البعض يلقّبها بـ”أم كلثوم التونسيّة”. وهي أيضا كانت تعشق سيّدة الغناء العربي، وفي بداية مسيرتها الفنيّة كانت تحب أن تردّد بصوتها الشجيّ أغنيتها الشهيرة “آفرح يا قلبي”.. آخرون يرون أنها شبيهة بالفرنسيّة بأديث بياف في رنّة صوتها، وفي حياتها المضطربة الموسومة بالأزمات، والمحن. ومثلها رحلت عن الدنيا قبل أن تكمل العقد الرابع من عمرها… تلك هي صليحة، الفنانة الكبيرة التي تحتفل تونس هذا العام 2014، بمرور 100عام على ميلادها، والتي لا تزال أغانيها خالدة في ذاكرة التونسيين والتونسيّات.

 

الحرمان والفقر

ولا تكاد تختلف حياة صليحة عن حياة فنّانات وهبن عمرهنّ للفنّ فلم يجنين حتى النهاية غير الغصص والعذابات. وقد ولدت عام 1914 في قرية جبليّة بائسة بمنطقة الكاف المتاخمة للحدود التونسيّة- الجزائرية. وكان والدها من أصل جزائري من سوق هراس وفد إلى تونس بحثا عن الرزق، وتزوج من تونسيّة أنجبت له ابنتين . وقد عاشت صليحة التي كانت تدعى صلوحة قبل أن تصبح فنانة طفولة قاسية.

ومع عائلتها تذوّقت مرارة الخصاصة والحرمان من أبسط حاجيات العيش. ولمّا عاين الأب أن الحياة في تلك القرية الجبليّة باتت صعبة وعسيرة للغاية، هاجر مرفوقا بعائلته إلى تونس العاصمة بحثا عن الرزق. وكان على الفتاة الصغيرة هزيلة الجسد، والتي هي صلوحة أن تعمل خادمة في بيوت المترفين ممضية النهار بطوله وهي تغسل، وتمسح أرضية الغرف الكثيرة الواسعة، وتطبخ ، وتعدّ القهوة لسيد البيت وسيّدته.

 

الخدمة في بيت الباي

وكان من حسن حظّها أن عملت خادمة وهي في سنّ العاشرة في بيت محمد باي، شقيق المنصف باي الذي تحدّى السلطات الاستعمارية الفرنسيّة في الأربعينات من القرن الماضي فنفته إلى مدينة “بو” حيث مات هناك في الأوّل من شهر سبتمبر عام 1948. وكان بيت محمد باي قبلة الأعيان من أحباء الموسيقى والفن، فيه تنتظم سهرات رائقة مرة في الأسبوع أو أكثر من ذلك.

وكانت بناته أميرات جميلات يحسنّ الغناء والعزف على الآلات الموسيقية، وترديد الموشحات الأندلسيّة. أما الخدم فقد كانوا يرددون الأغاني الشعبية في سهراتهم. ومن المؤكد أن صلّوحة تأثرت كثيرا بتلك الأجواء، وحفظت عن ظهر قلب العديد من الموشحات والأغاني.

وبصوت هامس كانت تردّدها أثناء عملها. وعندما تعود إلى بيتها تغنيها لأختها وأمها. وكانت أغاني أم كلثوم الأقرب إلى قلبها. لذا كانت تحسن تقليدها. وكانت أغنية “افرح يا قلبي” الأفضل بالنسبة إليها. لذا لم تكن تتعب من ترديدها في كلّ الأوقات آملة أن تنعم هي أيضا بالسعادة والهناء ذات يوم.

 

في نهج الباشا انطلاقة جديدة

وفي سنّ الثالثة عشرة انتقلت صلوحة للعمل في بيت بدرية وهي مطربة مشهورة في ذلك الوقت. وكان يؤمّ بيتها الكائن بـ”نهج الباشا” بقلب العاصمة محامون، وموسيقيّون وصحافيّون، وشيوخ مغرمون بالسهر مثل عبدالجواد بطل ثلاثيّة نجيب محفوظ. وكان الشيخ حسونة بن عمار المحامي العاشق للموشحات، ولأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب واحدا من المدمنين على حضور سهرات السيدة بدرية، المرأة ممتلئة الجسد، عارمة الصدر، واسعة العينين، والتي كانت قد اشتهرت في تونس في ذلك الوقت بأغنية “بالله يا احمد يا خويا..”.

وهي أغنية حزينة عن الاقتتال بين القبائل البدويّة. وصادف أن كان حسونة بن عمار مارّا ذات يوم أمام منزل بدرية فسمع صوتا بديعا يردّد الأغنية المذكورة. وفي الحين توقّف عن السير، وظلّ ينصت مدهوشا ظانّا أن صوت بدرية الأجش أضحى أكثر صفاء من ذي قبل. وفي السهرة التي انتظمت في نفس الأسبوع، طلب حسونة بن عمار من بدرية بإلحاح شديد أن تطرب مضيّفيها بأغنية “بالله يا أحمد يا خويا..” فلما غنّتها تبرّم من صوتها قائلا بأنها لم تحسن غناءها مثلما فعلت عندما كان مارّا أمام باب بيتها قبل أيّام قليلة.

وفي الحين أدركت المطربة التي كانت آنذاك في الخامسة والثلاثين من عمرها أن خادمتها صلوحة، ضّامرة الجسد، والتي يزيّن وجهها وشام أخضر هي التي فعلت ذلك في غيابها. وفي الحين اجتاحتها غيرة جنونيّة. وفي صبيحة اليوم التالي قامت بطرد خادمتها المراهقة خشية أن تفتكّ منها الحظوة التي كانت تتمتع بها لدى أحباء الموسيقى والفن. ونحن لا نعلم ماذا فعلت الأيّام بالفتاة صلوحة بعد طردها. لعلّها ظلت تتنقّل بين البيوت خادمة مطيعة. الشيء المؤكدّ أن حبّها للموسيقى ظلاّ ملتهبا لذا لم تكن تكفّ عن الغناء.

البحث عن صاحبة الصوت الساحر

أما الشيخ المحامي حسونة بن عمار فقد كلّف صديقه الصحفي علي الجندوبي الذي كان يعمل في المعهد الرشيدي للموسيقى بالبحث عن صاحبة الصوت الساحر التي اختفت من بيت بدرية. وشاءت الصدف أن التقت صلوحة بواحد من أهمّ المهتميّن بالفنّ في ذلك الوقت، ويدعى البشير فهمي الطرابلسي، وهو مواطن ليبي أقام سنوات طويلة في تونس، وتعرف على أسرارها وخفاياها، وارتبط بعلاقات وثيقة مع أهم شخصيّاتها الثقافية والفنيّة. وفيما بعد سيعود الى وطنه ليشغل منصب المدير الفني للإذاعة الليبيّة. كما عمل محرّرا في جريدة “طرابلس الغرب”. ومنذ البداية أظهر البشير فهمي إعجابا شديدا بصوت صلّوحة فقرّر الاعتناء بها، وصقل موهبتها الفنيّة والغنائيّة.

وكانت تونس في ذلك الوقت، أي في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، تعيش نهضة ثقافية مهّدت الطريق لظهور ثقافة حديثة على جميع المستويات. فقد كان الشابي يعمل على تحرير الشعر التونسي من البلاغة الركيكة، ومن القوالب الكلاسيكيّة الجامدة، مقتديا بجبران خليل جبران، وبشعراء المهجر، مطلقا أفكارا جديدة أثارت حفيظة الشيوخ المحافظين، والمتزمّتين في جامع الزيتونة. وكان الطاهر الحداد قد أصدر كتابه الشهير: “آمرأتنا في الشريعة والمجتمع” مطالبا فيه بضرورة تحرير المرأة التونسية من قيود ماض مقيت.

وقد أثار الكتاب غضب الأوساط المحافظة فطالبت بمنعه، وبمحاكمة صاحبه. وفي مقهى شعبيّ بحيّ “باب سويقة” يسمىّ “تحت السّور” كان هناك شبّان من أمثال علي الدوعاجي، ومحمد العريبي وآخرون يسعون إلى كتابة أدب جديد يعكس الواقع، ويعبّر عن روح مجتمع يطمح الى التحرّر، والتقدمّ. ولا بد أن كلّ هذه العوامل ساعدت الفتاة صلوحة على أن تجد لنفسها مكانا في الوسط الفني التونسي. وقد وفّر لها البشير فهمي فرصة الإشعاع في مهرجان افتتاح الإذاعة التونسيّة عام 1938.

فكانت نجمة المهرجان بلامنازع. وحالما انتهت من أداء أغانيها، وقف الجمهور ليصفّق لها طويلا. وقد سمح لها ذلك النجاح الهائل بالدخول الى المعهد الرشيدي للموسيقى بقرار من أعيان العاصمة من أمثال مصطفى صفر، رئيس البلديّة، وعثمان الكعاك مدير الإذاعة الوطنية، والمحامي الفنان حسونة بن عمار مكتشف موهبتها، ومحمد التريكي، والفنان الكبير خميس ترنان الذي سوف يلحن لها العديد من الأغاني التي سوف تشتهر بها في ما بعد.

الأمية التي تجيد الشعر الفصيح

وكان حسونة بن عمار هو من بادر بتغيير اسمها لتصبح صليحة. وقد ازدادت شهرتها، وهي الفتاة الأميّة، لمّا أجادت غناء قصائد من الشعر الفصيح مثل “هجر الحبيب” للشاعر مصطفى آغا، و”عذل العواذل والهوى وفؤادي” للشيخ الطاهر القصّار، و”عش حالما بالوصال” لجلال الدين النقاش، و”يا زهرة في خيالي” للسيد الخلصي. كما غنّت للشيخ العربي الكبّادي الذي كان من أشهر شيوخ جامع الزيتونة قصيدة باللهجة الدارجة عنوانها :”أم الحسن غنّات”.

وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت صليحة تتمتع بشهرة واسعة ليس في تونس فقط، بل في الجزائر والمغرب، وليبيا. غير أن تلك الشهرة كانت موسومة بالعذاب والمحن بسبب الفشل في العديد من العلاقات العاطفيّة. ولكي تنسى همومها، وأزماتها العاطفيّة المتتالية، لم تكن صليحة تقبل الصعود إلى الركح إلاّ بعد أن تكون قد تناولت نصيبها من الكحول القويّة. فإذا ما منعت من ذلك ذبل صوتها، وارتخى وفقد صفاءه، وعذوبته، وقدرته على التنقل البديع بين الطبقات. وبسبب إقبالها الجنوني على ملذّات الحياة التي لم تكن تشبع منها أبدا، كانت صليحة تلزم الفراش أياما وأسابيع.

وفي أواخر عام 1958، وكان قد مرّ عامان على حصول تونس على استقلالها، حرصت صليحة رغم المرض العضال الذي أصيبت به على المشاركة في حفل موسيقي مشترك بين تونس والمغرب. وفي ذلك الحفل البهيج غنّت “مريض فاني”، وهي واحدة من أجمل أغانيها. وبعد مرور أيّام قليلة على ذلك، وتحديدا في الخامس والعشرين من شهر نوفمبر من العام المذكور رحلت صليحة عن الدنيا. ويوم دفنها، سار في جنازتها حوالي 20 ألفا من المعجبين تتقدمهم شخصيّات كبيرة سياسية وثقافية.

 

*نقلا عن العرب اللندنية