من وراء القضبان ناداني صوت يقول: "أنا الابن الوحيد لأمي. وهي لا تعرف ما حلّ بي. أرجوك أخبرها أنني على قيد الحياة".
شاب نحيف يلبس قميصا بألوان قوس قزح، تقدم إلى الأمام بين زحام شديد، حيث يتكدس مهاجرون قرب بوابات حديدية ضخمة. اسمه بشور، في ربيعه الثالث والعشرين، مهاجر فر من سيراليون العام الماضي، عندما عصفت إيبولا بحيه الفقير في فريتاون.
كان من بين حوالي 500 مهاجر وصلوا إلى الساحل الليبي، حين حجزت قوات خفر السواحل الليبية القارب المطاطي الذي كان يقلهم في الثالث من مايو أثناء محاولتهم عبور المتوسط، ليتم إيداعهم أحد مراكز الاحتجاز في مصراتة. لقد تم حجز هاتفه وجواز سفره، وكان ذلك كل ما يملكه.
كالكثير من المحتجزين الآخرين في هذه المدرسة السابقة، التي وصل مرة عدد المهاجرين المحتجزين فيها ما يقرب من 1500 شخص، كان بشور قد أخبر عائلته في فريتاون أنه على وشك العبور، لكنه الآن يدرك تماما أن عدم تواصله معهم بعد احتجازه قد يسرب الخوف إلى نفوسهم. ناولته مفكرتي حيث دون رقما هاتفيا.
"سيدي، هل يمكنك مساعدتي، أنا رب أسرة!" ينادي مواطن غامبي، زوجته وأطفاله في انتظار خبر عبوره. "أرجوك اتصل بابنة أخي! اطلب منها أن تخبر زوجتي بأنني ما زلت على قيد الحياة!".
وكان لآخرين مطالب بسيطة. في جناح النساء، أصبحت شابة نيجيرية فقدت نظاراتها أثناء الرحلة لا ترى بوضوح ما يجري حولها في مركز الاحتجاز. امرأة أخرى في نفس الجناح أجهضت في اليوم السابق. "لا أستطيع حتى إخبار زوجي أننا فقدنا طفلنا"، تقول.
ويبقى احتمال الإفراج عن هؤلاء المهاجرين قريبا مسألة مستبعدة. فبموجب القانون الليبي، يمكن أن تتراوح مدة الاحتجاز بين شهر وثلاث سنوات، كونهم دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية. أما السلطات فليس لديها أية رغبة للإبقاء على احتجازهم، لكن عليها أن تتوصل إلى طريقة لترحيل أولئك القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء.
لا يوجد هناك مكان للإيثار عندما يتعلق الأمر بالصحفيين والحروب والأزمات الإنسانية. لا يمكنك مساعدة الجميع. تعلمت ذلك في جنوب إثيوبيا خلال سنوات المجاعة، قبل 15 سنة خلت.
في إحدى الليالي، في قلب الصحراء القاحلة، جلست آكل المعكرونة مع مجموعة من عمال الإغاثة المحليين داخل خيمة مكشوفة وسط أحد مراكز توزيع المواد الغذائية. وكانت أضواء العاصفة تنير المكان وكأننا على خشبة مسرح، كنا نأكل وفي الخارج آلاف المحتجزين الجائعين يحدقون فينا، على مسافة قريبة، حتى أنني كنت أرى أعينهم تلمع.
"حاول ألا تفكر في ذلك،" همس لي أحد العمال المساعدين. "ومهما يكن لا تهنهم بترك الأكل وراءك."
كل بضع دقائق تسمع في الظلام زغاريد الحزن إثر موت طفل من الجوع. كنت أصارع للتفكير في وجبة أكثر بؤسا.
لا زلت أتذكر، أيضا، ما قالته مراسلة فرنسية متمرسة، عندما استنكرت ادعاءات مجموعة من المراسلين عادوا من ويلات المجاعة على إحدى طائرات الإغاثة. لقد أصيبوا بالذهول مما شاهدوه في إفريقيا، حيث اعترفوا أنهم أصبحوا يدركون يقينا قيمة وفرة المياه ومحلات السوبرماركت في بلدانهم.
"هراء!" تقول مقاطعةً: "سأسلم بذلك عند عودتي. وسأترك الصنبور مفتوحا والأكل في الصحن ولن أهتم لهما. ستفعلون نفس الشيء بعد أسبوع فقط من الآن".
إنها محقة. فنحن لا نعترف بقيمة الرغد الذي نعيش فيه في هذا العالم العشوائي، حيث يزداد الثخينسمنة وآخرون يتضورون جوعا.
حل الليل بمصراتة وكنت قد نفذت ما طُلب مني واتصلت بالأرقام التي دونتها في مفكرتي. وكان مرافقي أيمن قد تمكن من تدبر نظارات للشابة النيجيرية. لن أنسى ما حييت تقاسيم الفرحة التي بدت على محياها عندما وضعت النظارات وتمكنت من رؤية المكان حولها بوضوح.
كما لن أنسى فرحة الشابة الغامبية التي هاتفتها وطلبت منها أن تخبر خالتها أن عمها لم يغرق وأنه ما زال حيا، وتنهيدة الارتياح التي أطلقتها تلك الأم في فريتاون عندما اتصلت بها وأخبرتها بأن ابنها حي يرزق.
لكن الحقيقة هي أنني أنسى فعلا. أصبحت الذكريات تفقد معناها وجاذبيتها. وأنا الآن قلق بشأن أمور أخرى، مثل تكلفة عشاء ليلة الجمعة، وهل سنتمكن من تحمل مصاريف عطلة العائلة هذا الصيف، وكيف سندبر بناء مطبخ جديد. أشياء صغيرة. إنها اهتمامات 'البيض'.