ذاكرة الوطن، الدكتور عبد الله مليطان، كرس حياته لتوثيق الحركة الثقافية في ليبيا، حاصل على دكتوراه فلسفة (حضارة) من الأكاديمية الليبية ـ طرابلس 2005م، ويعد حاليا للحصول على الدكتوراه الثانية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالمغرب (تخصص أدب حديث)، قام بتأليف 35 كتاب كما شارك في تأليف أربعة كتب، وتولى رئاسة تحرير صحف الفتح الثقافي، المشهد، وطني، ومجلة الجليس، وترأس الهيئة الليبية العامة للكتاب ومجلس إدارة شركة أبعاد للخدمات الإعلامية كما تولى إعداد وتقديم 21 برنامج إذاعي وتلفزيوني شارك في العديد من الندوات والمهرجانات والملتقيات المحلية والعربية كما قدم بحوث في أكثر من عشر ندوات ومؤتمرات علمية .. بوابة إفريقيا الإخبارية التقت الدكتور عبد الله مليطان للحديث عن توثيقه للحركة الثقافية في ليبيا ورؤيته للمشهد الحالي.
إلى نص الحوار:
دكتور عبد الله.. قلت إن الكتابة متعة لا يتلذذ بها إلا من يمارسها بعشق حقيقي.. حدثنا عن علاقة العشق التي تربطك بالكتابة؟
الكتابة عشق وأي خيار تختاره في حياتك ما لم تعشقه لن تفلح فيه لكن العشق ما لم يقترن بمشروع حقيقي لن يكون مجد ..أنا صاحب مشروع ...صحيح هو مشروع متواضع لكنني أزعم أنني مخلص لمشروعي الذي أرى أنه قد يسهم في خدمة وطني..كل الذي قمت به سابقا وما أقوم به الآن وما انوي القيام به مسخر لخدمة تراث وطني الذي يستحق في ظل عدم وجود مؤسسة تضطلع بمثل هذه المشاريع التي من شأنها المحافظة على تراث الوطن والتي تدعم وتعزز من الهوية الوطنية ، أول مقال نشرته في حياتي كان في صحيفة (الطالب) عام 1981م بعنوان (هل حضارة أمريكا وأوروبا أعظم من حضارتنا؟) والتي كان رئيس تحريرها حينها الطالب عبدالسلام عمارة (الدكتور حالياً) بجامعة طرابلس وأول كتاب نشرته عام 1990م بعنوان (المثقف العربي والتحديات) وأول برنامج إذاعي أعددته عام 1985م بعنوان (تأملات في روح الإسلام) ...هي علاقة عشق قديمة تمتد إلى أربعين عاماً لازلت رغم كل هذا الوقت أتعلم ... ولم اجرؤ على تقديم نفسي خبيراً ولا مستشاراً اعلامياً في حين تطاول الكثيرون وادعاء الخبرة ولله الحمد ..أموت ولازلت أتعلم
إلى أي مدى يمكن للكاتب والمثقف أن يكون مرآة تعكس هموم وطنه؟
ما لم يسخر الكاتب إمكاناته وقدراته وإبداعه لهموم وطنه فلا معنى لعمله فالمبدع شاعرا أو قاصا أو روائيا أو رساما أو أو ...ما لم تكن موهبته مكرسة وموظفة لمعالجة هموم وطنه وقضايا شعبه لا معنى ولا قيمة لما يقدم ... أنا أقيس قيمة الكاتب والفنان بقدر أهمية وقيمة ما أنجز لوطنه .. وليس هذا معناه أن الكتابة لا بد أن تكون منصرفة مباشرة للحديث عن ليبيا أرضاً أو تاريخاً، بل ولا بد من أن يكون الابداع أيضاً بشعره ونثره معالجاً لقضايا الوطن ومرآة عاكسة لمعاناة مواطنيه
صدر لكم حتى الآن حوالي 40 كتاب.. ما أقربهم إليكم ولماذا؟
كلها قريبة من نفسي لكن الأهم فيها علمياً هي الكتب البحثية على نحو رسالة الماجستير التي صدرت في كتاب (التفكير الأسطوري في الإسرائيليات) في إطار الكشف عن تغلغل الثقافة اليهودية في التراث الثقافي العربي في مجالات التفسير والتاريخ وطرح سبل مواجهتها واطروحة الدكتوراه التي نشرت عن دار مذبولي بالقاهرة تحت عنوان (الحقيقة السبئية وعمق صلتها بالفكر الشيعي) التي حاولت من خلالها مواجهة الدخيل على الفكر الإسلامي من قبل دعاة الانحياز لآل البيت .
تركز اهتمامكم على إبراز الكتاب والأدباء الليبيين حيث صدر لكم معجم الأدباء والكتاب الليبيين المعاصرين ومعجم الشعراء الليبيين في 3 أجزاء ومعجم القصاصين الليبيين في 3 أجزاء ومدونة المسرح الليبي في 3 أجزاء ومعجم الأدب الشعبي في ليبيا ومعجم الكاتبات والأديبات الليبيات.. لماذا التركيز على هذا الجانب تحديدا؟
هذه الأعمال هي ذاكرة الوطن ...وفي ظل غياب المؤسسة المعنية بالتوثيق ورصد وتتبع المنجز الليبي في مجال الكتاب والتعريف بالكتاب كان لزاماً علي أن أقوم بهذا المنجز الوطني الذي حاولت من خلاله أن أسهم في خدمة وطني ، هناك محاولة سابقة قامت بها دار الكتب وهي مهمة للغاية لكنها لم تستكمل حيث أصدرت دار الكتب من خلال فريق من الباحثين بإشراف الأستاذ الطاهر الشويهدي (دليل المؤلفين العرب الليبيين) متضمناً المؤلفين الليبيين منذ الفتح الإسلامي لليبيا وحتى عام 1976م وحاولت بعد ذلك أن تنجز عملا مماثلاً له أسمته (المؤلفون الليبيون) بفريق مكون من عدد من الباحثين لكنه لم يكن مرتبطاً بما سبق إصداره ولم ينهج ذات المنهج كما لم يكن جامعاً لكل المؤلفين لأن الفريق البحثي لم يتواصل مع المؤلفين بشكل مباشر بل اعتمد على ما وصله من المؤلفين فكانت الاستجابة قليلة جدا من المستهدفين .. مثل هذه الأعمال تتطلب التواصل المباشر مع المؤلفين وهو ما قمت به شخصيا في مشروعي (معجم المؤلفين الليبيين) اتواصل مع كل مؤلف بنفسي ولعدة مرات حتى أحصل منه على المعلومات التي اريد ...أكثر من ثلاثة آلاف مؤلف ليبي تواصلت معهم بشكل مباشر لأن العمل يتطلب ذلك ولا يمكن أن ينجز عمل كهذا بمجرد إعلان لاستقبال سير المؤلفين كما أن العمل الناجح لابد أن يكون له منهجه الخاص من خلال استمارة تعد وفق ما تتطلبه طبيعة العمل ووفق ما يريده الباحث من معلومات ..لقد تعبت كثيراً في جمع مادته لكنني راض كثيرا على أنه سيكون على قدر من الأهمية لأنه لا يستثني أحد ولا يتجاوز أحد ممن كان له كتاب مطبوع تواصلت مع كل المؤلفين الليبيين وفي طريقي للتواصل مع آخرين الكل لدي سواء رغم كل الاختلافات الفكرية ...أنا أعمل بعقلية الباحث العلمي لا المصنف الأيديولوجي
ما الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المعاجم في توثيق الحركة الثقافية والإبداعية بليبيا؟
توثيق الحركة الثقافية في ليبيا مشروع مؤسسي لا يمكن لي كفرد أن يلم بكل جوانبه، ربما على مستوى الكتب والمؤلفين أستطيع القول أن محاولاتي هذه أسهمت بتوثيق جانباً منها ـ لكن توثيق الحركة الثقافية في ليبيا ليست مقتصرة على رصد الكتب والتعريف بالمؤلفين هناك جوانب عديدة أخرى تحتاج لجيوش من الباحثين لتتبعها ورصدها وتوثيقها ..لكنني أستطيع القول – بكل تواضع – أن ما تمكنت من إنجازه في مجال الكتاب المطبوع في ليبيا خاصة في مجالات الشعر والقصة والمسرح والأدب الشعبي أصبح يشكل مرجعية مهمة للباحثين في الأدب الليبي ولعل متصفح الرسائل والأطاريح الجامعية المعنية بالأدب الليبي في الجامعات الليبية والعربية سيقف على اعتماد أغلبها على هذا التوثيق الذي قمت به ، وهو عموما ليس بالعمل الإبداعي لكنه كان معيناً للمبدعين من البحاث والنقاد في التغلب على الوقت الذي كان يتطلب منهم السعي إلى حصر المنجز الذي يشتغلون عليه
حدثنا عن مشاريعكم الإبداعية المستقبلية؟
كثيرة لكن ما هو جاهز للطباعة حالياً هو (مدونة الرواية الليبية) التي تقع في ثمانية أجزاء رصدت من خلالها الإنتاج الروائي الليبي والروايات التي صدرت في ليبيا منذ عام 1961م وحتى مارس 2021م أما العمل الذي أشرف على الاكتمال فهو (معجم المؤلفين الليبين) الذي يضم كل من ألف كتاباً في ليبيا وقد يصل إلى خمسة عشر جزءا ، هناك مشروع آخر وضعت خطته وتعاقدت فيه مع الهيئة العامة للثقافة على أن ينجز مع نهاية عام 2020م لكن الهيئة لم تنجز التعاقد بشأنه مع ما انفقته على غيره من المشاريع وهو (موسوعة الذاكرة الوطنية) الذي كان سيصدر في اثنى عشر مجلد بمعدل مجلد لكل شهر من يرصد الأحداث التي مرت بها ليبيا في تاريخها السياسي الاقتصادي والاجتماعي ويعرف بالأسماء البارزة والفاعلة في كل المجالات بشكل علمي من خلال فريق من الباحثين الذين تواصلت معهم بمجرد التعاقد مع الهيئة التي لم تلتزم باتفاقها لإنجازه ، لكن العمل الأضخم والذي لايزال يحتاج إلى وقت طويل هو (ليبيا مدخل إلى المصادر والمراجع) سيكون هذا العمل إذا وفقني الله لإنجازه أهم مشروع أقدمه في حياتي وأهميته تكمن في كونه سيضع أمام الباحث في أي شأن يعني ليبيا كل المصادر والمراجع الليبية والعربية والمترجمة التي يحتاجها في بحثه ، عمل يحتاج إلى وقت وامكانيات كبيرة لكنني عازم على خوض غماره – إن كان في العمر بقية - متحدياً كل الصعاب ايماناً مني بأهميته وبالفائدة التي سيحققها.
قلتم إن محاولاتكم في البحث والكتابة توصلت إلى أشياء تصحح معلومات عاش عليها المشهد الثقافي الليبي خلال المائة عام السابقة.. ما أبرز هذه الأشياء؟
منها أن أول ديوان شعري مبوع في ليبيا ليس ديوان مصطفى بن زكري وأول ديوان شعري حداثوي ليس ديوان علي الرقيعي (الحنين الظاميء) ولن أعلن عن ذلك إلا في مناسبة عامة وبالأدلة فالمعذرة .
دخلتم مجال الكتابة منذ عقود... ما الفرق بين الكاتبة الآن والكتابة قبل عشرين عاما؟
الكاتب ابن البيئة كلما توفرت له الظروف الملائمة والمناخات المناسبة أمكنه أن يبدع قد لا تكون الظروف حالياً مناسبة للكتابة والابداع .. لكن الكاتب والمبدع الحقيقي هو الذي يستطيع أن يتغلب على بؤس الواقع ويتجاوزه لإيجاد فضاءاته التي تمكنه من تحقيق رسالته .. وإلا ما الفرق بينه وبين غيره
كيف تقيم لنا واقع المثقف الليبي في هذه المرحلة؟
واقعه واقع الحياة في ليبيا لكن هذا لا يعني أنه كان يعيش واقعاً مثالياً
قلتم إن رئيس الحكومة المؤهل فعلا لا بد أن يكون عارفا بالكفاءات في بلده ويبحث بنفسه عن أهل الاختصاص ممن يستطيع أن يحمل معه المسؤولية لا يعتمد على سير تقدم له.. كيف تتابعون المشهد السياسي الحالي في ليبيا؟
الرئيس المؤهل لتشكيل حكومة هو من يكون عارفاً بقدرات وكفاءات أهل الاختصاص في وطنه ، يعرف في كل اختصاص أهله ، قد لا يكن يعرفهم بشكل شخصي وهو أمر طبيعي لكنه يعرف على الأقل أسماؤهم ويعرف طبيعة ومزايا كل مختص في مجاله ويعرف أيضا موطنهم في حال أن الظروف تحتاج إلى موازنات مناطقية (وإن كنت لا أميل إلى هذا قدر ميلي للخبرات والكفاءات) ولكل مدينة أو منطقة خبراتها وكفاءاتها التي يمكنها أن تسهم في العمل الوطني ، لذلك وعندما يكون الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة قد عرف كفاءات وخبرات المختصين يمكنه أن يستعين بمستشاريه للتعرف أكثر على الأسماء المختارة يجلس معهم ويحاورهم ويتعرف على طبيعة عملهم ويختار من بينهم من يرى إمكانية العمل معه ، عندها يمكن أن يطلب سيرهم ليستطيع تقديمهم بالشكل الذي يليق بمكانة كل منهم خلال عرضه لأسماء وزراء حكومته للرأي العام كأن يعرف الجامعات التي درسوا بها ومتى تأهلوا لدرجاتهم العلمية التي هم عليها ، لا أن يفتح مكتبه لتلقي السير الذاتية ليبحث عن الأسماء التي تناسبه ، رئيس الحكومة المؤهل فعلاً هو الذي يختار من يعمل معه لتحمل أعباء ومسؤوليات الحكومة بغض النظر عن أي انتماء ينبغي أن يكون معياره ليس الولاء بل الكفاءة والخبرة والقدرة على العطاء وبافتراض طبيعة المحاصصة التي لا أقبلها – لا تخلو مدينة ولا قرية من مدن وقرى الوطن من الخبرات والكفاءات التي تستطيع أن تقدم للوطن وتسهم في نهضته، لكن للأسف ما يحدث الآن في ظل عدم وجود ثوابت مرجعية لا يمكن به أن تتجاوز البلاد محنتها وتنهض وتحقق الهدف الذي يتطلع إليه المواطن الليبي .. عن نفسي أقبل أن يتولى وزارات الحكومة أي شخص مهما كان انتماؤه وإلى أي مدينة أو قرية ليبية المهم أن يكون مؤهلاً وذو خبرة وكفاءة تؤهله لأداء مهامه بصدق ومسؤولية نضيف اليد بضمير وطني صادق مع نفسه مخلص لعمله .
قلت لا أقبل العمل في حكومة يعلم الله كيف وصل رئيسها لهذا المنصب ... هل نفهم من ذلك أنكم لا ترون جدوى من التغيرات السياسية الراهنة في ليبيا ومساعي حل الأزمة؟
ما ينطبق على رئيس الحكومة المرشح ينطبق علي غيره أنا لا يهمني من يكون ولأي مدينة ينتمي ومن أي توجه أو تيار...صحيح نحن نعيش مرحلة صعبة وحرجة وحساسة فرضت بطبيعتها أن يكلف رئيس الحكومة بهذه الطريقة رغم وجود طرق أخرى غير هذه لكن غياب الوعي والاحساس بالمسؤولية وغياب الضمير والوطنية فرضت هذا الواقع المؤلم وإلا فالوطن ليس خال من الكفاءات الحقيقية والصادقة والمسكونة بحب الوطن لا بشهوة البطن والتي بمكنتها أن تقود هذه المرحلة لتتجاوز الواقع ولتنهض بالبلاد، الماضي انتهى ولن يعود بحسناته وسيئاته لذلك لا بد من التفكير الجاد في المستقبل وتجاوز جراحات الواقع وآلامه فالوطن للجميع ومن حقه وحق الأجيال القادمة أن نفكر بعقولنا لا بعواطفنا من أجل الوطن وأجل أجيال المستقبل ، الوطن ملك الجميع بغض النظر عن الاختلافات الأيدلوجية والانتماءات السياسية والانقسامات والمذنبون من كل أطراف النزاع لا بد أن يحاسبوا بأحكام القضاء العادل وضمان حقهم في الترافع بكل حرية في ظل استقرار أمني وسلام وطني، دوام الحال من المحال ، التطلع إلى المستقبل يحتاج إلى وعي جمعي مجتمعي لا تخلقه البندقية ولا يحده قرار رئاسي بل إرادة وطنية حقيقية تتجاوز الواقع وتفكر بالعقول لا بالعضلات
ما السبيل للخروج بليبيا من أزمتها؟
إعمال العقل والاحتكام إليه والنظر إلى المستقبل وتجاوز كل الخلافات والاستفادة من أخطاء الماضي وتراكم المآسي ولا يعني بالطبع أن الحاضر خاليا من الأخطاء ولكننا إذا ما استفدنا من الأخطاء سنبقى إلى الأبد نعيش المأساة ذاتها .