تبدو الازمة السياسية بالرغم من التطورات الايجابية التي شهدتها خلال الأشهر الماضية وكأنها تدور في حلقة مفرغة حيث مازال الغموض يغلف المشهد السياسي والتعقيدات تفرض نفسها بقوة مع استمرار مسلسل الخلافات والانقسامات الذي تجدد بعد انتكاسة تأجيل الانتخابات التي كان يؤمل منها أن تنهي سنوات من الصراعات والحروب في البلاد.
عادت ليبيا مجددا الى أزمة الشرعية حيث بات هناك حكومتان،حكومة الدبيبة التي ترفض التنحي وتسليم مقاليد الحكم وحكومة فتحي باشاغا التي بدأت مشاورات تشكيلها بعد أن اختارها البرلمان.وفي هذا السياق،أكد رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة، استمرار حكومته في تنفيذ برامجها، وأنه لا عودة إلى الخلف لحين الوصول إلى موعد الانتخابات.
وقال الدبيبة اليوم الاثنين، في اجتماع عادي لمجلس الوزراء "إن الحكومة ماضية في تنفيذ برامجها لتوفير الخدمات للمواطنين بجميع المدن والمناطق"، مشيرا إلى أن مجلس الوزراء خصص مبلغ 2.5 مليار دينار دعما للمجالس المحلية.وكشف الدبيبة أنه كلف وزيرة العدل بتشكيل فريق قانوني مستقل لصياغة قانون الانتخابات، مبينا أنه سيكشف لليبيين كل مصاريف الحكومة، تحقيقا لمبدأ الشفافية، وفق تعبيره.
وفي المقابل،أعلن رئيس الحكومة المكلف فتحي باشاغا، بدء مشاوراته لتشكيل الحكومة الجديدة، مشيرا إلى أنه سيقدم تشكيلته إلى مجلس النواب في الزمان والمكان المحددين، معبراً عن أمله بأن تنال الثقة.وقال باشاغا في كلمة وجهها للشعب الليبي صباح الاثنين، إن حكومته ستسعى إلى  إجراء الانتخابات في مواعيدها المحددة، متعهدا بعدم ترشحه للانتخابات الرئاسية.
وأضاف باشاغا أن عملية استلام السلطة وتسليمها بين حكومته الجديدة وحكومة الدبيبة، "ستتم وفق الآليات القانونية والدستورية، بالطرق السلمية، ولن تكون هناك أي عوائق، خاصة أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية المهندس عبد الحميد الدبيبة شخصية مدنية ومحترمة وينادي دوماً بالابتعاد عن الحروب، ونحن على يقين بأنه يؤمن بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة"، على حد تعبيره.
وتاتي تطمينات باشاغا في وقت تتصاعد فيه المخاوف من امكانية حدوث صدام عسكري جديد خاصة في ظل التحركات التي تشهدها العاصمة طرابلس،حيث أعلن 118 فصيلًا من القوى العسكرية والأمنية والسرايا في مدينة مصراتة الليبية، دعمها لتعيين وزير الداخلية السابق، فتحي باشاغا رئيسا للوزراء.
وأكدت الفصائل، في بيان مشترك صادر عنها، دعمها لـ"الاتفاق الليبي-الليبي الذي جرى بين مجلسي النواب والأعلى للدولة وما نتج عنه من تعديل دستوري وتسمية رئيس للوزراء يتولى شؤون البلاد إلى حين الاستفتاء على الدستور وإجراء الانتخابات".ودعت الفصائل الموقعة على البيان "بعثة الأمم المتحدة والدول المعنية والمهتمة بالشأن الليبي إلى تزكية هذا الاتفاق ودعم هذا المسار".
ويشير كثير من المتابعين للشان الليبي أن حكومة باشاغا المرتقبة قدتواجه صعوبات كبيرة لاستلام السلطة ومؤسسات الدولة من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، الذي شدد على أنه لن يتنحى عن منصبه وأن حكومته ستواصل مهامها إلى حين إجراء انتخابات في البلاد.وينذر هذا الوضع باحتمال ظهور حكومتين متنافسين وصراع على الشرعية ليس بجديد.
فمنذ العام 2011، وفي أعقاب تدخل قوات الناتو مدعومة من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لإسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي واغتيال الاستقرار والأمن في هذا البلد العربي الغني بموارد الطاقة النفط والغاز، دخلت ليبيا في حالة فراغ سياسي وأمني وشهدت السنوات التي تلت ذلك صراعات متجددة على السلطة.
أولى محاولات سد الفراغ السياسي الذي أحدثه اسقاط النظام في ليبيا،كانت مع تشكيل المجلس الوطني الانتقالي، في تشرين الأول / أكتوبر 2011 لتولى إدارة شؤون البلاد، ولكنه لم يتمكن من بسط سيطرته على الميليشيات المسلحة المتعددة التي نشطت في ظل الفوضى التي عصفت بالبلاد وباتت تحكم سيطرتها على عدة مناطق.
وفي آب/ أغسطس 2012، سلم المجلس السلطة للمؤتمر الوطني العام الذي انتخب في الشهر السابق وقام باختيار رئيس دولة مؤقت. وفي الأثناء تمكّن تيار الاسلام السياسي من جميع مفاصل البلاد، وانتشرت الميلشيات المحسوبة على الإسلاميين في مختلف مدن البلاد تحت مسميات الدروع بغطاء رسمي من المؤتمر الوطني العام الذي تمكّن التيار الإسلامي من السيطرة عليه بفعل قانون العزل السياسي الذي أقرّ تحت قوّة السلاح وحصار الميليشيات لمقر المؤتمر.
وشكلت جماعة الإخوان في 5 مارس 2012،  حزبًا سياسيًا باسم "العدالة والبناء"،وقد تم إنشاؤه في ظل غياب القوانين بطرح عملية رسمية لإنشاء الأحزاب السياسية،  وقد مثّلت الجماعة في أكثر من 18 مدينة في جميع أنحاء البلاد.ونجحت جماعة الإخوان بليبيا،  في التمكين من المؤسسات السيادية في الدولة،  بداية من الحكومة،  ومرورًا بمصرف ليبيا المركزي،  وباقي مراكز المال الأخرى.
وفى محاولة من الإخوان لإفشال حكومة على زيدان، التي شُكلت عقب حل المجلس الانتقالي الليبي، أعلن حزب العدالة والبناء الإسلامي،  الذراع السياسية للجماعة بليبيا،  سحب وزرائه من الحكومة الليبية،  وحاول الإخوان لأكثر من مرة أن يدفعوا حكومة زيدان إلى الاستقالة سواء من بوابة المؤتمر الوطني،  أو من خلال الضغوط الميدانية وتحريك أذرعهم العسكرية وميليشياتهم.
وسرعان ما أطاح إخوان ليبيا برئيس الوزراء، بعد خطفه والتنكيل به وكان القرار من المؤتمر الوطني العام الواجهة الحقيقية لجماعة الإخوان وهو سحب الثقة من رئيس الوزراء الليبي السابق علي زيدان،  حيث تمكن من الفرار إلى ألمانيا قبل أن يصدر قرار من النيابة العامة بالقبض عليه. وفي أول تصريحات له بعد هروبه،  اتهم علي زيدان جماعة الإخوان في ليبيا بأنها وراء قرار سحب الثقة من حكومته وعرقلة عمله.
المشهد في ليبيا سرعان ما اختلف عما كان عليه في 2012، فعلى الصعيد السياسي خسر الإسلاميون انتخابات العام 2014 بالضربة القاضية، رغم الإمكانات المرصودة لهم إعلاميا وماليا وأمنيا،  ما دفع بهم إلى الانقلاب على النتيجة من خلال الحرب الأهلية المعلنة من قبل مليشيات "فجر ليبيا"،  والتي أدت إلى ترحيل البرلمان إلى مدينة طبرق في شرق البلاد.
وشكّل المؤتمر الوطني العام الليبي حكومة "الانقاذ" في أغسطس/آب 2014 ومقرها في طرابلس، وترأسها خليفة الغويل، ولم تنل الاعتراف الدولي. وسيطرت هذه الحكومة على مناطق واسعة من غربي وجنوبي ليبيا خلال 2015. فيما انبثقت الحكومة المؤقتة عن برلمان طبرق في سبتمبر/أيلول 2014، واتخذت مدينة البيضاء شرقي ليبيا مقرا لها، وترأسها عبد الله الثني.
دخلت البلد في أعقاب ذلك في انقسامات وصراعات تخللتها محاولات لتشكيل حكومة وحدة في ليبيا. وبعد عام من المباحثات للتوصل إلى حل لوقف النزاع الدائر بين حكومتي طرابلس وطبرق، تشكلت حكومة الوفاق الوطني بموجب اتفاق سلام وقعه برلمانيون ليبيون في ديسمبر/كانون الأول 2015 برعاية الأمم المتحدة، واختار تشكيلتها المجلس الرئاسي الليبي، وهو مجلس منبثق عن الاتفاق ذاته ويضم تسعة أعضاء يمثلون مناطق ليبية مختلفة. وسلمت بعثة الأمم المتحدة أطراف النزاع الليبي في 22 أيلول/سبتمبر نسخة الاتفاق السياسي النهائية بما فيها الملاحق، موضحة أنه "الخيار الوحيد" أمام الليبيين كي لا تسقط البلاد في فراغ سياسي ومصير مجهول.
بعد حالة من الجدل غير المسبوق ما بين منح الثقة لحكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج من عدمه، قرر الأخير تجاهل الأطراف المتنازعة على السلطة، وبدأ مباشرة عمله من العاصمة طرابلس رغم تحذيرات خليفة الغويل من الدخول لطرابلس دون منحها الثقة من قبل البرلمان الليبي المعترف به دوليًّا وكذلك المؤتمر الموازي في طرابلس. واعتمد السراج على دعم المجتمع الدولي حيث وصلت حكومته في 30 آذار/مارس عن طريق البحر، واستقرت في القاعدة البحرية في المدينة.
أمرت حكومة الوفاق الوطني في ليبيا الإربعاء 06 نيسان/إبريل 2016 كل المؤسسات باستخدام شعارها وبالحصول على موافقتها في كل النفقات وذلك بعد ساعات على إعلان الحكومة غير المعترف بها دوليا في طرابلس تخليها عن السلطة. وأبلغت حكومة فايز السراج المصرف المركزي بتجميد كل الحسابات العائدة إلى وزارات ومؤسسات عامة بينها مؤسسات تابعة لشرق البلاد وأخرى لطرابلس. والى جانب الدعم المحلي السياسي والاقتصادي والامني، تلقت حكومة الوفاق مزيدا من الدعم الخارجي مع اعلان سفارات دول عدة البحث في اعادة فتح سفاراتها في العاصمة.
رغم التأييد الدولي الواسع الذي رافق وصولها الى العاصمة الليبية العام 2016، لم تنجح حكومة الوفاق في حل أزمات البلاد وإنهاء حالة الانقسام الموجودة إضافة إلى فشلها في احتواء المليشيات المسلحة المنتشرة خاصة في العاصمة وفي بسط سلطتها على كل البلاد،وتعددت المظاهرات الشعبية المطالبة برحيلها فيما تتالت وتعددت الاستقالات في صفوفها.
 ولم تنجح اللقاءات والمؤتمرات الدولية في إنهاء الصراع في ليبيا، وتصاعدت وتيرة الانقسامات وتحولت إلى مواجهة مباشرة بين الجيش الليبي في الشرق وحكومة الوفاق في الغرب، وذلك فى أعقاب إطلاق الأول عملية عسكرية تحتى مسمى "طوفان الكرامة" لإنهاء سيطرة الميليشيات على العاصمة طرابلس، لترد حكومة الوفاق بإعلان التعبئة العامة لصد الهجوم.
وبعد اشهر من الصراعات توصل الفرقاء الليبيون الى اتفاق لوقف اطلاق النار في كامل الأراضي الليبية وبدأ ماراطون من المشاورات واللقاءات داخل وخارج البلاد تم التوصل الى توافقات هامة برعاية اممية ودولية كانت نتائجها تاريخية مع انتخاب حكومة وحدة وطنية بهدف توحيد مؤسسات الدولة والتمهيد للانتخابات القادمة ولتبدأ بذلك ليبيا مرحلة طي صفحة سنوات من الانقسامات والصراعات التي اثرت بشكل كبير على البلد العربي
ومنح مجلس النواب الليبي، في 10 مارس 2021، الثقة لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، بعد تصويت 132 نائبًا بالموافقة،وبحسب مخرجات الملتقى السياسي الليبي، فإن صلاحيات السلطة التنفيذية كاملة تنتقل للمجلس الرئاسي الجديد ولحكومة الوحدة الوطنية، من تاريخ منح الثقة للحكومة، فيما تنتهي منذ ذلك التاريخ جميع السلطات التنفيذية القائمة.
وبدأت ملامح طي صفحة الانقسامات مع اعلان رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة إلغاء جميع القرارات والإجراءات الصادرة عن حكومتي الوفاق والمؤقتة.كما ألغى الدبيبة وزارات والجهات التابعة للحكومتين، اعتبارًا من تاريخ منح الثقة لحكومة الوحدة الوطنية في 10 مارس 2021،وشدد الدبيبة على العمل بالقرار من تاريخ صدوره وإلغاء كل حكم يخالفه، وحض الجهات المعنية على تنفيذه.
وكانت حكومة الوفاق الوطني الليبية التي قادها فايز السراج منذ عام 2016،قد سلمت في وقت سابق سلطتها التنفيذية إلى رئيس حكومة الوحدة الوطنية الموقتة عبد الحميد دبيبة، في حفل أقيم بطرابلس، بعد يوم واحد من أداء رئيس الوزراء اليمين الدستورية إلى جانب مجلس رئاسي من ثلاثة أعضاء حيث ستتولى الحكومة الجديدة الاشراف على المرحلة الانتقالية.
كما أعلنت الحكومة المؤقتة،برئاسة عبدالله الثني في وقت سابق استعدادها التام لتسليم المهام وكافة وزاراتها وهيئاتها ومصالحها ومؤسساتها لحكومة الوحدة الوطنية متى شكلت اللجان المختصة.ووصل نائب رئيس الوزراء حسين القطراني،في 23 مارس 2021، رفقة عدد من الوزراء بحكومة الوحدة الوطنية إلى مدينة بنغازي لإتمام إجراءات التسليم والاستلام مع الحكومة المؤقتة.
وبالرغم من المؤشرات الايجابية التي أعقبت انتخاب حكومة الوحدة الوطنية وتوحد جل مؤسسات الدولة مع تواصل عملية توحيد  المصرف المركزي والمؤسسة العسكرية،الا أن حكومة الدبيبة لم تنجح في حل مشكلات البلاد وباتت في مرمى الانتقادات والاتهامات بالفساد.ومع تأجيل الانتخابات التي كان من المقرر اجراؤها في ديسمبر الماضي تصاعدت المطالبات بتشكيل حكومة جديدة.
 وعلى وقع الأزمات التي يتخبط فيها المشهد الليبي منذ سنوات، يأمل الليبيون في فض الصراع على الشرعية والسلطة الدائر بين الفرقاء، ويؤكد كثيرون أن مسلسل الخلافات السياسية سيكون له تداعيات وخيمة ومن شأنه اعادة البلاد الى مربع الصراعات واجهاض التوافقات التي تحققت خلال الفترة الماضية.ويبقى على الساسة الليبيين تغليب مصلحة الوطن بما يضمن اعادة الاستقرار والدفع بعجلة التقدم مجددا لاعادة البلاد الى وضعها الطبيعي.