أطلّ سيف الإسلام معمّر القذّافي، منذ أيّام في مقرّ مفوضيّة الانتخابات بسبها، جنوب البلاد، مرتديًا عباءةً وعمامة بدويّة. يوزّع ابتسامات مرتبكة أمام الشاشات، أمضى أوراق الترشّح وألقى كلمة قصيرة فيها آيتين من القرآن، بأداء رُكحيٍّ/مسرحيٍّ ناجح. كان ذلك، بعد عشرة سنوات من الغياب، ظهر خلالها مراّت قليلة. أحدها كان عبر تقرير لقناة "العاصمة" عامًا أو عامين بعد اعتقاله، وهي قناة تتبع ميليشيات الزنتان المتمركزة حينها في العاصمة طرابلس ضمن معركة النفوذ التي خاضتها الميليشيات بعد سقوط النّظام. ثمّ أطلّ بعد ذلك في فيديوهات قصيرة أثناء محاكمته من محبسه في الزنتان مرتديًا زيَّ السجناء الأزرق. وخرج بعدها، عبر الصّور، في حوار مثير، وقبل موعد الترشّح للانتخابات بأيّام، مع النيويورك تايمز.
المحللون الغربيون، ربطوا بين ظهوره بلباس بدوي، وبين صورة والده وهو يخطب في فيفري 2011 من أمام بيته في باب العزيزية، ومن خلفه التمثال الذي يؤرّخ لقصف القوّات الأمريكية منتصف الثمانينات.
منذ أيّام قضت المفوضيّة العليا للانتخابات بإقصائه من السباق الانتخابي، بالعودة إلى ثلاث فصول من قانون الانتخابات الرئاسيّة. فريقه الدّفاعي بقيادة رجل متميّز وأنيق يدعى خالد الزايدي، تحدّث بنبرة هادئة وواثقة ووديعة، بأنّ سيف الإسلام القذّافي سيعود إلى السباق.
بعد أيّام من تضييقات قوّات عسكريّة قيل أنها تابعة لنجل الجنرال حفتر وإغلاق محكمة سبها جنوب البلاد، وأمام الضغط الشعبي الكبير والمظاهرات، نظرت اليوم المحكمة في طعون فريق الدفاع وقضت بعودته نهائيًا إلى السباق الإنتخابي.
خلال أيّام كانت سبها تغلي. سبها، التي اختارها لأسباب كثيرة، منها الرّمزي، كما يُمكن فهمه، باعتبارها "أرض الشرارة الأولى" في أدبيات "ثورة الفاتح" من سبتمبر، وباعتبار وجود أقاربه من قبيلة القذاذفة، وباعتبار أنّها أحد عواصم "الصف الفوقي" وهي تحالف قبلي صُفوفي يجمع القذاذفة مع أولاد سليمان وآخرين، وأيضًا وخاصة لأنها عاصمة الجنوب الليبي الذي لا يمكن لأي مترشّح آخر أن ينافسه فيه، بما في ذلك خليفة حفتر الذي يسيطر عسكريًا على المجال.
ميزة سيف الإسلام القذّافي هو أنّه يمتلك تاريخًا سياسيًا متميزًا من بين المترشّحين، ويمتلك ورقتين هما الأقوى على الإطلاق: الأولى كونه يأتي من خارج المنظومة القائمة، وسمتها الفوضى والخراب والحروب والدماء والجوع، والثانية هي "الحنين".
ورقتان قد يكونان بلا قيمة في الصف الانتخابي الشبابي، تلك الفئة الواسعة من الناخبين الذي عاشوا "الزّخم الثوري" أو كبروا وفتحوا عيونهم بعد العام 2011. جيل كامل بلا حنين ولا ذكريات عن الماضي، يبدو وكأنّه يتّجه نحو الدبيبة، الرّجل القادم من وراء الجميع، يمتلك الدّولة وأموالها وامكانيتها، ويوزّع المال والوعود والابتسامات.
أما الورقة الأولى، والتي يلعب عليها كذلك خليفة حفتر، والتي فشل الأخير بشكل واضح في تحقيقها عسكريًا، تبقى ورقة مهمّة. الليبيون يريدون رجلاً كاريزميًا، من خارج الخراب، يكون قادرًا على الإصلاح، يعرفونه سابقًا وجرّبوه، لقد تعبوا من كونهم "اليتامى" الذين يتعلّم فيهم الساسة الهواة "الحجامة". يبدو نجل الزّعيم الرّاحل كأنّه الرّجل الذي يستوي فيه كلّ هذا. رجلٌ متعلّم وإصلاحي، ذو تاريخ سياسي مقبول، مفتوح الذّهن، يتكلّم انجليزية فاخرة ولهجة بدويّة محبّبة، قاد إصلاحات مهمّة في سنوات قليلة قبل العام 2011، بشكل متعجّل نعم ولكنها كانت إصلاحات كبيرة ومهمة جدًا، كادت تقفز بالبلد إلى طراز خليجي باذخ متعايش مع الغرب في سلام ورخاء.
لا يبدو سيف الإسلام القذّافي هو نفسه قبل أكثر من عشر سنوات. لكنّه مازال الورقة الأهم في البلاد، وربّما ورقتها الأخيرة. فالتعايش بين شقوق الصراع في البلاد (رغم الفترة الاستراحة الحالية)، باعتبارهم أدوات تنفيذيّة عند اللاعبين الخارجيين، وصل إلى حد يستحيل معه أي شيء، بخلاف التقسيم.
صباح اليوم أمام محكمة سبها، كان المشهد عميقًا، نساء وشيوخ وشباب وأطفال، يحاصرون المحكمة، والعجائز يقتطعن الأشعار المذهلة في بنائها وصورها. إنّ سيف الإسلام القذّافي يلعب هناك تحديدًا، في فضاءات "الثقافة الشعبيّة" أولائك الذين يجترحون الشّعر ويحبون البلد بنقاء، بينما يلعب الآخرون هناك بعيدًا في فضاءات "الثقافة العالمة" يلبسون أربطة عنق وقياقات عسكريّة مرشوقة بالنياشين، ويحكون كلامًا كبيرًا ومفارقًا للواقع وينحتون صورًا تليفزيونيّة أنيقة. لكنهم يبدون بلا روح... وبلا جذور.
وستكون في النهاية، معركةً، وبتعبير ماكس فيبر، معركة "كاريزما". في تلك المعركة/اللعبة بالذّات وبين الثلاثة الأكثر شعبيّة: حفتر والدبيبة والقذّافي، يبدو الأخير وكأنّه الأوفر فوزًا.