبشكل وطني، وبشكل مجتمعي انساني، لما يدور تجاه قضية " محاولة تسليم" سيف الإسلام القذافي للمحكمة الجنائية الدولية، في تحدٍ صارخٍ – غير مسبوق- للإرادة الشعبية الليبية ومطالبة الكثير من أبناء الشعب الليبي الداعم والمؤيد لقرار العفو العام رقم "6" لعام 2015 الصادر من مجلس النواب الليبي والذي ترتب من خلاله اطلاق سراح (محدود ومقيد) لسيف الإسلام في 12 أبريل لنفس العام، وبهذا تقدمت هيئة الدفاع عن نجل القذافي بتاريخ السادس من يونيو لعام 2018 بالطعن في مقبولية الدعوة ضد موكلهم، والتي تم رفضها من خلال إجماع قاضيين من أصل ثلاث، بالرغم من مقبولية الطعن المقدم تماشياً مع لائحة النظام الأساسي للمحكمة، غير أن الجنائية الدولية قضت بعدم جواز إعادة المحاكمة استناداً للعديد من الإجراءات وكان من بينها ما أصدرته محكمة جنايات طرابلس في وقت سابق. 

يمنع القانون الليبي تسليم مواطنيه لدول أخري ومحاكم دولية علي شاكلة الجنائية الدولية، بلحاظ الخلاف عن محكمة العدل الدولية، في الوقت الذي نري إصرار "المجلس الرئاسي" بتأييد التسليم والاستسلام للقرار الدولي بل وتقديم الدفوع والمبررات مؤسساً تلك الإجراءات القانونية علي عدم شرعية قرار العفو العام الصادر من البرلمان الليبي، ومن ثم مطالبة المجتمع الدولي بتنفيذ القرار الدولي الصادر بتاريخ 27 يونيو 2011، وتأييد الحكم بدائرة الاستئناف التمهيدية الأولي بتاريخ 24 يوليو 2014.

السوابق والدوافع

في محاولة مستعجلة للمجتمع الدولي تحت مسميات عدة، وأهمها التدخل العسكري الإنساني (الحماية الدولية) و (حماية المدنيين) ابان الأيام الأولي لـ فبراير عام 2011، وبعد التوصل لإتفاقات دولية، أتت الإرادة (قرار 1970—1973) وجاء التدخل العسكري في مارس لنفس العام اعمالاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وفي سباق مع الزمن بين النظام الأسبق الذي سعي  للدخول عسكرياً الي مدينة بنغازي (لتطويق الأزمة)، وبين استصدار القرار الدولي لمنع ذلك الرتل العسكري المدجج لإخماد الأصوات في شرق ليبيا 19/3/ 2011 (لكسب الريادة)، تصدر المشهد وقتها العديد من الشخصيات وكان أهمها بعد "الرئيس الليبي الأسبق" هو نجله "سيف الإسلام معمر القذافي" صاحب المؤسسة الليبية للتنمية، وصاحب مشروع "ليبيا الغد"، وصاحب استضافة الحوار الديني وتغيير المفاهيم المتشددة ودمج الإسلاميين ومشاركتهم في توجهات ليبيا السياسية والإقتصادية والإجتماعية، ومنح تلك الجماعات صوتاً رائداً في تغيير ملامح الخارطة التشريعية للدولة من خلال وضع دستور للدولة الليبية بعد تعليق دستور ليبيا عام 1951 وتعديله عام 1963

لقد استطاع المجتمع الدولي توجيه الضربات العسكرية الواحدة تلو الأخرى، وتدمير "رتل بنغازي" مانحاً تقدما للثوار في العديد من الجبهات الشرقية وصولاً الي مدينتي البريقة ورأس لانوف، وانتهاء الي طرابلس في 20/8/، 20/10/2011… ، أي في خلال فترات تتراوح بين الخمسة أشهر والسبعة أشهر منذ بدء العلميات العسكرية الدولية "الناتو" وبقيادة ثلاثية "فرنسا-بريطانيا-الولايات المتحدة الأمريكية" تحت مسمياتها (فجر الأوديسا-الحامي الأوحد)، كما شكل الحصار الاقتصادي المفروض علي الأصول والأموال الليبية العامة والخاصة، ووضع لوائح المطالبات الجنائية للعديد من رموز النظام الأسبق واسرة "القذافي" (دون سند قانوني موثق في أغلب أحوالها بل جاءت المبررات بشكل احتياطي واحترازي واستمرت ليومنا هذا) كان له أثر كبير في زعزعة النظام الأسبق، واضعاف قدرته علي الإستمرار، وسبباً آخر من أسباب التفتت والإنهيار، وما يهمنا اليوم، أن من بين تلك الأسماء المطلوبة هو الوضع القانوني (المحلي والدولي) لـ سيف الإسلام القذافي والذي تم القبض عليه وايداعه السجن بتاريخ 19 أغسطس 2011، وتم الإفراج عنه بتاريخ 10 يونيو عام 2017.، ولا يزال مصير هذا الشاب معلق بين ارادتين محليتين متضادتين "النواب-الرئاسي"، وبين دول أعضاء بالأمم المتحدة تبحث عن إعادة مصالحها وترتقب البدائل المطروحة – وقد يكون أحد خياراتها هو سيف الاسلام القذافي – وهذا يأتي نتيجة العجز والإخفاق لمبعوثي الأمم المتحدة "الخمس" وتعثر إيجاد مخرج لائق، وهو ما جري في ليبيا و جُل الأزمات والتدخلات العسكرية ومنها " سوريا والعراق ويوغسلافيا سابقا" وغيرها.

الجنائية الدولية...سمو القانون الدولي على القانون المحلي أم سمومه؟

تذهب اتفاقية فيينا لعام 1968-1969 لتأسيس قواعد الزامية للمجتمع الدولي وتنتقل بالقواعد العرفية الي دوائر الزامية قانونية يتبناها القانون الدولي العام، ومن تلك القواعد يأتي مبدأ سمو المعاهدات الدولية واولوياتها علي تلك القواعد المحلية الوطنية بما في ذلك (في اغلب اراء الفقهاء) الدستور الوطني، شريطة القبول المباشر أو غير المباشر من الدولة وبالأخص عبر المنظمة الدولية الأكثر انتشاراً وقوة "هيئة الأمم المتحدة"، غير أن حدود الإلتزام بتلك القواعد الدولية لا تزال بين الرفض والإزدواجية والتعالي، كما هو حال العديد من المطالبات الدولية والمحاكم الجنائية والعدلية لدول وشخوص، وكما هو الحال في رفض فتح ملفات دولية بشأن الفضائع والجرائم المرتكبة "الحروب-الإبادة" بحق المدنيين والشاهد العراق وأفغانستان وفلسطين والعديد من الدول. 

بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية عام 2002، وبتوثيق اعمالها كهيئة مستقلة مرتبطة بنظام روما، الا أن اختصاصها الموضوعي يقع في نطاق الدول الأعضاء أو الدول التي تسمح لمقاضاة مواطنيها أو بناء علي إحالة ملفات المطلوبين عبر مجلس الأمن الدولي، ويكون محدداً بالجرائم ضد الإنسانية أو جرائم العدوان أو جرائم الإبادة وما الي ذلك... غير أن تلك الإجراءات تقع تحت شرطين أساسيين الا وهما؛ فشل القضاء المحلي أو استحالة المحاكمة، وهو ما يدفعنا للتساؤل: هل تم تداول القضية ضد المواطن سيف الإسلام في محاكم ليبيا وقت صدور مذكرة القبض؟ أم ان تلك الإجراءات تم اتخاذها في أروقة خارجية مغلقة وبشكل غير قانوني ومخالف للنظم واللوائح الدولية؟

لم تكن ليبيا عضواً بالمحكمة الجنائية الدولية، رغم المصادقة علي القانون الأساسي وهو أحد دواعي رفض التعامل والتسليم والتقاضي، وفي كل الأحوال، وبعيداً عن الدخول في دوامة العدل الدولية قانوناً واثبات مشروعية القرارات من عدمها، وبغض النظر عن عرفية تلك الأجهزة وارتباطها بمنظومة دولية وفق نظام روما، يظل القانون الدولي يسمو علي غيره من القوانين المحلية وفق ميثاق منظمة الأمم المتحدة والعرف الدولي، غير أن التفسير الفقهي للتجريم والتحريم يخضع الي مفهوم القانون المحلي للدولة قبل غيره، وهو ما سيثير نزاعاً قانونياً بين ما أصدره مجلس النواب الليبي بقراره العفو العام، وبين تجاذبات دولية تري بأحقية محاكمة "سيف الإسلام" بالجنائية الدولية. 

مجلس النواب الليبي والمجلس الرئاسي...والصراع القانوني    

يجر القوي المتضادة والمتصادمة والمتحاربة اليوم الكثير ........ وتعلو علي السطح العديد من الملفات الشائكة ومن ضمنها ملف الجنائية الدولية، لقد أصدر مجلس النواب الليبي المعترف به دولياً قراراً بالعفو العام المشار اليه سالفاً ومن ضمن من يشمله ذلك العفو هو نجل القذافي المطلوب بالمحكمة الجنائية الدولية، غير أن ما جري مؤخرا وتحديداً بتاريخ 11، 12، نوفمبر 2019، قد أعاد سيناريو التسليم مجدداً للمطلوب دوليا "سيف الإسلام القذافي"، بل قد تقدم وفد المجلس الرئاسي مطالبين ضرورة التسليم تأسيساً علي عدم شرعية القرار الصادر من مجلس النواب الليبي المشار اليه آنفاً، في الوقت الذي يعتبره الكثير من المحللين والنشطاء السياسيين بأن حقيقة المطالبة الدولية والإتهام الصادر من الجنائية الدولية هو موقف سياسي وليس جنائي، ويعتبره البعض بأن هناك من يدفع بـ سيف الإسلام خارج الدوائر الرسمية الليبية عرقلة لدوره في القيادة القادمة والرئاسة الليبية، غير أن المواقف في العلاقات الدولية ودينامياتها وبالأخص تلك الدول التي فقدت الريادة ستظل تصارع القوة الأخرى والبحث عن بدائل لاعادة نشاطها وتحريك مناهجها وتفعيل استراتيجياتها، وسيكون من بين تلك الإستراتيجيات محاولات إيجاد الثغرات القانونية والتفاهمات المصلحية والرهان علي نجل "القذافي" الذي يحظى بشعبية ليبية بين أوساط الشباب، وهو ما سيؤدي الي تبي مواقف سياسية قادمة ومنها؛ تفعيل "المحاكم المشتركة" وهو نوع آخر من أنواع التقاضي الدولي الشرعي، والذي لم يتطرق فريق الدفاع من الطرفين اليه. 

في نهاية المطاف...

 كل تلك الإجراءات بما فيها مقترح المحكمة المشتركة تضم فريق  قضائي دولي وآخر محلي لإنهاء الخلاف القانوني "الجنائي او السياسي" ستحفظ السيادة الوطنية والكرامة الدولية،  (وهو ما نأمل التوصل اليه) وسيدفع  الي انهاء الخلاف وسيسهم في تحقيق محاكمة عادلة في كل أحوالها، وقد يذهب الي اطلاق سراح سيف الإسلام بشكل غير مقيد والتوصل لتسوية مع كل الدوائر الوطنية وإلغاء القرار الدولي أو التقدم باتجاه "محاكمة صورية" أو"محكمة مشتركة" ، او إعادة الاختصاص للمحاكم الليبية في حالة اخفاق الأطراف الاتفاق بشأن قانون العفو العام، ويجدر بنا القول بأن التاريخ يدون كل حدث بأحرف من نور أو من نار، وستظل  كل المواقف والاتجاهات قيد المتابعة والفحص والتدقيق، وسيصف السجل بـ (الخيانة الوطنية) كل من ساهم و تسول المجتمع الدولي وقنواته وادواته للدفع بالقبض علي مواطن ليبي سواء كان مداناً او بريئاً. 

وسيكون المجتمع الدولي... العاقر تماما، والعاجز في حل الأزمة الليبية... مسؤولاً علي حياة سيف الإسلام، وسيتحمل كل تبعات مغامراته وانقساماته المصلحية تجاه القضية الليبية.