فى أزمنة التحولات الكبرى تتلفت المجتمعات لتطرح على نفسها السؤال: من نحن؟.والدكتور المنصف وناس عالم الاجتماع الثقافى التونسى اشتهر باسهاماته الفكرية والعلمية فى الإجابة على سؤال الهوية ليس فى تونس وحدها بل فى المغرب العربى بأسره.
ومنذ أسابيع صدر له فى تونس كتاب " الشخصية الليبية : ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة". وكانت كتبه "الشخصية التونسية :محاولة فى فهم الشخصية العربية" والدولة والمسألة الثقافية فى المغرب العربى"و"الخطاب العربي" وغيرها الصادرة من بيروت وتونس والدار البيضاء قد اثارت اهتماما لافتا. وفى هذا الحوار مع "الأهرام" طرحنا على وناس أسئلة فى الثقافة ليست بعيدة بأى حال عن لحظة التحولات التى تعيشها تونس والعالم العربى .
> كيف تستطيع أن تعرِف التونسيين ؟
ـ من الصعب أن نعرِف التونسيين .لكن استطيع القول انهم محصلة تراكمات تاريخية وحضارية وثقافية واقتصادية تمتد الى أكثر من ثلاثة آلاف سنة . فلا نرجع التونسيين الى فترة الاستقلال فقط أو الى الإحتلال الاحتلال الفرنسى فقط. بل الى مراحل ضاربة فى التاريخ والقدم . الى العهد القرطاجنى ( تقريبا ألف سنة قبل الميلاد) والرومانى و والواندالى ( البيزنطي) والعربى الإسلامي. هى عقود طويلة إذن ساهمت فى تشكيل الشخصية القاعدية للتونسى ( أى السمات المشتركة بين سكان مجال جغرافى معين وواحد). ولهذا فتعريف التونسيين يقتضى أولا الاعتراف بهذا العمق التاريخى المتنوع و المتعدد و المتناقض فى الوقت نفسه . لكن هذا العمق على تنوعه انصهر فى مصهر واحد . هو مصهر عربى إسلامى وتونسي. لذا فنحن نعرف التونسيين أيضا بهذا التجانس الدينى والثقافى ( الإثني) وبغياب عرقيات وطوائف متناقضة .كما يتميز التونسى بمجموعة من الصفات من أبرزها المرونة والقدرة على الاندماج وتجنب المغالاة والميل الى الاعتدال فى البنية النفسية ، وكذا السلوكية. وهذه الخصائص تعود الى أن تونس مجتمع سهلى (من السهول) بالأساس ولا يتميز بتضاريس متناقضة أو مساحات جبلية كبرى مثل الجزائر والمغرب أو وجود صحراء شاسعة مثل ليبيا ومالي.

> هل يعانى التونسى من صراع بين انتماءاته العربية الإسلامية والمتوسطية الأوروبية ؟

ـ نحن لسنا شعبين . هذه مبالغة تفتقر الى الدقة . فلاشك ان التونسيين هضموا تماما التراث القديم ممثلا فى الرومان وبيزنطة والواندال واستقروا فى النهاية الى مرجعية وطنية عربية إسلامية .وهى مرجعية لا تكاد تناقش أو يتم تعريفها . وثمة استقرار من الناحية المرجعية الحضارية . لكننى ألاحظ الى جانب هذا بعض الصعوبات التى طرأت . واختزلها فى صعوبتين كبيرتين : الأولى هى عدم القدرة على صياغة حداثة تونسية خاصة بمجتمعنا . حداثة قادرة على ان تعطيه استقرارا الى حد الآن .فعلى الرغم من الخيارات التحديثية وعمق التجربة الاصلاحية المنفتحة على الغرب والتأثر الواضح بالمنوال ( النموذج) الأوروبى .لكن يصعب الحديث عن حداثة تونسية مشتقة من خصائص الواقع التونسى ومعبرة عن انتظاراته و توقعاته . فمازلنا ازاء حالة من استلهام الحداثة الأوروبية أكثر من انتاج الحداثة المحلية المحض. أما الصعوبة الثانية فتتمثل فى عدم القدرة على قبول الإسلام السياسى كشريك فى الديموقراطية وادماجه فى التحولات الراهنة التى يعيشها المجتمع التونسى .وبالتالى عدم القدرة على خلق حالة تلائمية بين الإسلام السياسى والديموقراطية .فمازالت هناك جمعيات واحزاب بل ومجتمع مدنى يدعو الى الاقصاء والاستئصال . وهذا أمر يشكل فى المستقبل خطورة على استقرار تونس وعلى فرص نجاح تجربتها الديموقراطية . ولاشك ان هناك حاجة الى توافق بين الحداثة والإسلام من جهة. وكذا بين الإسلام السياسى والديموقراطية الناشئة من جهة أخرى.

> هل ترى أنقساما ثقافيا بين إسلاميين وعلمانيين ؟

ـ نعم هناك . وتوجد مجموعات داخل الجانبين لاتحبذ الحوار ولا تعتبره ضرورة مجتمعية ولا تعتبر نفسها معنية بالتوافق. فى حين ان الديموقراطية فى جوهرها حالة فكرية وسياسية توافقية بالأساس.

> وهل هناك بحق نخبة فرانكفونية مهيمنة على الثقافة فى تونس ؟

دعنا نحدد فى البداية الظاهرة الفرانكفونية بشكل نسبي. فهى ليست شرا محضا ولا خيرا محضا على اطلاقها . وبمعنى انه يمكن ان نجعل من الثقافة الفرانكفونية على ثرائها وعمقها وتنوعها رافدا للثقافة العربية ،تدعمها وتحاورها وتوفر لها فرص التعارف والتبادل الثقافى البينى ( المتبادل). لكن المشكلة تكمن فيما يمكن تسميته بالانغلاقية الثقافية . ولاشك ان هناك شريحة داخل النخبة الفرانكفونية فى تونس ترفض أى حوار مع الثقافة العربية وتنظر اليها بنوع من الدونية . ولكن ثمة وسط النخبة التونسية المتعربة من يقصى الفرنسية ويعتبرها احتلالا و إمبريالية ثقافية . وبالتالى يرفض اى تواصل مكتفيا بثقافته . فى حين ان القرن الحادى والعشرين لم يعد يحتمل اطلاقا هذه الاحادية الثقافية واللغوية . وهناك الآن فى تونس حاجة ماسة الى بناء جسور التواصل دون استنقاص الثقافتين لبعضهما البعض ودون هيمنة للواحدة على الأخرى . أى نحن فى حاجة الى تفاعلية ثقافية بينية وايجابية .

> وهل ترى ان تونس مهيأة للعب دور على الصعيد العربى بشأن هذا التفاعل الثقافي؟

ـ أعتقد ان تونس بل والمغرب العربى بأسره مهيئان ان يلعبا دورا فى هذا المجال الثقافى المشترك وان يخلقا ارضية للتفاعل الثقافى الإيجابي. فهما يتوافران على نخبة ثقافية مزدوجة التكوين اللغوى تكتب باللغتين العربية والفرنسية معا ، وتجيد الحوار الفكرى مع النخب الأخرى . وهذا رأس مال ثقافى ولغوى مهم فى مرحلة العولمة . لأنه لم يعد مقبولا فى تقديرنا الاكتفاء بالذات الثقافية . ولم يعد مقبولا كذلك اقصاء الآخر الثقافى والترفع عليه وعدم القبول بالحوار معه .

> أى مستقبل للزيتونة كمدرسة للتجديد الدينى وبخاصة منذ القرن التاسع عشر .. وهل هناك مؤشرات على استعادة هذا الدور الآن ؟

ـ هناك قراءتان فى تونس إزاء تجربة الجامعة الزيتونية . تقول الأولى وهى قريبة من الدوائر الرسمية بان الزيتونة انتهى دورها ولم يعد لها ما تضيف على مستوى الاجتهاد . ولذا يتوجب الغاؤها . وبالتالى استبدالها بهيكل عصرى اسمى " كلية الشريعة" . وهذا تسبب فى صدمة كبيرة للزيتونيين وجعلهم ينكمشون على انفسهم وينقطعون عن الاجتهاد بل الانتاج الفكرى من الأصل. وهذا ما جرى بالفعل فى عقد الستينيات وبعدما الغى بورقيبة المؤسسة التعليمية فى الزيتونة وأبقى فقط على التعبد (المسجد) . ولذا لم نشهد منذئذ قامات علمية دينية فى وزن محمد الطاهر عاشور و محمد الفاضل عاشور و محمد الصالح النيفر. وجاء عهد بن على ( 23 عاما ) فعمد الى محاصرة الزيتونة ومراقبتها سياسيا وأمنيا واختراقها من الداخل . الأمر الذى لم يسمح ببروز اى كتابات تجديدية طوال عهده . ولم نر كتابا دينيا وحدا ذا بال . وهاجر العلماء وبخاصة الى السعودية أو أضطروا الى الصمت .

أما القراءة الثانية فتقول أنه يجب ان ننتظر المزيد من الوقت كى تبرز نخبة زيتونية جديدة تساهم فى تجديد الفكر الإسلامى وتأصيل مقاصده استنادا الى الاجتهاد. وهذا بعدما عادت تسمية " الجامعة الزيتونية ".لكن يتحدى هذه القراءة خطر الفكر الوهابى القادم مع العلماء العائدين من السعودية .

> مالذى جرى للتونسيين على المستوى الثقافى بعد ثورة 14 يناير 2011.. وماهى مستجدات الساحة الثقافية هنا؟

ـ اظن ان هناك ثلاثة ظواهر مهمة بعد الثورة . أولها ان سياسة الدولة الثقافية ليست قادرة على مواكبة المرحلة الجديدة . وحيث لم نلمس لاتطورا فى هياكل التسيير الثقافى مستوعبة لمقتضيات المرحلة .وهى بالاساس مقتضيات ثقافية . ولقد جاء ثلاثة من وزراء الثقافة بعد الثورة. لكن لم نلمس فى عهد أى منهم خطابا او سياسات قادرة على التفاعل مع المرحلة . و ثانيا هو أن المبدع والمثقف أصيب بنوع من الصدمة إزاء سرعة التحولات الجارية. بالقطع هناك محاولات لانتاج نصوص فكرية أو أدبية تحلل المرحلة . لكن الإبداع يتطلب وقتا أطول كى يستوعب المتغيرات والظروف ويواكبها بنصوص متميزة . ولعل فى هذا مايفسر أننا لم نقرأ ولم نشاهد بعد نصوصا استثنائية تعبر عن مرحلة هى بحق استثنائية . ويمكننى القول ان القراءات العميقة مازالت غائبة .فالنصوص تتصف عامة بالسرعة بل والسطحية . وإن كنا نلاحظ هنا ان الانتاج باللغة الفرنسية على مدى السنوات الأربع الماضية أكثر عمقا مما هو عليه الحال باللغة العربية . وتفسير هذا ان جزءا كبيرا من الانتاج الثقافى التونسى باللغة الفرنسية صدر من فرنسا . وهناك تقتضى شروط النشر وفرصه صرامة وعمقا ومتانة أكثر . وأنا على سبيل المثال نشرت كتابى الأخير عن الانتفاضة فى ليبيا فى فرنسا وباللغة الفرنسية ( بعنوان "الانتفاضة واعادة البناء فى ليبيا ".

> ولماذا لا ينشر هنا فى تونس وباللغة العربية أيضا ؟

ـ خشيت من ردود الفعل . فى السابق كان لدينا مشكلة مع النظام السابق فى ليبيا . والآن لدينا الجماعات التكفيرية التى لاتسمح بأى خلاف فكري. حقا خشيت نشره هنا فى تونس .

> هذا ينقلنا الى الخلفيات الثقافية للمشهد السياسى الدامى فى ليبيا الآن..وأنتم لكم كتاباتكم عن الشخصية الليبية ،كيف تطل على هذا المشهد؟

ـ من المعطيات التاريخية الثابتة فى ليبيا ان القبيلة موجودة بقوة فى هذا المجتمع منذ الهيمنة العثمانية الأولى أى منذ عام 1711. وهذا الأمر استمر الى الآن. صحيح ان النظام الملكى حرص على ادماج القبائل .لكن عمره كان قصيرا جدا ولم يتجاوز 17 عاما . وعادت سطوة القبيلة بقوة بعد عام 1969 حيث لجأ العسكريون للاستعانة بها والى عقد الصفقات مع القبائل لمنع تشكل المعارضات . لكن مع اندلاع الانتفاضة ضد النظام السابق كانت القبيلة حاضرة بقوة وأعطت دعمها فى اطار شعور بالإحباط. وإزداد نفوذ القبائل بعد عام 2012 لأن الميلشيات المتناحرة هى بالأساس تعبر عن قبائلها وتستند اليها فى توفير المقاتلين والسلاح والمال والحماية الجغرافية .صحيح ان الصراع فى جوهره العميق يجرى بين إسلاميين اخوان أو سلفيين من جانب وبين ليبراليين من جانب آخر .وصحيح ان للصراع ابعاده الاقليمية ولا يمكن حله الا باتفاقات وتسويات بين دول. لكن تظل ادوات هذه الحرب الأهلية هى القبلية بإمتياز. وشخصيا أنا أرى ان هذا الصراع سيمتد لسنوات طويلة إذا لم تتوافق على حل سياسى تلك القوى الاقليمية التى تستخدم القبائل كأدوات أو كأيد عاملة فى ميادين القتال.

عن « الأهرام » المصرية