ظلت مدينة درنة التي تقع في منتصف المسافة بين بنغازي وطبرق شرق البلاد، منذ خروجها عن سلطة نظام الزعيم الراحل معمر القذافي، تحت إدارة الجماعات المسلحة و المجلس المحلي الضعيف، إلى حين تمكن تنظيم "داعش" من السيطرة على بعض المواقع فيها، سنة 2014، حيث شن حملة تصفيات وإعدامات طالت قيادات عسكرية بارزة من الثوار وأئمة مساجد وشخصيات سياسية وثقافية.
وفي الأثناء تأسس "مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها"، وضم في صفوفه عناصر مدربة من مسلحي المدينة، ودخل في مواجهات مع تنظيم الدولة، استمرت عدة أشهر وأسفرت عن طرد التنظيم، بعد مقتل عدد كبير من منتسبيه وقيادييه من الليبيين والأجانب. ومثّل طرد التنظيم من درنة أول هزائمه الميدانية منذ ظهوره في سوريا والعراق وتمدده إلى بلدان أخرى.
ومباشرة بعد طرد تنظيم "داعش" تحركت الكتائب التابعة لعملية "الكرامة" بقيادة المشير خليفة حفتر، تحت مسمى "غرفة عمليات عمر المختار"، معلنة انطلاق عمليات عسكرية ضد المدينة بهدف "تحريرها من قبضة الإرهابيين"، في إشارة إلى "مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها"، الذي تتهمه بالولاء لتنظيم القاعدة.
ومنذ ذلك الوقت تتالت الغارات الجوية على مواقع بالمدينة وأطرافها وخاصة محوري الظهر الحمر والفتائح، وتصاعدت العمليات، منذ سنة، بفرض حصار خانق على مداخل المدينة، ومنع دخول المواد التموينية والأدوية وغاز الطهي والوقود إليها، ما تسبب في توقف أغلب المراكز الطبية وفي غلق الكثير من المحلات التجارية والمخابز.
نواة 'مجلس شورى مجاهدي درنة'
يعد "مجلس شورى مجاهدي درنة" تحالفاً لكتائب إسلامية شارك بعضها في الإطاحة بنظام معمر القذافي عام 2011، وتشكل المجلس في 12 ديسمبر 2014 لحماية المدينة، ورفض الخضوع لسيطرة حفتر، بعد إطلاقه عملية الكرامة في مايو 2014.
وتمثل كتيبة "شهداء أبو سليم"، النواة الصلبة للمجلس الذي يضم خليطا متنوعا من التوجهات الفكرية، بالإضافة إلى غير المنتمين، لكن من خلال الرجوع إلى بياناتها الرسمية وأدبياتها ومرجعياتها الدينية، يتضح أنها تتبنى فكر "السلفية الجهادية"، رغم تأكيدها أنها لا تنتمي إلى أي تنظيم دولي، ومحاولة أنصار حفتر ربطها بتنظيم "القاعدة".
ويعلن المجلس عداءه الصريح لحفتر، إلا أنه لا يدين بالولاء لأي حكومة في الشرق أو الغرب، بما فيها حكومة الوفاق بقيادة فائز السراج، وحكومة الإنقاذ بقيادة خليفة الغويل، رغم أن كتيبة "شهداء أبو سليم"، سبق لها أن التحقت باللجنة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية الليبية بعد الإطاحة بنظام القذافي.
في مواجهة 'داعش'
أول تحد حقيقي واجهه مجلس شورى مجاهدي درنة عندما اصطدم مع تنظيم "داعش" الإرهابي الذي شكلت درنة أول موطئ قدم له في ليبيا، وأعلن نفسه لأول مرة في 3 أكتوبر 2014 في استعراض عسكري بالمدينة، بعد أن كان يسمى "مجلس شورى شباب الإسلام"، الذي ضم عدة عناصر من كتيبة "البتار" العائدين من القتال في سورية.
وبعد عدة أشهر من التعايش الصعب بين "داعش"، و"مجلس شورى مجاهدي درنة"، وقعت مواجهات حتمية بين التنظيمين في يوليو 2015، انتهت بطرد عناصر "داعش" من المدينة التي كانت بداية ميلاده في ليبيا، وأول مسمار في نعشه، لكن "داعش" تمركز في مرتفعات "الفتائح" القريبة من المدينة، وشن عدة هجمات انتحارية على مواقع المجلس، إلا أنه فشل في السيطرة عليها، ما دفع عناصره للهروب إلى معاقله الجديدة في مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس)، وقطعوا مسافات طويلة (ما بين 700 إلى 900 كلم).
حفتر ومجلس درنة
سعى حفتر منذ إطلاق عملية الكرامة في 15 مايو 2014 إلى السيطرة على درنة، وأعلن بعد نحو 10 أيام من ذلك عملية استهدفت مدينة درنة، لكن نتائجها كانت محدودة. ومنذ ذلك التاريخ وقعت عدة اشتباكات محدودة بين مجلس شورى درنة وقوات الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر، بالإضافة إلى عمليات قصف جوي متقطعة، وعمليات خاصة، كما قام الطيران المصري بقصفها عامي 2015 و2017، ومع ذلك بقي الجيش يتحرك على أطراف المدينة. وشكلت قواته غرفة عمليات "عمر المختار" للسيطرة على "درنة"، تتبعها ستة محاور، هي: عين مارة، والظهر الأحمر، والنوار، ومرتوبة، ورأس الهلال، وسوسة.
وبعد طرد عناصر التنظيم من المدينة ظلت بعض العناصر الإرهابية بالمدينة وعادت مرة أخرى إلى تنظم "القاعدة"، فيما بقيت بعد العناصر كخلايا نائمة، إلا أن العناصر العائدة من العراق وسوريا في العام 2017 تواجدت في بعض المعسكرات المحيطة بدرنة أملا في السيطرة الجديدة مرة أخرى على درنة وسرت.
معركة درنة 2018:
في 14 أبريل 2018، تداولت وسائل إعلامية نبأ أصدار رئيس الأركان العامة للجيش عبد الرزاق الناظوري أوامره ببدء معركة درنة للسيطرة عليها، وذلك بعد أسابيع من تداول أنباء عن تنسيق عسكري مصري وإشراف على معركة درنة، إلا أن آمر غرفة عمليات الجبل الأخضر -المسؤول عن العمليات العسكرية بالمدينة- نفى مسألة إطلاق أي عملية عسكرية لكن تعزيزاتٍ كبيرة من قوات الجيش كانت قد أرسلت على مشارف المدينة.
وفي 3 مايو 2018، اندلعت اشتباكات عنيفة بالأسلحة الثقيلة ما بين قوات الجيش ومجلس شورى مجاهدي المدينة في منطقتي الظهر الحمر والحيله، جنوب درنة، في مساء اليوم التالي، أعلن الجيش عن تحرك القوات الخاصة الليبية نحو درنة وعلى رأسه آمر قوات الصاعقة اللواء ونيس بوخمادة، لمشاركة وحداته المتمركزة على تخوم المدينة، حرب "تحريرها من المتطرفين، فيما توقفت الاشتباكات بعد يومين.
في صباح 7 مايو، طلبت غرفة عمليات الجبل الأخضر العسكرية من أهالي درنة الابتعاد تمركزات عناصر مجلس شورى مجاهدي درنة، وقد كانت قوات الجيش آنذاك بحسب أخبار تداولتها الصحف المحلية قد سيطرت على مناطق مرتوبة والفتائح وعين مارة، والظهر الحمر والساحل والحيلة والنوار بالإضافة لمصنعي المكرونة والدقيق.
في مساء ذات اليوم، وأثناء حفل تخريج الدفعة 51 لقوات الجيش، أعلن القائد العام للقوات المسلحة الليبية عن بدء عمليات "تحرير درنة من الإراهبيين". وفي اليوم التالي، أعلن مجلس مجاهدي درنة استعادته لكافة المناطق التي سيطرت عليها قوات الجيش بدرنة، فيما أغلقت قوات الجيش الطريق الشرقي للمدينة الرابط مع بلدة مرتوبة.
وفي 15 مايو، نفذت قوات الجيش هجومًا كثيفًا على مواقع قوة حماية درنة استخدمت فيه المدفعية والطيران الحربي، و قد أعلنت غرفة عمليات عمر المختار على اثرها سيطرتها على كل من الحيلة والظهر الحمر ومنازل بوربيح . وفي 24 مايو، طلب عضو المجلس الرئاسي محمد العماري، من سفيرة الاتحاد الأوروبي بليبيا، التنسيق مع المجتمع الدولي لفك الحصار عن المدينة ووقف التحشيد العسكري.
ويرى مراقبون أن من أبرز الأهداف الاستراتيجية التي حققها تحرير درنة، القضاء على قاعدة الإرهاب في شرقي ليبيا، وتطهير مدينة مهمة من عصابات تنظيم القاعدة التي كانت تنشط داخلها وحولها طيلة 20 عاماً، قبل أن تسيطر عليها بالكامل منذ فبراير 2011. ومن الأهداف كذلك تدمير البنية التحتية واللوجستية للجماعات الإرهابية، والتأكيد على أن الجيش الليبي قادر على إنجاز مهمته الوطنية في أية منطقة يتجه إليها، كما أن درنة لم تكن تمثّل معضلة لليبيين فقط، وإنما لدول الجوار كذلك.