تقديم عبدالمالك ورد (أستاذ علم الاجتماع بجامعة مولاي إسماعيل – مكناس): ونحن نعيش جائحة كوفيد-19، الجائحة الكونية التي سوّت بين المجتمعات والدول حين لم تستثنِ أحداً، تيمناً بمبدإ "المعاملة بالمثل" واستهجاناً بكل النزعات التفضيلية والتمييزية المهيكلة لقاموس العولمة الرأسمالية، كان على الإنسانية أن تكون رقيباً على مجمل ما واكبها من سجالات سواء تعلق الأمر بمصدر الوباء أو بوصفات مواجهته.
لقد عشنا تضخماً في القول وتناسلاً في المعطيات، دون أن يستطيع أحد منحنا مفاتيح فهم ما يجري. لم يعجز في ذلك الفاعل الاعلامي لوحده، بل رافق الفشل أيضاً منظمة الصحة العالمية المعنية الأولى بالموضوع. كما لم تسلم المنشورات العلمية حول الجائحة في المجلات المسماة محكمة من تشكيك ومضاربة من قبل المتخصصين أنفسهم. وهو الوضع الذي أعاد إلى الواجهة وبقوة سؤال: ما العلم؟ وهل مازال من الممكن اعتبار الباحث هو ذاك الساحر الطيب الذي ينفذ بنباهته إلى عمق ما يحدث، وإلى خير ما يقال ويكتب فيحفظ ويوظف منه الأفضل؟ وهل روحه محصنة على الدوام ضد كل الترسبات والهواجس "اللاعلمية" التي قد تتسرب إليها لينتصب فيصلاً عادلاً في ترسيخ دعائم القول الحق الذي لا ينزاح عن سواء سبيل الحقيقة؟ بكلمة واحدة، أليس العلم شأناً سياسياً إن على نحو صريح أو ضمني؟
يبدو أن ما يضفي طابع الفرادة على نص الباحث خالد شهبار، هو نجاحه في التفكير في السياسة دون التفكير سياسياً -بعبارة بيير بورديو- حيث استطاع الانفلات من أفخاخ النزعة العلموية الصلبة والجامدة، لكن دون السقوط في شرك وحبال النزعة السياسوية الفجة. فتوفق، بذلك، في تمعن واقع الخيبات الذي أصاب العالم بالصمم منذ العهد الذي أصبح فيه السوق موضع المحرك الذي لا يتحرك، وخماسية الاقتصاد الرقمي الأمريكية "كافام"(GAFAM) -كوكل، وآبل، وفايسبوك، وأمازون ومايكروسوفت- تتحكم في الاقتصاد العالمي؛ وهو ما جعل العالم يضيق بالفكر كفكر.
من الواضح، أن هذا الكتاب، الذي نجح لامحالة في التصدي لأهم أبعاد هذه الجائحة التي باغتت البشرية، يتخذ شكل المرافعة النقدية من أجل إطلاق العنان لحرية السؤال والتساؤل التي لا يستسيغها من يتحكم في رقاب البشر والحجر، وجعلها أولوية الأولويات، دون الزج بالفكر، باسم حرية مجردة، في مغامرة مفتوحة على القول المغرض وغير الموزون، بل والمتهافت.
إن النص الأنيق والعميق، أسلوباً ومضموناً، الذي بين أيدينا هنا هو أيضاً مرافعة علمية ضد تجزيئ المعرفة العلمية، حيث نلاحظ أن الباحث يوظف أدوات تحليل العديد من التخصصات في متنه هذا، مثل الفلسفة السياسية، والتاريخ، وعلم السياسة، والاقتصاد والسوسيولوجيا، بل والأدب أيضاً. فهو نص يستظل بكل أغصان شجرة المعرفة الوارفة، في تتبعه الدقيق لنبض الواقع ولحيويته، لكن بمرجعية واضحة ومكشوفة لا تخفي اصطفافاتها النظرية أو قناعاتها الإيديولوجية والسياسية. فغزارة المعطيات التي يحملها هذا النص بين ثناياه تظل محكومة بشبكة للقراءة، من أهم مفاهيمها: الصراع الاجتماعي، والتراتبات الاجتماعية، والهيمنة الطبقية والعدالة الاجتماعية والمجالية. وهي مفاهيم لاشك أنها مازالت تتمتع بالملاءمة في قراءة الواقع المحلي والدولي، رغم ما تواجهه من منافسة جراء الاستعمال المفرط لمفاهيم جديدة مستمدة من تقليعات الموضة الفكرية الجديدة مثل، التمكين الذاتي، وتقوية القدرات والتنمية الذاتية، إلخ.
يسافر الباحث بنا، من خلال هذا الكتاب، إلى عوالم يتداخل فيها التاريخ بالاقتصاد، والسياسة بالاجتماع، ملتقطاً، بلغة عالمة، كل ما يبدو مجرد بدخ لغوي، وترف فكري وتفاصيل عديمة الجدوى. فهو لا يُقبل على شرح غوامض وحوالك الموضوع-الظاهرة إلا اقتراناً بعنفوان وجمالية اللغة وسمو العبارة، منتبها ومنبّها، في الآن ذاته، إلى أنه لا يمكن للفكر أن يستقيم إذا لم تستقم لغته. كيف لا وهو الذي يستحضر وجوها شعرية وأدبية بارزة إن لم أقل استثنائية في مجالها مثل: أبو العلاء المعري، وأمل دنقل ومحمود درويش، إلخ.
إن العلوم الاجتماعية وهي تدرس البنيات الاجتماعية وتكشف مختلف أشكال الهيمنة، إنما تقوم بذلك، كما بيّن ذلك عالم الاجتماع الفرنسي بيرنار لاهير(Bernard Lahire) ، للقطع مع فلسفة المسؤولية القديمة التي غالباً ما كانت تضفي الشرعية على من ينتصر في المنافسة الاجتماعية، وتعمل على إعادة إنتاج بعض الأساطير الشائعة التي تساهم في إعادة انتاج سيطرته، مثل أسطورة "العصامية"، و"الاستحقاق" و"العبقرية الفردية". وهي بهذا، تُنَفْسِن كل المشاكل الاجتماعية بعد تجريدها من الشروط السياسية والتاريخية التي صنعتها، ليصبح الفقير مسؤولاً عن فقره والمهمش عن تهميشه.
لقد شكلت، جائحة كوفيد-19، عموماً، إعلانا صريحاً على أن الإنسانية تتقدم بخطى واثقة نحو نهايتها غير السعيدة حتى وإن لم يكف أنبياء المؤسسات المالية الدولية عن لوك مجد موهوم في محاولة منهم لإخفاء رعونة معممة وقساوة عمياء أنتجتها مذهبيتهم المقيتة وأفرزها إسفافهم الإيديولوجي؛ وهو ما يبدو طبيعيا اذا استحضرنا أن الحكمة، كما يقول المفكر الفرنسي الإنسانوي فرانسوا رابلي Rabelais) (François المتوفي سنة 1553، لا يمكن أن تلج روحا شريرة. لكن، ورغم ذلك مازال هناك من يعتقد أن عالم ما بعد كوفيد سيكون أفضل بدون منازع، فيسجن، بذلك، ذاته داخل دائرة وجود مأمول ومرغوب، في منأى عن حرارة الواقع الفعلي الملموس.
لذلك، يذكرنا مؤلف الكتاب، وهو يدافع بشراسة، عبر قوة البرهان وصفاء العبارة، عن أطروحة استمرارية مرحلة ما قبل كوفيد-19، بما تقتضيه هذه اللحظة التاريخية من صفاء ذهني وحس نقدي والتزام اجتماعي، من توابله الأساسية الجرأة والصدق في الإنصات لهول فواجع الفجوات الاجتماعية المتنامية ولآهات جحافل المستبعدين التي لا تتوقف عن التزايد على نحو صارخ، دون مزاجية أو انفعالية. لذلك، فهو لا يخوض في تعقيدات الاستفهامات، صعودا نحو مدارج التشخيص والتحليل، إلا بروية وتفكر، فيربأ بنفسه عن الدعاية الفجة أو التنديد السياسي السياسوي. فبروح المثقف النقدي، يستدعي ويسائل دروس التاريخ لقراءة وتأويل معطيات الحاضر دون مواربة أو مداهنة. وهو بهذا الاختيار المنهجي يذكرنا بحقيقة كون الفكر لا يتأتى من دون تجلد ومن غير ملازمة مخابره إذا ما ابتغينا سبر أسراره وتفكيك رموزه جاعلين بذلك ناصية القول بارزة تواجه ما تريد طمسه تلك المؤتمرات واللقاءات المنعقدة تحت طلب الرأسمال العالمي، حيث تتخذ الحقيقة اللون الذي يبتغيه منها. أليس الأمر من صميم معارك الفكر الاستعجالية التي تستهدف نزع الحجاب عن الصائب من القول؟
في المحصلة، إذا كانت الجائحة قد وضعتنا وجها لوجه أمام صراع القوى وتأرجح واضح بين مفهومات مختلفة لما نسميه "علم"، من جانب، وإذا كان لا بد من إيجاد التسويغات اللازمة لما يتضمنه الكتاب من سجال من جانب آخر؛ إذ ليس هناك من علم، بالمعنى الدقيق للكلمة، حسب كانط دون إخضاعه إلى نوع من الرياضيات، أي بما يجعل التفكير قائما على الاستنباط والتجربة في حال علوم الإنسان، فسيكون علينا استحضار بعض خلاصات سوسيولوجيا العلم وكيفية اشتغال عالم البحث ذاته. فقد صار من العسير الاستمرار في الاطمئنان إلى الرأي الإبستمولوجي المنافح عن عقلانية العلم وحياديته، ومن ثمة القول بوحدته وكونيته التي تتموقع فوق السياقات والوضعيات. ألم يدعونا دافيد بلور(David Bloor) إلى النظر إلى ما ينتجه العلم باعتباره صناعة تقنية ظرفية؛ مؤكداً على اصطناعية الوقائع التي يدرسها العلم، أي أن الوقائع تخضع لموضعة الباحثين ذواتهم، وهي بذلك منتوج لهم بكل ما يرمزون له من سلطة علمية. من جهته، يرى برونو لاتور (Bruno Latour) وجل علماء اجتماع العلم بأن الوقائع الاجتماعية تصنع في المختبرات، إذ أن صياغة هذه الوقائع لا تتحقق عبر حوار بين العلم والطبيعة، بل عبر حوار وتفاوض بين الباحثين حول مردودها المعرفي والاجتماعي. فصناعة الوقائع تتم ضمن منطق القوة الهادف إلى تحقيق امتيازات وزيادة الرأسمال الرمزي.
بتركيز، إذا كان لنا أن نعتبر بأن الدرس الأساس لجائحة كوفيد-19 هو درس القيم، فلا يسعنا سوى أن نردد مع فرونسوا رابلي، بأن "العلم من دون ضمير ما هو سوى هلاك للروح". وهو ما اعتبره البعض انعكاسية مبكرة تقف أمام ما قد يتهدد العلم من فظاظة وجموح. فأن يتخفى العلم وراء وصفة محض تقنية أو رياضية غير عابئ بأهمية قيمة القيم في مختلف مناحي حياة البشرية فذاك يعني أن مخرجاته ستكون عليلة منزوعة القدرة على التغيير الإيجابي. أفلا ينشأ القول السديد، حسب مشيل فوكو، سوى من التأملات، تأملات الذات حول الذات؟
لسوف يجد القارئ، بكل تأكيد، في هذا الكتاب عمق التحليل موصولا بمتعة القراءة؛ ولسوف ينظر إلى نفسه فيهتدي ويمسك بالمنهاج الذي يقوده توا إلى فهم ما يجري. إنه بمثابة مصباح ينير بواطن الأمور، بعيداً عن الضحالة الفكرية وفذلكات وضجيج متزلفي وعبيد الوصلات الإعلانية والإعلامية. لذلك، لن نبالغ إذا قلنا أنه كتاب يمنح الإحساس بهبوب ريح منعشة جديدة، تعبر بقوة عمّا يعنيه معنى الكتابة المسلحة بالنفس النقدي العميق، الذي ينجح في الابتعاد عن كل لغة أخلاقوية أو تنديد سياسي مجاني تعوزه الحجة ولا يرنو إلى أفق واضح المعالم.