إذا كنت قارئا ومتابعا لشبكة الإنترنت، فأنت تعيش في عصر ذهبي جديد للصحافة الاستقصائية. فمن آسيا إلى أفريقيا إلى أميركا اللاتينية، يحافظ “كاشفو الفضائح”، على قدر هامّ من النفوذ سواء في عالم السياسة أو الأعمال.

يعرف مجال الصحافة، في عصرنا المعاصر، تراجعا ملحوظا، بين الصرف المتزايد للموظفين، وسعي الصحف إلى مواكبة التكنولوجيات الحديثة، أو تخلّي الشركات الأم عنها. وتعاني صحف كبرى على غرار لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست وشيكاغو تريبيون من اضطرارها إلى تسريح عدد من عمالها منذ عدّة سنوات. لكن على الرغم من استمرارية الصعوبات، والخسارة التي فرضها تراجع العقود الإعلانية، والتحدي الذي تمثّله شبكة الإنترنت، يشهد مجال الصحافة الاستقصائية ازدهارا واسعا عبر أنحاء العالم من هندوراس إلى ميانمار، ونيوزيلندا إلى إندونيسيا.

وتواصل أسماء صحفية غير معروفة في الولايات المتحدة الأميركية -مثل خديجة إيسماييلوفا ورافائيل ماركيز وجيانينا سنينة- في نقل السبق الصحفي والتقارير الساخنة المتتالية، كاشفين فضائح حول المسؤولين الحكوميين الفاسدين وأصدقائهم من الشركات المُريبة في أذربيجان، وأنغولا، وكوستاريكا.

شيلا كورونيل المختصّة في هذا المجال، والعميدة الأكاديمية الحالية لكلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كولومبيا، وشغلت سابقا منصب مديرة المركز الفلبيني للصحافة الاستقصائية الذي ساهمت تغطيته لموضوع الحيازات العقارية للرئيس السابق جوزيف استرادا في عزله من منصبه في 2001. تقول “إننا نعيش في عصر ذهبي للصحافة الاستقصائية”.

وتتابع أن ازدهار الصحافة الاستقصائية يبدو واضحا في عدة أماكن من العالم، ففي البرازيل، الصحفيون يعملون باستمرار على فضح الفساد المنتشر في الحكومة المحلية، فضلا عن نظام نقدي للأصوات الذي أدى إلى إلقاء القبض على تسعة من كبار السياسيين. وهي إنجازات صحفية تعود بالفضل، جزئيا، إلى ‘قانون حرية المعلومات’ في البرازيل وحركة ‘الميزانية المفتوحة’ التي تسعى إلى تسليط الضوء على مالية الحكومة”.

_141018655711.jpgشيلا كورونيل: "ازدهار الصحافة الاستقصائية يبدو واضحا في عدة أماكن من العالم"

وتتابع شيلا، “عندما بدأت البحوث لتأليف كتابي الجديد، ‘كشف الفضائح على الصعيد الدولي: 100 سنة من الاستقصاءات الصحفية في جميع أنحاء العالم’، كنت على اقتناع أنّ العصر الذهبي للصحافة الاستقصائية مرّ وانقضى. إلّا أنني تفاجأت بالجودة العالية للعمل الاستقصائي عبر العالم. وهي طفرة تستمدّ قوّتها من كمية البيانات المتاحة اليوم على شبكة الإنترنت، وقدرة الصحفيين على استخدام شبكة الإنترنت للاتصال ببعضهم وتبادل المعلومات والموجة الجديدة للأعمال الخيرية والإنسانية والتبرعات”.

كما لعبت التحركات نحو الديمقراطية في العديد من البلدان، بالإضافة إلى ثورات الربيع العربي (وإن كانت نتائجها مثيرة للجدل) دورا هامّا في تحقيق الانتعاشة الحالية للصحافة العالمية على عدّة مستويات. مقارنة بما كانت عليه الأوضاع منذ خمسة، 10 أو 20 سنة، تتمتع وسائل الإعلام اليوم، في ميانمار وغانا وتونس –على سبيل المثال- بحرية كاملة.

وبطبيعة الحال، هناك أيضا حكومات منتخبة ديمقراطيا، في بلدان مثل الإكوادور والمجر، التي تتمسّك بحرية التعبير. لكن في مناطق أخرى مثل سوريا وفيرغسون، ميسوري، تبقى ظروف عمل الصحفيين محفوفة بالمخاطر. من جهة أخرى، علينا أنّ نعترف أنّ الصحافة تتمتّع اليوم باستقلالية (من الحكومات) أكثر من أي وقت مضى، وهي ظروف تشجع حتما على نهوض الصحافة الاستقصائية.

أمّا عمليات التسريح الجماعية لكبار الصحفيين في جميع أنحاء العالم فهي تعود بالنفع على مستوى توفّر الكثير من ذوي الخبرة المستعدين لتدريب الجيل القادم وتوفير الذاكرة المؤسسية في مشاريع مبتكرة. بعض هذه الأسماء الصحفية والإعلامية العريقة، التي لم تدخل مجال التدريس، تعمل اليوم على تأسيس وتشغيل المنظمات غير الربحية المكرسة لتوعية الرأي العام بشأن صعوبة قيادة التحقيقات الاستقصائية. تشمل هذه المنظمات “100 صحفي”، “الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية”، “منتدى الصحفيين الاستقصائيين الأفريقيين”، “الصحفيون والمحررون الاستقصائيون”، “شبكة الأخبار الاستقصائية”، “سكوب”، والاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين.

لا يمكن التنبؤ اليوم باستمرارية هذه الموجة من التمويل التي ترعى الصحافة الاستقصائية في المستقبل. قد تستغرق الصحافة الاستقصائية سنوات لتحدث فرقا حقيقيا، وفي الماضي، فشلت العديد من الصحف الهامة والعريقة في كسب ما يكفي من الأرباح ممّا أدّى إلى اختفائها من الساحة.

لكن يبقى الظلم نبعا لا ينضب تستقي منه الصحافة الاستقصائية مضمونا ومواضيع لا حصر لعددها.

 

*عن العرب اللندنية