صباح الاثنين 2 مارس 2020 شهدت العاصمة طرابلس مظاهرة من حوالي 500 عنصر طبي تابعين لإدارة الخدمات الصحية طرابلس تجمهروا أمام مقر "وزارة المالية" بطريق السكة مطالبين بمرتباتهم عن اشهر 12/2019(ديسمبر2019) ويناير وفبراير 2020 إضافة لـمستحقاتهم عن سنوات عمل سابقة أثارت هذه التظاهرة الجدل ، حيث قادها مدير إدارة الخدمات الصحية طرابلس (د رضا شعوتة) الذي نشر له تسجيلا قبلها بيوم واحد اتهم فيه وزير المالية بالتقصير وتحدث شعوتة بلهجة جهوية حيث ذكر في فيديو مباشر له بث على صفحة الادارة الرسمية أن (الوزير "بومطاري" يتعمد التضييق على موظفي طرابلس لانه من 'المنطقة الشرقية' وأضاف الدكتور رضا شعوتة مدير إدارة الخدمات الصحية طرابلس في ذات التسجيل أن مدير إدارة الميزانية (وجدي البكباك) يصرف المستحقات المتراكمة لبعض الناس ويهمل بعضهم الآخر متهما إياه بالواسطة والمحسوبية والسرقة وتوعده برد ، كما أكد على رغبته في الإطاحة بوزير المالية.....
تبادل الاتهامات وإخلاء المسؤولية
أثناء المظاهرة او الوقفة الاحتجاجية ووسط علوّ صوت المطالبين بحقوقهم خرج وزير المالية (فرج بو مطاري) من مكتبه لمقابلة الجموع الغاضبة وما أن بدأ بالحديث عن ما وصفه (تلاعب) و أشار إلى أن لجنة ترشيد المرتبات والتي تتخذ من "جنزور" مقرا لها قد طلبت من مدير إدارة الخدمات الصحية طرابلس بعض المستندات لكنه لم يستوفي شيئا منها مشيرا إلى قصور في المنظومة الإدارية والمالية للصحة بطرابلس ؛ حتى قاطعه مدير الادارة (شعوتة) بالصراخ والتكذيب ومحاولة التهجم عليه ، و تمت مقاطعة الوزير.
اللافت في الأمر أن بعض وسائل الإعلام غطت هذا الحدث ولم تعرض كلمة وزير المالية كاملة وكأن التعتيم عليها مطلوب، بل أن بعضها أبدت دعمها لمدير إدارة الخدمات الصحية طرابلس المحسوب على نفس التيار الذي تنتمي له هذه الوسائل.
توجهت الجموع بعد ذلك لمقر الرئاسي القريب من المالية والذي قام على الفور باستدعاء وزير المالية ورئيس ديوان المحاسبة في نفس اليوم ؛ في حين توجه السيد "وكيل وزارة الصحة" الدكتور (محمد هيثم عيسى) لمكتب "محافظ مصرف ليبيا المركزي" مع وفد ضم بعض مسؤولي الصحة والمستشار المالي للمجلس الرئاسي لبحث هذا الأمر ؛ محمد هيثم عيسى الذي عُرف عنه انه يطفيء الحريق ولا يعالج أسباب الحريق في كل مرة تحدث فيها مشكلة .
الأرقام تكشف حجم الكارثة
حدث كل ما ذكر أعلاه من اجتماعات واحتجاجات قبل عصر الثاني من مارس ، أما في المساء فقد خرج وزير المالية في مؤتمر صحفي رفقة مدير إدارة الخزينة (الازهر اكشير) وعضو لجنة ترشيد المرتبات (عماد الكلاّمي) حيث أكد وزير المالية (فرج بومطاري) على أن القانون الليبي يتطلب سلامة الإجراءات الإدارية ليتم صرف المرتبات والصحة بطرابلس هي الجهة الوحيدة التي لم تستوفي الشروط مما يشير إلى وجود قصور في الشؤون الإدارية لها ، ثم أحال الكلمة لعضو لجنة ترشيد المرتبات (عماد الكلاّمي) الذي فجّر مفاجأة لموظفي الصحة حيث قال[إن مرتبات جميع العاملين في الصحة طرابلس عن 12 شهر في 2019 تم إحالتها مفصلة تفصيلا كل اسم أمامه القيمة المخصصة له وأحيلت للصحة طرابلس في قرص مرن ولكن الجهة المعنية "اي الصحة طرابلس" لم تلتزم بالقرص وصرفت في غير أوجه الصرف ثم ادّعت أن هناك عجز مالي أدى الى عدم صرف مرتبات شهر ديسمبر لموظفيها] وأضاف الكلامي [أن القيمة المحالة هي مرتبات 18195 عنصر مع ان من تصرف لهم المرتبات هم 17,559 عنصر ، أي يوجد 636 موظف لا تصرف لهم مرتبات وهذا يُعدّ فائض للصحة طرابلس يعادل 400,000 دينار فكيف تدعي وجود عجز هذا بالإضافة إلى قيمة ((التأمين الطبي)) التي تصرف للجهة إذا اضفنا إلى هذه الأربعمائة الف وإذا افترضنا وجود عجز فإنه سيكون 32,000 دينار فقط وليس 5,000,000 كما افادت الجهة] ثم استطرد [أننا وبالرغم من كل هذا مستعدين للتسوية من أجل الموظف شريطة أن تستوفي الشؤون الإدارية بالصحة طرابلس ما طُلب منها وهو ما لم يحدث، ونحن غير عاجزين حيث قمنا بتسوية وضع 62ألف موظف في التعليم عددهم أكبر ومشاكلهم أكثر ولكن التعليم استوفى كل المتطلبات في حين تقاعست الصحة طرابلس رغم ان عدد موظفيها أقل] ، وبعد ذلك أحيلت الكلمة الى (الازهر اكشير)مدير إدارة الخزينة الذي عزّز ما قاله عماد الكلامي بالأرقام حيث أفاد أن القيمة المحولة 18,700,000 أي بـمتوسط شهري 16,570,000 مؤكدا على أن قيمة شهر 12 ديسمبر 2019 قد احيلت فعليا الى الصحة طرابلس..
غياب الجهات الرقابية.. غياب المحاسبة
ومع هذا لم نشاهد أي إجراء قانوني من الجهات الرقابية او التنفيذية العليا كوزارة الصحة أو أي جهة مخولة بالتحقيق ومحاسبة المقصرين وفي ظل التجاهل المتعمد للتصريحات الخطيرة التي أدلى بها وزير المالية ومرافقيه في مؤتمرهم الصحفي جاء الرد سريعا من الجهة المعنية لكنه ليس كافيا ولا وافياً ، حيث ردت إدارة الخدمات الصحية طرابلس على مؤتمر وزير المالية بمؤتمر صحفي مماثل لمؤتمره تحدث فيه مديرها الذي يعرف عنه تحصنه بالميليشيات وعلى يمينه معاونه وذراعه (عبدالرزاق الصيد) مسؤول الشؤون الادارية والمالية في إدارة "شعوتة" والمعني الأول بتصريحات الكلامي وكشير ..تحدث شعوتة ومعاونيه حديثاً عاطفيا وحماسيا موجها للموظفين الذين ينتظرون بفارغ الصبر مرتباتهم لسد رمق أطفالهم ، لكنه لم يرد على ما أفاد به بومطاري والكلامي وكشير ولم يقدم اي دفاع او حجة مقنعة ، غير ذكره أن تقرير الرقابة الادارية "فرع طرابلس" (الذي لم يصدر بعد) يصب في مصلحتهم ويدعم موقفهم !!!!
ودعا للاستمرار في الاضراب عن العمل بجميع المرافق التابعة للصحة طرابلس وتكرار التظاهر امام وزارة المالية في الرابع من مارس حتى تلبية المطالب والاطاحة بالوزير (الشرقاوي) على حد تعبيره ..
في الرابع من مارس تجمع الموظفون في غياب تام لمنسق الحراك ومدير الادارة ، وبعد ساعات من الوقوف توجه حرس الرئاسي باتجاه "عبدالرزاق الصيد" الذي وصل متأخرا واصطحبه الى الداخل ليخرج بعد ساعة ويخبر الجميع ان مرتبات ديسمبر (التي لاتوضيح لوجه صرفها) ستكون مع مرتبي يناير وفبراير في المصارف خلال عشرة أيام طالبا من الجموع الاستمرار في اغلاق المرافق الصحية والاضراب عن العمل (رغم مايهدد المنطقة من أوبئة وكوارث)!
بهذا عاد الجمع أدراجهم وانتهت الحكاية دون محاسبة ولارقابة ولاشفافية ولامكافحة فساد ، وبدون إحالة الشخصيات المتورطة في الأمر للتحقيق لتوضيح أوجه الصرف ؛ بل إن منسقي الحراك حاولو التظاهر وايهام الناس بأن عليهم ضغوطات ، وقلّ حتى ظهورهم الاعلامي وتوقفوا عن الرد على الناس عبر وسائل التواصل ؛ أما مدير الادارة فقد نأى بنفسه عن الأنظار واعتزل الظهور وسط شائعات بأنه اختطف (أكدت مصادر خاصة لبوابة إفريقيا عدم صحتها) ، واكتفت صفحة الصحة طرابلس الرسمية وبإيعاز من مدير الشؤون الادارية والمالية (الصيد) بمنشور يدعو الى تعليق الاعتصام والعودة للعمل بعد يوم واحد من مطالبته للمتظاهرين بعدم الذهاب لاعمالهم واستمرار اغلاق مرافقهم ...!
رغم تكميم الأفواه.. ظهور جزء من الحقيقة
في هذا السياق أجرت بوابة إفريقيا الإخبارية عدة مقابلات واتصالات مع شخصيات تابعة للصحة والمالية وديوان المحاسبة أكدت جميعها أن التقصير الواضح والمتعمد من وزارة الصحة وإهمالها لمتابعة ومحاسبة ادارات المناطق التابعة لها هو ما زج بطرابلس في هذا المنعطف الخطير ؛ وأن تعمد مسؤولي الصحة الإبقاء على المنظومة الإدارية القديمة المتهالكة التي لم تنجح طيلة سبع سنوات أو يزيد في إنشاء قاعدة بيانات سليمة للصحة وتنظيم العمل الإداري وضربت عرض الحائط كل القوانين ولم تحترم الهيكلية وحوّلت الصحة إلى بؤرة فساد ، ومكان لتكدس العاملين دون جدوى ، بل وبيت مال للميليشيات! هذا التعمد هو ما أوصلنا الى مانحن فيه اليوم.
وأفاد أحد موظفي ديوان المحاسبة طلب عدم ذكر اسمه (أن وكيل وزارة الصحة الدكتور محمد هيثم والذي همّش الرئاسي وزير الصحة لصالحه هو ؛ مهتم فقط بالميزانيات وعطاءات الشركات والملحقيات ولكنه لم يحاول يوما وهو خريج القانون أن يحافظ على التراتبية الادارية أو يحترم الاختصاص أو يطالب بالاطلاع على التقارير السنوية لديوان المحاسبة والرقابة الادارية حول ادارات المناطق التابعة له وتجاوزاتها والخلل الواضح فيها اداريا ومالياً مما حول قطاع الصحة عموما إلى بيئة طاردة للكفاءات او محبطة لهم على أقل تقدير فلا قانون يُحترم غير قانون القوة والوساطات والولاءات .. ولا احد يقف في وجه الوكيل الذي يعتبر مدير مكتبه أعلى وأرفع من الوزير ! ولا أحد يحدّ من سيطرة الميليشيات على أهم قطاع إنساني وخدمي في البلاد!)
وتبقى طرابلس عاصمة ليبيا وأهم مدنها وأكبرها وأكثرها اكتظاظاً بالسكان تعاني الأمرّين من قطاع الصحة ، فلا صحة فيها غير (صحة الوجه) تلك التي حولت المقصرين والمسؤولين عن الفساد والمنتفعين منه إلى خطباء في ساحاتها يدعون لإغلاق المرافق الصحية ويخاطبون الجموع التي أزهقوا حقها مستغلين حاجتها ومطالبها المشروعة ، دون حسيب ولارقيب ...