تتناول رواية “بعد القهوة” للروائي عبدالرشيد صادق محمودي، الفائزة بجائزة الشيخ زايد فرع الآداب، النسيج الاجتماعي والطبيعة الطبوغرافية والملامح الأنثروبولوجية للقرية المصرية في الأربعينات من القرن الماضي، بحسب ما ذكرت لجنة منح الجائزة في حيثيات فوزها. “العرب” أجرت الحوار الموالي مع المحمودي لتعرّفِ جوانب من رحلته مع الكتابة.

رواية “بعد القهوة” تستلهم التقاليد السردية الكلاسيكية والعالمية الأصيلة وتبرز مهارة في السرد وسلاسة في الانتقال ودقة في تجسيد الشخصيات من الطفولة إلى الكهولة، بالإضافة إلى تجسيد دقيق للعالم الروائي ورسم فضاءات وتحليل الشخصيات في حالة تقلباتها بين الأمل والانكسار والجمع بين الواقعي والأسطوري في إهاب واحد، وأنها على الصعيد الأسلوبي زاوجت بين فصحى السرد والحوار البسيط الذي يكشف عن طبيعة الشخصيات الروائية.

 

حس ملحمي

 

“محمودي” درس الفلسفة في جامعتي القاهرة ولندن، وحصل على الدكتوراه في مجال دراسات الشرق الأوسط من جامعة مانشستر، وبدأ عمله مترجما في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونيسكو”، ومن أعماله الإبداعية والقصصية “اللورد شعبان”، “حبّا في أكلة لحوم البشر”، “ركن العشاق”، “زائرة الأحد”، ورواية “عندما تبكي الخيول”.

في بداية الحوار يؤكد محمودي أن للجوائز أهمية كبيرة في تشجيع النشاط الأدبي، مشيرا إلى أن الأدباء والباحثين الجادين فى حاجة دائما إلى الرعاية. ويقول “الرعاية لا تقتصر على الجانب المادي. هناك أيضا جانب التقدير المعنوي، وهو جانب بالغ الأهمية. وأنا شخصيا لا تعنيني الشهرة إلا بقدر ما تساعدني على نشر إنتاجي بسهولة. أقول ذلك لأن النشر ليس بالأمر السهل وبخاصة إذا كان العمل جادا”.

ويوضح ذلك بقوله: “أسعدني الفوز بجائزة الشيخ زايد للإبداع وأرجو أن يكون فاتحة خير وعاملا حافزا على مزيد من الإنتاج. ويسرّني بصفة خاصة هذا التقدير الذي يأتي من العالم العربي ككل، لأن أعضاء لجان التحكيم، الذين لا أعرف من هم، جاؤوا فيما أفهم من بلدان عربية مختلفة، وتوافقهم على تقدير الرواية أمر يسعدني بلا شك”.

ويضيف محمودي قوله: “لقد أسهمت روافد عديدة في تكويني المعرفي والثقافي. ولقد شغفت منذ طفولتي بالقراءة في مجال الشعر والأدب، وقرأت في صباي لأعلام الأدب العربي المعاصر وعدة روايات مترجمة وبعض روائع الأدب العربي القديم. ثم تمكنت من القراءة بالأنكليزية في نهاية الدراسة الثانوية والقراءة بالفرنسية أثناء المرحلة الجامعية، وبدأت عندئذ كتابة الشعر وأنا أشتغل بالترجمة للإذاعة والصحافة. ودرست الفلسفة في جامعة القاهرة وجامعة لندن. وعملت لسنوات طويلة مترجما ومحررا في منظمة اليونسكو بباريس. ومن ثم كان تعدّد خبراتي واهتماماتي. وقد شغفت منذ صباي بالموسيقى، وبدأت منذ فترة القراءة في هذا المجال، وتعلم العزف على البيانو. ورغم أنني ضقت بالعمل كمترجم ورأيت أنه مضاد للإبداع، فقد أفادني هذا “السجن” والتعرّض لقيود اللغات المختلفة في التمرس باللغة العربية واكتساب القدرة على التصرف فيها”.

ويرى محمودي أن الحسّ الملحمي برحابة آفاق المكانية والزمانية والفكرية والذي تجلى في روايته “بعد القهوة” مردّه للخلفية الثقافية والخبرات المتعدّدة له حيث لعبت دورا مهما فيها.

شخصيات مركبة

 

عن شخصيات رواية “بعد القهوة” وعلاقاتها بالواقع، يقول محمودي: “هناك دائما أصل في الواقع. ولكن الأصول الواقعية للرواية أو بذورها الواقعية ليست سوى نقاط انطلاق لاتجاه المؤلف نحو الإبداع واستخدام الخيال. ولا بدّ أن أشير هنا إلى أن الشخصيات التي تظهر في رواية “بعد القهوة” مركبة من عناصر عدة، وقد تكون مختلقة في بعض الحالات. ومثال ذلك أن السيدة ماريكا التي حملت بطل الرواية وهو طفل من قريته إلى اِلإسماعيلية شخصية خيالية. أما بطل الرواية مدحت، فهو شخصية مركبة من عدة عناصر. فلقد عرفت أثناء عملي في اليونسكو رجلا يطارد النساء دون هوادة ويفشل دائما في اكتساب مودتهن، وكنت أتذكره وأنا أرسم شخصية مدحت وأحاول أن أضفي عليها ملامح جسمية وسلوكية مستمدّة من النموذج الواقعي. ولكن ليس هذا الجانب سوى عضو واحد من عناصر الشخصية. فهناك عناصر أخرى مثل حب مدحت للموسيقى. ولهذا الجانب قصة يطول شرحها في هذا المجال”.

ويوضح “الواقع أن الرواية تستخدم أساليب متعددة في السرد، ولا تقتصر على ما يسمى بتقنيات السرد الكلاسيكي. وهذا التعدد في التقنيات المستخدمة يتفق وتعدد الشخصيات والبيئات”.

 

الفلسفة والرواية

 

يؤكد محمودي على حضور الشاعر في مستويات متعددة للغة، بين اللغة الواقعية البسيطة واللغة المفعمة بالشاعرية، ويقول “أومن بأن العمل الروائي الجيّد ينبغي أن يتضمن قدرا من الشاعرية، وذلك لأن الرواية إذا كانت جديرة بهذا الاسم لا بدّ أن تتضمن بعض اللحظات الدرامية، وقد يحسن أن تتضمن أحيانا وصفا للجوّ المحيط بالأحداث، أو كلاما يصدر عن إحدى الشخصيات على سبيل البث الحميم والنجوى أو المونولوج الداخلي؛ وفي مثل هذه الحالات يوجد دور حاسم للشعر أو لنقل الشاعرية”.

أما الأبعاد الفلسفية التي تتجلى بوضوح في الرواية، فيلفت محمودي الانتباه إلى أن دراسته للفلسفة أثرت في كتاباته الأدبية جميعا، سواء كانت روائية أو غير روائية، ويقول: “أعتقد بصفة عامة أن الفلسفة تساعد دارسها على اقتحام مجالات أخرى، وتزوّده بأدوات من المنطق والخيال ورحابة الأفق لا غنى عنها في الكتابة الجيدة. أما فيما يتعلق بالشخصيات، فإني أحاول أن أنسب إليها من وجهات النظر الفلسفية أو غير الفلسفية ما يتلاءم معها. ويحدث أحيانا أن أعيرها بعض ما أعرفه أو أومن به على سبيل التوثيق، وليس من قبيل اتخاذها ناطقا باسمي أو التعبير عن آرائي. فلا بدّ أن تكون اِلإعارة متلائمة مع تكوين الشخصية ككل ومساهمة في صدقيتها وحيويتها”.

 

*نقلا عن العرب اللندنية