حميد زناز* 

في كتابها الصادر اخيرا " كلير او اسم العار، لقد منعوني من الاندماج"  تعود الصحفية كلير كوتش الى طفولتها لتحكي عن تجربتها كإبنة مهاجر تركي يعيش في حي اغلب سكانه من المغتربين المسلمين. و لئن كانت عائلتها منفتحة على الثقافة الفرنسية في اول الامر فمع مرور السنوات راحت كأغلبية الجيران المهاجرين تنعزل شيئا فشيئا عن المجتمع الفرنسي و ترفض قيمه و تتقوقع على ذاتها.  وانتهى الامر بوالديها الى تربية ابنتهما " تربية تركية خالصة".                                                         

الكتاب شهادة حب للبلد الذي تعيش فيه وإدانة قوية غير معهودة في كتابات ذوي الاصول الاجنبية للانعزالية الاثنية والدينية.  هي رؤية مختلفة وجريئة تعيد النظر في علاقة الأصل بالهوية الفردية.  في سنة 2008 تحصلت على الجنسية الفرنسية وغيرت اسمها التركي "سيغدم" الى اسم فرنسي "كلير"، لقب العار كما قال والدها .  وهو ما لم تتحمله عائلتها معتبرة ان تلك خيانة للأصل والعائلة.  وتحكي الصحفية الشابة كيف انتفض اقرباؤها من حولها ولم تعد تحظى بما كانت تحظى به من حب واحترام، فقط لأنها أصبحت رسميا فرنسية في أعينهم.  و رغم مرور السنوات ، لا  تزال عائلتها تقاطعها و لا تكلمها على الاطلاق و مع ذلك فهي لا تعير اهتماما كبيرا لذلك و تعتقد بأن أهلها سيجدون في يوم من الايام الطمأنينة و يعودون إليها.                            

 و لكنها رغم ذلك ، تقول بأنها عندما حصلت على الجنسية الفرنسية و شاهدت " كلير" على بطاقة هويتها الفرنسية ، شعرت أخيرًا بالراحة و الاطمئنان.  لقد شعرت بسكينة فكأنها استعادت هويتها من جديد و انسجمت مع مجتمعها الفرنسي  إذ حسبها لا علاقة للأصل  بالهوية، فالأصل جماعي نرثه و لا نكتسبه ، اما الهوية ففردية ننحتها طول حياتنا حسب ظروفنا و تكويننا و ميولاتنا .     

وصل والديّ الى فرنسا منذ 30 سنة مضت من منطقة الاناضول و وصلت معهما و لم يكن عمري يتعدى 12 شهرا ،  تقول الكاتبة  كلير كوتش، و كان لهما إرادة قوية في الاندماج في المجتمع الفرنسي، و كنا نحتفل بالمناسبات كعيد الفصح ككل الفرنسيين و كنا نتبنى رموز الثقافة الفرنسية

 و لكن بدأت الأمور تتغير تدريجياً. وشيئًا فشيئًا، أصبح الحي الذي عشنا فيه، تقول، خال من تلك الرموز الثقافية الفرنسية.  و تم فرض نوع من الضغط على سكان الحي بعدما  اصبحوا أغلبية إسلامية تعيش فيما بينها إذ غادر الآخرون الحي شيئا فشيئا. و كلما تنعدم أمام هؤلاء المغتربين فرصة او حاجة الى استعمال اللغة الفرنسية ، كلما ازدادوا انسحابا من المجتمع الفرنسي و انغلاقا و تقوقعا على جماعتهم الإثنية. كانت فرنسا حاضرة  في الصيدلية وفي مكتب البريد، تكتب كلير كوش، ولكن تم استبدال هذه المؤسسات بمتاجر إثنية لا أثر فيها للمنتجات الفرنسية. أصبحت معظم السلع تأتي من البلدان الاصلية.                                                                 

"كنت كلما دخلت الى بيتنا كأنني عدت الى تركيا و غادرت فرنسا". ازداد الانعزال في التسعينيات، تتذكر الصحافية، و خاصة مع ظهور الصحون المقعرة التي انتشرت بشكل رهيب فوق سطوح عمارات الحي و هكذا تم استبدال البرامج التلفزيونية الفرنسية ببرامج تركية في بيتنا و حرمنا من اللغة الفرنسية. "عندما كنت اذهب الى المدرسة كنت في فرنسا و لما كنت اعود الى البيت كنت أجد نفسي في تركيا . كان ملزما علي أن أترك فرنسا على عتبة بيتنا." واليوم تكتب و تقول سعيدة  امام الملأ : "لقد اخترت فرنسا".   

لقد سخر منها الاتراك لأنها كانت فرنسية فوق اللزوم في اعتقادهم و تزوجت مكرهة مع رجل من نفس ديانتها العلوية كيلا ينظر اليها هؤلاء على انها تنكرت لدينها و أصلها و لكنها انتفضت و احدثت القطيعة ، انفصلت عن الزوج و راحت تعيش حياتها كما تريد بعيدا عن الضغط الديني و الإثني ، بعد أن عاشت اكثر من عشرين سنة في توتر و عنف في قلب عائلة فعلت كل شي من أجل سجنها و حصرها في هوية تركية ليست هويتها.  لقد جعل منها انفصالها عن زوجها امرأة سيئة السمعة في حيها و لما تزور الحي الذي غادرته : "كان الناس يغيرون الرصيف كيلا يلتقون بي لما اعود الى الحي لأنني أصبحت امرأة منبوذة. كنت في الرابعة والعشرين من عمري، كان الامر سيئا، كنت عاهرة في نظرهم."  

بعد حصولها على الجنسية الفرنسية نظمت حفلة صغيرة جمعت فيها عائلتها و بعض أصدقائها في مدينتها ستراسبورغ، قال لها أثناءها والداها بأن كلمة "كلير" تعني "الوسخ" في اللهجة الاناضولية أما اصدقاؤها الفرنسيون الذين كانت تريد ان تشبههم و التي كانت تنتظر  منهم ان يقولوا لها : "شيء عظيم ، مرحبا بك معنا" ، غضبوا لما عرفوا بأنها أنشدت النشيد الوطني الفرنسي الذي هو نشيد عنف كبير و عنصرية كئيبة في اعتقادهم. إنهم، تعلق كلير كوتش، ينظرون الي دائما كأجنبية.                                                                                 

تقول كلير كوتش بأن كتابها مجرد شهادة شخصية و أنها لا تمارس السياسة و مع ذلك فهي تشن هجومًا عنيفًا على انصار "التعددية الثقافية" الذين يريدون تسبيق قيم ثقافة بلدانهم الاصلية على قيم الجمهورية الفرنسية اذ تذكرهم في 25 مناسبة على صفحات كتابها المائتين.                   

تحدثت بإسهاب عن معاناتها مع اترابها في الحي وفي المدرسة بسبب انتمائها الى اقلية دينية وسط أغلبية مسلمة سنية إذ كان أطفال العائلات العلوية  مثلها مرفوضين من قبل الأطفال الآخرين: " لا يرتاد العلويون المسجد ولا يصومون رمضان، و لذلك كنا مضطهدين في الحي و في المدرسة، يعتدى علينا ضربا في ساحة المدرسة و أمام عمارتنا.  كنا الأسوأ دائما، لأننا لم نكن مثل الاغلبية." و لم تسلم حتى من ملاحظات الفرنسيين الاصليين الذين عملت معهم في قاعات التحرير، ففي كل مرة،  تقول، يطلبون منها أن تفصح لهم عن اسمها الحقيقي فكأن اسم "كلير" لا يناسب بشرتها.  و مع أنني فرنسية ثقافة و أوراقا رسمية، تتأسف الصحافية، فكلما كان الرئيس التركي في قلب حدث ما يقال لي في قاعة التحرير:"رئيسك اردوغان".                                                                       

متى يفهم الاجانب المقيمون في الغرب أن الهوية قضية اختيار حر و ليست إقامة جبرية؟    

*كاتب جزائري