هذا كتاب قيم وضعه المهتم بشأن التاريخ والحركة الصوفية في الجزائر، سعيد جاب الخير، الكاتب والإعلامي الشهير. حيث يجمع كتابه "أبحاث في التصوف والطرق الصوفية الزوايا والمرجعية الدينية في الجزائر" مجموعة من الأبحاث التي كتبتها في أوقات متفرقة، وقدم بعضها إلى الملتقيات الوطنية والدولية التي حضرها حول موضوع التصوف والطرق الصوفية، الذي يكتسي اليوم أهمية خاصة في مرحلة أصبحت الهويات الثقافية/ الخصوصيات الهوياتية الثقافية، في مهب رياح عولمة تريد أن تلتهم كل شيء في طريقها، لتصطنع هوية كونية لا جذور لها، هوية تريد أن تضع كل شيء في يد الأرقام، ليتحول الإنسان نفسه وقيمه وكل ما يملك من تراث ثقافي تاريخي، إلى مجرد أرقام ليس أكثر
يأتي هذا الكتاب في ظل أوضاع عالمية تضطر الدول على اختلافها إلى فتح النقاش، وبشكل جدي جدا، من أجل القيام بمجموعة من المراجعات تخص ذاتها التاريخية والثقافية. هذا لا يعني إعادة النظر في الأبعاد الثلاثة لهوية هذه الدول وتلك المجتمعات التي أصبحت اليوم في حكم المُجمع عليه على غرار الجزائر بأبعادها: الأمازيغية، الإسلام والعروبة. بل المقصود هو إعادة النظر وفتح النقاش ومراجعة مضامين هذه المكونات الثلاثة. بما يعني طرح أسئلة بعينها، حاول سعيد جاب الخير الإجابة عنها أو على الأقل نفض الغبار عنها، وهي التي صاغها في مقدمة الكتاب: "بأي معنى يمكن أن نعتبر أنفسنا أمازيغ ؟ وما الذي يعنيه انتماؤنا إلى الثقافة والتاريخ الأمازيغيين؟ وما الذي يرتبه علينا هذا الانتماء؟ وبأي معنى يمكننا اليوم، وبعد شلال الدم الذي جرته علينا السلفية الوهابية المستوردة منذ عهد ما سُمي بالإصلاح وامتدادا إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، أن نقول عن أنفسنا: إننا مسلمون؟ ما هو الإسلام الذي نريد أن ننتمي إليه بالضبط؟ هل هو إسلام سيدي بو مدين وسيدي عبد الرحمن وسيدي امحمد بوقبرين وسيدي الهواري وسيدي براهيم بن تومي وسيدي بن بوزيان وأمثالهم من أجدادنا الصوفية "المرابطين" المقاومين أهل النية والصفاء؟ أم هو إسلام ابن باز والعثيمين والألباني والحويني ومن لف لفهم، ممن ينتسبون زورا إلى "أهل السنة والجماعة"، وهم في واقع الحال ليسوا سوى حشوية ومجسمة تكفيريين وإقصائيين؟، ثم ما الذي يعنيه انتماؤنا إلى هذا الإسلام في ظل دستور يقول إن الإسلام هو دين الدولة؟ ألم يأت قومٌ باسم هذا النص، يقولون إن إسلامية الدولة منقوصة وينبغي استكمالها، حيث خرجوا يطالبون بما أطلقوا عليه "الدولة الإسلامية"، ما جر علينا حماما من الدم ؟ أليس ذلك كله بحاجة إلى مراجعة حقيقية ؟ وبأي معنى يمكن أن نعتبر أنفسنا اليوم عربا ؟ أو بعبارة أخرى : بأي معنى نريد/نستطيع اليوم أن نكون عربا، بعد أن فشلت مختلف مشاريع القومية العربية حتى في بلادها الأصلية ؟ بأي معنى نريد اليوم أن نكون عربا إذا علمنا أن كثيرا من إخواننا العرب يستكثرون علينا أن نكون منهم، بل إنهم يصفوننا أحيانا بالفرنسيين، وهم لا يخفون ذلك. هذه الدراسة هي مجموعة أوراق بحثية مطروحة للنقاش، المقصود منها فتح بعض الملفات الثقافية الحساسة المرتبطة بعمق كينونتنا الهوياتية، والتي ظلت مغلقة إلى وقت قريب لأسباب سياسية تاريخية ليس هنا مجال التفصيل فيها، وهي عموما معروفة. أتصور أنه آن الأوان اليوم، لفتح هذا النقاش بكل ما يحمله من أبعاد، من أجل توضيح معالم الرؤية للأجيال الجديدة، حتى تتمكن من نفض الغبار عن تاريخنا الثقافي والرسو على هوية واضحة الخطوط، ومن ثم الانطلاق نحو المستقبل برؤية صافية وخطى ثابتة."
جاء كتاب " أبحاث في التصوف والطرق الصوفية الزوايا والمرجعية الدينية في الجزائر" في سبعة محاور هي: المرجعية الدينية الصوفية في الجزائر، الجذور، الواقع والآفاق، علاقة التصوف بالشعر الشعبي (الملحون) في الجزائر، ابن مسايب نموذجا وعلاقة التصوف والطرق الصوفية بالثقافة الشعبية في الجزائر، مسألة السماع بين الصوفية والفقهاء، وأيضا محورا عن القطب الأكبر عبد السلام بن مشيش، حياته وعصره، ومرجعية الذكر في الطريقة العيساوية وتراث "قناوة" بين التعليم الصوفي والطقس الشعبي.
في نقد مؤسسة الخلافة: الوهم والحقيقة
يؤكد الكاتب على أن السلطة السياسية التاريخية/مؤسسة الخلافة عملت منذ وقت مبكر من تاريخ الإسلام، على احتواء المؤسسة الدينية ممثلة في سلطة الفقهاء الذين عملوا على تبرير مسلكية الخليفة وتسخير النص الديني لإضفاء الشرعية على النظام السياسي وأحكامه التشريعية والقضائية. الدلائل في هذا المجال كثيرة جدا، وبإمكاننا تتبع هذا الاتجاه المبكر في تاريخ الإسلام من خلال النصوص والحوادث التالية على سبيل المثال لا الحصر : في حوادث سنه 82 هجرية، قال عبد الرحمن بن يزيد : قدم علينا سليمان بن عبد الملك حاجا سنة اثنين وثمانين، وهو ولي عهد. فمر بالمدينة فدخل عليه الناس، فسلموا عليه. وركب إلى مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم التي صلى فيها، وحيث أصيب أصحابه بأحد، ومعه أبان بن عثمان، وعمرو بن عثمان، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي أحمد، فأتوا به قباء، ومسجد الفضيخ، ومشربة أم إبراهيم وأحد، وكل ذلك يسألهم، ويخبرونه عما كان. ثم أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه، فقال أبان : هي عندي، قد أخذتها مُصححة ممن أثق به. فأمر بنسخها وألقى بها إلى عشرة من الكتاب فكتبوها في رق. فلما صارت إليه نظر، فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين، وذكر الأنصار في بدر، فقال : ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل. فإما أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وإما أن يكونوا ليس هكذا. فقال أبان بن عثمان : أيها الأمير، لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم (يقصد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه) من خذلانه، أن نقول بالحق، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا. قال : ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين، لعله يُخالفه. فإمر بذلك الكتاب فحُرق. وقال : أسأل أمير المؤمنين إذا رجعت، فإن يوافقه، فما أيسر نسخه. فرجع سليمان بن عبد الملك، فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان. فقال عبد الملك : وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل ؟ تعرف (بضم التاء وفتح العين وكسر الراء وتشديدها : من التعريف) أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها ؟ قال سليمان : فلذلك يا أمير المؤمنين، أمرت بتخريق ما كنت نسخته، حتى أستطلع رأي أمير المؤمنين. فصوب رأيه. (حرق الكتب في التراث العربي : 31-32، نقلا عن كتاب الموفقيات للزبير بن بكار، ص 275) هذا التحريف المغرض والتوجيه الرسمي للنص الديني والمعرفة الدينية، مارسته مؤسسة الخلافة على طول التاريخ العربي الإسلامي، بالتواطؤ مع المؤسسة الفقهية وبشتى الأساليب والوسائل. والهدف من ذلك هو إخضاع النص الديني والمعرفة الدينية، للأيديولوجية الرسمية لمؤسسة الخلافة أو ثنائية (الخليفة/الفقيه). حيث كانت السلطة تخاف أن تتأثر عامة الشعب بكتب وأفكار المعارضة التي كان الفقهاء عموما يكفرونها ويصنفونها في خانة "الإلحاد والزندقة".
الخليفة ودوره في توجيه النص الديني أو تحالف الفقيه والخليفة :
قال الشافعي :"أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق (بكسر الراء أي فضة) بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذا، فقال معاوية : ما أرى بهذا بأسا. فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية، أخبره عن رسول الله ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض". (الرسالة للشافعي بتحقيق أحمد شاكر، ص 446) قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "الرسالة" : "الحديث صحيح، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة إلا النسائي. وقال الزرقاني في شرح الموطأ (ج3 ص 115) : قال أبو عمر : لا أعلم أن هذه القصة عرضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من هذا الوجه، وإنما هي محفوظة لمعاوية مع عبادة بن الصامت، والطرق متواترة بذلك عنهما. انتهى والحديث صحيح وإن لم يرد من وجه آخر، فهو من الأفراد الصحيحة.. ولابن عبد البر هنا كلام جيد في هجر المبتدعين، انظره في شرح السيوطي على الموطأ". (المصدر السابق). وها هي رواية عبادة بن الصامت كما وردت في كتاب "سير أعلام النبلاء" ، قال الذهبي : "عن عبادة بن الصامت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الذهب بالذهب مثلا بمثل، يدا بيد، والشعير بالشعير مثلا بمثل، يدا بيد، والتمر بالتمر، مثلا بمثل، يدا بيد، حتى ذكر الملح... فقال معاوية : إن هذا لا يقول شيئا. فقال عبادة : أي والله ما أبالي أن لا أكون بأرضكم هذه" (سير أعلام النبلاء، 6/178) جاء في تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط وحسين الأسد :"أخرجه النسائي 7/277، في البيوع باب بيع الشعير بالشعير، وأخرجه مسلم برقم 1587 في المساقاة باب الصرف، من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال : كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث فجلست إليهم فقلت له : حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت. قال : نعم، غزونا غزاة، وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك (أي فعلوا مثل فعل معاوية)، فبلغ عبادة بن الصامت فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية، فقام خطيبا فقال : ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه ؟ فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال : لنُحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كره معاوية (أو قال : وإن رغم معاوية) ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء. وأخرجه بنحوه أبو داود برقم 3349 والترمذي برقم 1240 والنسائي 7/ 274 – 275، وابن ماجه برقم 2254 ، والشافعي 2/ 177- 178" (السابق). هذه الحادثة كما يظهر من التعاليق السابقة، صحيحة عن أبي الدرداء ومتواترة عن عبادة بن الصامت كما قال الحافظ ابن عبد البر، فلا مجال للتشكيك فيها. مما سبق، يتبين أن السلطة السياسية/ مؤسسة الخلافة، كانت تكره أن يُحدث الصحابة بما سمعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يتعارض مع أيديولوجية ورؤى ومشاريع السلطة. كما أن كثيرا من الفقهاء عملوا على تبرير هذه المسلكية السلطوية سعيا منهم إلى إبعاد الشبهة عن معاوية بن أبي سفيان وغيره، على أساس نظرية عدالة الصحابة الشهيرة. كما أن كثيرا من الفقهاء سعوا إلى رد أو تأويل نصوص أخرى للغرض نفسه، وبذلك أسسوا نصوصا تأويلية (حتى لا نقول تحريفية) موازية للنصوص الأصلية، أطلق عليها بعض الباحثين تسمية "النص الثاني"، هذا النص الذي قامت عليه المؤسسة الدينية/ سلطة الفقيه التي منها تستمد مؤسسة الخلافة شرعيتها الدينية والسياسية.
شاع الكذب والتزييف في مرحلة الإسلام المبكر، بدفع من مؤسسة الخلافة وأعوانها من جيوش الكذابين والوضاعين الذين أطلقتهم لتؤسس شرعيتها من خلال "النص الثاني" الذي اعتمده الفقهاء بعد ذلك وأصبح في حكم الدين الذي لا يمكن مناقشته ولا نقضه. وأكثر من ذلك : نجد أن التزييف طال حتى أسماء البدريين، حيث لم يكن المحدثون متأكدين من جميع الأسماء الواردة في هذا الصدد. قال الذهبي : "إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا سفيان بن عيينة قال : كان بالمدينة شيخٌ يقال له شرحبيل أبو سعد، وكان من أعلم الناس بالمغازي. قال فاتهموه أن يكون يجعل لمن لا سابقة له سابقة. وكان قد احتاج (أي افتقر) فأسقطوا مغازيه وعلمه. قال إبراهيم : فذكرت هذا لمحمد بن طلحة بن الطويل، ولم يكن أحد أعلم بالمغازي منه، فقال لي : كان شرحبيل أبو سعد عالما بالمغازي، فاتهموه أن يكون يُدخل فيهم من لم يشهد بدار، ومن قتل يوم أحد، والهجرة ومن لم يكن منهم. وكان قد احتاج، فسقط عند الناس.. وقال إبراهيم : حدثنا محمد بن الضحاك، سمعت المسور بن عبد الملك المخزومي يقول لمالك : يا أبا عبد الله، فلان كلمني يعرض عليك (أي يريد أن يكون من تلاميذك) وقد شهد جده بدرا. فقال مالك : لا تدري ما يقولون، من كان في كتاب موسى بن عقبة قد شهد بدرا، فقد شهدها، ومن لم يكن في كتاب موسى، فلم يشهد بدرا".
إقصاء الكثير من الروايات الحديثية من طرف المحدثين والفقهاء، بسبب كون رواتها من المغضوب عليهم لمواقفهم السياسية، حيث يتم تضعيف وإقصاء المعارضين ورفض رواياتهم بينما تقبل روايات الموالين للسلطة. ومن هؤلاء الرواة المغضوب عليهم على سبيل المثال لا الحصر :
عمران القطان محمد بن راشد الحسن بن صالح عبد الحميد بن جعفر فطر بن خليفة
الصوفية أو المعارضة الموازية
إن التبعية والولاء المطلق للخليفة، اللذان غرقت فيهما المؤسسة الفقهية الرسمية، هو ما جعل القراء والزهاد، ومن بعدهم الصوفية، يؤسسون لمرجعية مستقلة موازية للمؤسسة الفقهية التابعة للسلطة، حيث ظهرت ملامح هذه المرجعية الصوفية في العديد من النصوص الدينية والتاريخية التي نكتفي بذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر. كان الصوفية من منطلق الرؤية الباطنية، يعارضون مقولات الفقهاء التي تقف عند حدود الظاهر ولا تتعداه إلى جوهر النص وباطنه. ومن الأمثلة على ذلك ما أورده السُلمي في طبقاته عن فاطمة البردعية وهي من المتصوفات العارفات، حيث يقول : سمعت أبا الحسن السلامي يقول : سألت فاطمة البردعية بعض المشايخ، عن قول النبي صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه : "أنا جليس من ذكرني". ففاوضها ساعة، فقالت : لا، ولكن أتم الذكر أن تشهد ذكر المذكور لك، مع دوام ذكرك له، فيفنى ذكرك في ذكره، ويبقى ذكره لك حين لا مكان ولا زمان". (طبقات الصوفية للسُلمي : 403):
وعلى عكس الفقيه المتحالف مع السلطة، وقفت المرجعية الصوفية التاريخية في خط المعارضة السياسية، حيث لم تكن تعترف بشرعية مؤسسة الخلافة. وهذا ما جعل الزهاد والصوفية يعزفون في الغالب عن سكنى المدن، لأنهم يرون أنها غصبٌ أي أراض مغتصبة (بفتح الصاد) من طرف السلطة، وبمعنى آخر : إن الخليفة لا يملك سلطة شرعية على الأرض التي يحكمها. ويُلاحظ منذ نهاية القرن الأول الهجري، أي منذ ظهور مصطلح التصوف الذي أطلق على أمثال أبي هاشم الكوفي (ت 150 هجرية) وعبدك الصوفي، وعبد الواحد بن زيد الذي وصفه ابن تيمية بـ"الصوفي الأول" (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية : 2/165) أن حركة الزهاد والصوفية، اتخذت طابع الرفض والمعارضة للأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة في ظل الاستبداد الأموي وفي ظروف ازدياد التمايز الاجتماعي الفاحش بين إثراء الحاكمين المفرط وبين إفقار الفئات الاجتماعية العريضة..
في هذا الإطار، قال الزهاد والصوفية الأوائل بحرية الإنسان ومسؤوليته عن أعماله بما أنها تصدر عن إرادته وحركته، ولهذا تعرض كثيرون منهم إلى الاتهام بالقدر والاعتزال من طرف المؤسسة الفقهية التابعة للسلطة. فهذا معبد الجهني وعطاء بن يسار، يأتيان الحسن البصري فيقولان له :"يا أبا سعيد، هؤلاء الملوك (أي بنو أمية) يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم، ويقولون : إنما تجري أعمالنا على قدر الله تعالى". فيقول لهما الحسن البصري :"كذب أعداء الله". وهنا ينطلق الزاهد البصري الأول بأكثر من إبداء الرأي الصريح في مسألة القدر، بالرغم من أن هذا الرأي بذاته كان يُعد تحديا شديدا ومباشرا للحكام الأمويين. فقد تجاوز الحسن البصري إبداء الرأي المحض، إلى نسبة الكذب للأمويين أولا، ووصفهم بأنهم أعداء الله ثانيا.. حيث أصبح هذا الموقف المعارض/الثوري، هو الطابع العام المميز لحركة الزهد في تلك المرحلة، والعراقية منها على وجه الخصوص، لأن العراق كان أصل الثورة في وجه التسلط الأموي منذ خلافة عثمان.. وقد ظهر هذا الموقف الثوري المعارض في مسلكية الزهاد، إما من خلال إبداء الرأي الصريح في الأحداث والأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة، كما كان يفعل الحسن البصري، وإما من خلال الالتحاق بإحدى الانتفاضات المسلحة على نظام الحكم الأموي، كما فعل سعيد بن جبير أحد التابعين من زهاد الكوفة، وإما من خلال الثبات البطولي على الولاء لأشد خصوم الأمويين، إلى حد تعريض النفس للهلاك، كما فعل الكثير من زهاد الشيعة في عهد الحجاج بالأخص، من أمثال كميل بن زياد النخعي". (النزعات المادية : 2/154-155)
ويقول آدم متز :"في عام 200 هجرية، ظهرت في الإسكندرية طائفة يسمون الصوفية، يأمرون بالمعروف ويعارضون السلطان في أمره، وترأس عليهم رجل منهم يقال له أبو عبد الرحمن الصوفي". هذا الكلام يضع أمامنا عدة واقعات لها دلالاتها التاريخية في موضوعنا. فنحن، أولا، نرى هنا الصوفية عام مئتين للهجرة، قد وُجدوا في الإسكندرية بالفعل. بل نراهم، ثانيا، يؤلفون طائفة، أي إنهم يشكلون في مجتمع الإسكندرية، وضعا له طابع الظاهرة العامة. ونرى، ثالثا، أن لهم شكلا تنظيميا يستدعي أن يكون لهم رئيس هو أبو عبد الرحمن الصوفي. ونرى، رابعا، أن لهذه الطائفة وجودا مؤثرا في مجتمعهم، وأن وجودهم المؤثر هذا يشق لنفسه مجالا في النشاط الاجتماعي السياسي، فهم كانوا يأمرون بالمعروف ويعارضون السلطان في أمره. وهذه خامسة الواقعات وذروتها. وإذا تركنا حديث آدم متز هذا، ورجعنا إلى المصدر الذي أخذ عنه ذلك، أي الى الكندي أبي عمر محمد بن يوسف المصري المؤرخ (غير الكندي الفيلسوف) وجدنا هذه الطائفة الصوفية ذاتها تدعى للمشاركة في إحدى ثورات الإسكندرية، فتشارك بالفعل مع حلفائها الأندلسيين، وينتصر هذا الحلف. ويبلغ أثر طائفة الصوفية في هذه الثورة، أن يولى رئيسها أبو عبد الرحمن الصوفي، سلطة المدينة (الإسكندرية) باسم الحلف نفسه.
المرجعية الدينية الصوفية في الجزائر.. صراع الولي والسلطان
كانت المرجعية الدينية الصوفية على طول التاريخ، تتحرك بأشكال وأساليب مختلفة حسب اختلاف البيئات والظروف، لكن دائما بوصفها سلطة موازية للسلطة الرسمية، وقوة معارضة ومهيكلة للمجتمع في مواجهة السلطة/مؤسسة الخلافة، وحليفها الطبيعي والتاريخي المتمثل في الفقيه. وقد فصلنا القول في ذلك فيما سبق، بالنسبة الى المراحل الأولى من التاريخ العربي الإسلامي.
ما يهمنا الآن، هو أن المرجعية الصوفية الجزائرية والمغاربية، المتمثلة في الحركة/الحالة المرابطية الصوفية، تمكنت من إنتاج خطاب وتيار ديني صوفي شعبي/تدين مرجعي صوفي مرابطي شعبي، وذلك ابتداء من القرن الثالث عشر الميلادي. هذه الحالة/ الحركة، مرت عبر العديد من المراحل التكوينية الفكرية/النظرية والروحانية، قبل أن تأخذ شكلها النهائي. ويلاحظ أن هذه الحركة/الحالة المرابطية، ارتبطت ارتباطا عضويا بالشرفة (الشرفة بضم الشين وتشديدها وسكون الراء جمع مفرده شريف أو شرفي أو شرفاوي، وهو في التعبير الشعبي الجزائري والمغاربي، مصطلحٌ يعني شريحة اجتماعية تتمثل في العائلات المنحدرة من النسل النبوي المحمدي الشريف، من ذرية فاطمة وعلي بن أبي طالب، وتطلق عليهم أيضا تسمية : المرابطين، جمعٌ مفرده مرابط. وليس لهذه التسمية علاقة ضرورية أو مباشرة بالدولة المرابطية أو دولة المرابطين) وبالتالي، فإن المرجعية الصوفية، هي الأخرى ارتبطت كما قلنا سابقا، ارتباطا عضويا وتاريخيا بالحالة المرابطية، أي بالشرفة، فهما معا وجهان لقطعة ذهبية واحدة. ويؤكد المؤرخون أن من أهم معالم المسار التاريخي الروحاني الصوفي الجزائري، كون الشرفة كان لهم دورٌ أساسيٌ جوهريٌ ومحوريٌ في التأسيس للحالة المرابطية وتنظيمها وتحريكها جماهيريا من خلال منحها البعد الشعبي.
ومن بين أوائل هؤلاء المرابطين الصوفية من الشرفة، الذين تكونوا في منطقة الساقية الحمراء وغادروا زاويتها متجهين نحو التراب الجزائري في مطلع القرن 13 الميلادي، يمكن أن نذكر : سيدي أبو عبد الله الذي توجه الى منطقة الشلف، وسيدي محمد الشريف الذي توجه الى منطقة القبائل، وسيدي محمد الغبريني الذي توجه الى منطقة شرشال. وتشير بعض المصادر الى أن فوجا آخر غادر زاوية الساقية الحمراء، سنة 754 هـ/1353 م، يضم كلا من : سيدي نايل، وسيدي عيسى اللذين استقرا في منطقة جنوب الأطلس الشرقي، وسيدي أحمد تميمونت الذي توجه الى عين سقرون جنوب قسنطينة.
وابتداء من القرن 15 الميلادي، بدأت المرجعية الدينية الصوفية ممثلة في الحركة المرابطية التي نجحت في التجذر على مستوى العروش والقبائل، تقلق مؤسسة السلطة، ممثلة في الحكام من العرب أو البربر الذين ورثوا أوضاعهم الأرستقراطية من مرحلة "الفتح العربي" (القرن الثامن الميلادي)، أو في بعض شيوخ القبائل والعروش البدوية.
وابتداء من القرن 15 الميلادي أيضا، وقبل أن تقع أجزاء كبيرة من الجزائر أو المغرب الأوسط في أيدي القوى الإيبيرية (الإسبان والبرتغاليون)، كانت مساحات واسعة من السلطة السياسية الفعلية، قد انتقلت الى كفة المرجعية الدينية الصوفية ممثلة في الحالة/الحركة المرابطية التي ما انفك تأثيرها يتصاعد مع مرور الأيام، حيث يقول بعض الرحالة من بينهم حسن الوزان، إن تسعة من بين الإثني عشر وطنا (مناطق) التي يشملها المغرب الأوسط (الجزائر) آنذاك، كانت تحت التأثير الفعلي للحركة/السلطة المرابطية، وذلك عشية الهجوم الإسباني على وهران سنة 1504 ميلادية. وقد تضاعف في تلك المرحلة، عدد الأولياء المرابطين الذين يمتلكون حكمة التعليم الروحاني الصوفي، الى درجة أنهم تمكنوا من خلال الهيكلة الروحانية والزمنية المُحكمة للمجتمع والاستجابة لاحتياجاته الدينية والمادية، أن يشلوا السلطة الزمنية الحاكمة بحيث لم يصبح لها تأثيرٌ يُذكر على الواقع الشعبي. (في تلك المرحلة، كان المرينيون حكام المغرب الأقصى، والزيانيون أو بنو عبد الواد حكام الجزائر أو المغرب الأوسط، والحفصيون حكام تونس، مع ملاحظة التحرك المستمر للحدود الجغرافية للمنطقة المغاربية شرقا وغربا)
المرجعية الصوفية والتواجد العثماني في الجزائر :
بعد تضعضع سلطة الدول الثلاث (المرينيون في المغرب والزيانيون وهم بنو عبد الواد في الجزائر، والحفصيون في تونس) واحتلال الإسبان والبرتغاليين لمساحات واسعة من السواحل والأراضي الجزائرية، انطقلت المرجعية الدينية الصوفية في ثلاث اتجاهات رئيسية :
الاتجاه الأول : كان يشك في نية وإخلاص الأخوين بربروس خير الدين وبابا عروج ومن معهما من الإنكشارية، حيث وجدنا أن الفعاليات الممثلة لهذا الاتجاه لم تشارك (ربما لأسباب مرتبطة بطبيعة الموقف الإستراتيجي والتوازنات الداخلية والخارجية في تلك المرحلة) في المعارك التي خاضها هؤلاء العثمانيون الوافدون، ضد المحتلين الإسبان والبرتغاليين.
الاتجاه الثاني : كان يرفض السلطة/الخلافة العثمانية التركية رفضا مبدئيا من منطلق ديني فقهي مرتبط بحركة الفتوى الشرعية في الخط السياسي، على أساس المنطلق المبدئي الصوفي التاريخي المعارض، الذي تأسس منذ نهاية القرن الأول الهجري، والذي يوصي ويؤكد على عدم الاعتراف بشرعية أية سلطة تنتمي الى الثنائي : الخليفة/الفقيه.
الاتجاه الثالث : كان يدعم ويؤيد الوجود العثماني. لمزيد من التفاصيل حول هذا المحور والذي قبله، يراجع البحث المهم الذي كتبه كمال فيلالي في مجلة "إنسانيات" المجلة الجزائرية للعلوم الأنتروبولوجية والاجتماعية، العدد 03، شتاء، 1997.
الدور المرجعي للزوايا والطرق الصوفية في الجزائر :
لعبت الزوايا والطرق الصوفية في الجزائر، وبخاصة الطريقة الرحمانية، دورا محوريا بوصفها مرجعية دينية، في هيكلة المجتمع الجزائري لما بعد سقوط دولة الموحدين، والاستجابة لحاجاته الدينية، الروحية والزمنية. وإذا أخذنا المجتمع القبائلي كنموذج، نجد أن الولي/شيخ الطريقة يعتبر شخصية محورية في جميع الشؤون الدينية والزمنية المرتبطة بهذا المجتمع. وبإمكاننا أن نوجز الوظائف التي اضطلعت بها المرجعية الصوفية في ما يلي :
1- الوظيفة الدينية للمرجعية الصوفية : وتتمثل في التعليم والفتوى، حيث كانت الزوايا تقوم بتعليم القرآن الكريم ومختلف العلوم الشرعية والروحانية والرياضية والفلكية وغيرها. كما كانت تضطلع بمهمة الفتوى والقضاء، من خلال الإجابة عن التساؤلات الشرعية للناس والفصل في النزاعات التي يمكن أن تنشب بينهم حول مختلف القضايا المرتبطة بالملكية والأحوال الشخصية والعلاقات الاجتماعية وغير ذلك.
2- الوظيفة الروحانية للمرجعية الصوفية : وتتمثل في تلقين الذكر والتربية الصوفية (التسليك)
3- الوظيفة السياسية/العسكرية للمرجعية الصوفية : وتتمثل في مقاومة المرجعية الدينية الصوفية ممثلة في زوايا الطريقة الرحمانية في بلاد القبائل بخاصة، للسلطة العثمانية.
4- الوظيفة الاقتصادية للمرجعية الصوفية : وتتمثل في تنظيم النشاط الاقتصادي من خلال رعاية وتسيير الأوقاف الخاصة بالزوايا (أراضي، مواشي، عقارات مختلفة)
5- الوظيفة الاجتماعية للمرجعية الصوفية : وتتمثل في رعاية الفقراء والأيتام والأرامل، رعاية عابري السبيل وتقديم العون اللازم لهم حتى يرجعوا إلى أوطانهم أو قراهم أو مدنهم، الفصل في النزاعات القبلية والعروشية والعائلية، تنظيم المواسم والاحتفالات الدينية ذات الطابع الاجتماعي (المولود/المولد النبوي الشريف، عاشوراء،..) إضافة الى التأسيس الحضاري والعمراني. وفي هذا الإطار، تمكنت المرجعية الدينية الصوفية في منطقة شمال شرق الصحراء الجزائرية، من تفكيك البني الاجتماعية القديمة، وتأسيس بنى جديدة على أنقاضها. وضمن هذا التحول "سجلنا تطورا على جانب كبير من الأهمية والخطورة، تجسد في حدوث قطيعة بين البنى الاجتماعية القبلية القديمة، والبنى الاجتماعية الناشئة حديثا على أنقاضها، حيث يحدث الانسجام بين هذه الأخيرة وبين المؤسسة الطرقية، ولا يحدث التصادم في ولاء الأفراد بين انتمائهم لطريقة صوفية، وفي الوقت نفسه انتمائهم الى مجموعة بشرية قبلية. وقد نتج عن هذا التطور، أن أصبحت القبائل مبنية على القداسة مجسدة في الولاية الدينية المستمدة من الكرامة الصوفية والنسب الشريف (أولاد سيدي) بدلا من الرابطة الدموية وحدها، مما أدى إلى انكفاء الولي (المرابط) مؤسس المجموعة البشرية/القبيلة، لصالح القطب مؤسس الطريقة الصوفية، أو الاندماج بينهما كما هي الحال بالنسبة لسيدي الشيخ، مؤسس القبيلة والطريقة. لقد جاء هذا التحول نتيجة استحالة ارتكاز القبائل على رابطة الدم وحدها بسبب تنوع العناصر التي تشكلت منها هذه القبائل، من بربر وعرب ومهاجري الأندلس. ذلك أن العامل الروحي الديني وحده، صار هو الأقدر على تقوية التلاحم بين هذه العناصر وتمتين صلابتها، إضافة لما يرمز اليه المقدس من بعد أسطوري (ملحمي) يمتد في أعماق التاريخ الديني، عبر الارتباط الدموي بالنسب النبوي انطلاقا من الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتهاء بسيدنا إبراهيم مرورا بإسماعيل وما يمثله ذلك من رمز ديني حضاري، يعكس اتجاها عاما عبر الارتباط بهذه السلسلة ذات الأصول الحضارية النابعة من حضارات بلاد الرافدين بالعراق. فالنبي إبراهيم إضافة إلى رسالته الدينية التوحيدية، أدى دورا حضاريا بتأسيسه لمركز حضري في بيئة بدوية ممثلا في مدينة مكة بالحجاز. إن تغلغل القيم الدينية في المجتمع، أدى بأفراده الى استلهام سير وقصص الأنبياء عليهم السلام، وإسقاطها على الأولياء. ولعل هذه المقارنة تضيء وتفسر الأدوار التي قاموا بها والوظائف التي أدوها في إقامة العمران، وذلك اعتمادا على ما ترسب في الذاكرة الجماعية من معطيات ومعلومات حول العمران، يتم تداولها شفاهة بين أفراد المجتمع. إن دور الأولياء في العمران من خلال تأسيس القرى والمدن، يشبه الى حد بعيد قصة تأسيس مدينة مكة المكرمة. فقد فجر الله ماء زمزم بين رجلي إسماعيل عليه السلام عندما تركه والده في تلك البقعة التي لا ماء فيها ولا زرع مع أمه بناء على أمر إلهي. ثم بعد ذلك قام إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام ببناء الكعبة بأمر إلهي أيضا، حيث نلاحظ أن الماء ومكان العبادة هما أساس العمران. وهذه الظاهرة نجدها تتكرر لدى الأولياء الذين ينحدرون كلهم من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم (أشراف) ويمتازون بالعلم الديني، وأول عمل يقومون به هو توفير الماء بحفر بئر أو فقارة، وبناء مكان للعلم والعبادة. فالتعمير يتم بالنسبة للأول (أي النبي صلى الله عليه وسلم) عن طريق المعجزة والوحي، أما بالنسبة للثاني (الولي) فيتم عن طريق الكرامة والإلهام، وكلاهما إلهي المصدر. أما الأولياء الذين لم يقوموا بأي دور في العمران مثل أولئك المتواجدين في المراكز الحضرية القديمة كالقرى والمدن، فقد أسند لهم دور ضمان الحماية والاستمرارية، مثل سيدي عبد الرحمن بمدينة الجزائر، وسيدي بومدين بتلمسان، وسيدي الهواري بوهران.. وهو يشبه المكانة التي احتلتها مدينة يثرب لما انتقل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة. إن انتماء العرب المستعربة (العدنانية) الى النبي إسماعيل عليه السلام، رغم أنه عاش بين أفراد قبيلة عربية نزحت الى المنطقة، وارتبط معها بالجيرة والمصاهرة، إلا أنه سرعان ما تحول الى جدهم الأعلى المؤسس لجماعتهم البشرية. وهي الظاهرة نفسها التي نجدها تتكرر مع الأولياء، الذين غالبا ما يجدون المنطقة التي ينزحون إليها مأهولة بالسكان، فيرتبطون معهم بعلاقات دينية روحية أو اجتماعية (المصاهرة) ثم يتجمعون حول المنشآت التي أقامها هؤلاء الأولياء بمساعدتهم، وبالتدريج يتحولون الى أجداد مؤسسين للمجموعة البشرية المرابطة بهم، بدوية كانت أم ريفية". (راجع بحث خالد محمد بعنوان : "المقدس والأسطورة في التجربة الطرقية الإسلامية بمنطقة شمال شرق الصحراء"، ضمن : الجزائري وأسطورته المخيال الاجتماعي وآليات التماهي، نصوص جمعت تحت إشراف البروفيسور عبد الرحمن بوزيدة، ص : 79-80)
ويلاحظ في هذا الصدد، أن بعض الجماعات البشرية، يرجع نسبها بكامل أفرادها إلى الجد/الولي المؤسس لها، أي إن الجد المؤسس في هذه الحالة، يجد المنطقة خالية تماما من السكان، كما حدث مع مدينة الهامل ببوسعادة، التي تعرف بأنها "مدينة الأشراف"، حيث لم يتمكن جميع من دخلوا هذه المدينة لاحقا، من الاختلاط بسكانها الأصليين الذين يعتبرون كلهم من الأشراف المرابطين. "إن حيازة الأولياء للشرف من خلال شجرة النسب التي تربطهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، هي في المحصلة النهائية تصل نسبهم بإبراهيم عليه السلام مرورا بالنبي إسماعيل، والتي قد تكون إشارة ذات بعد حضاري، كون سيدنا إبراهيم هو ابن البيئة الحضارية لبلاد الرافدين. إن هذه الإشارة الحضارية توضح الرسالة التي يؤديها الرسل وهي نشر الدين الذي كلفهم به الله تعالى، والولي مكلف بنشر المعرفة التي وهبها الله له، والدين والمعرفة كلاهما فريضة (تكليف بمعنى من المعاني بالنسبة للولي) إلهية لما لهما من بعد حضاري. وعليه فإن كلا من الرسول والولي، يقوم بتبليغ/أداء رسالة حضارية، كواجب ديني يجب عليهما القيام به. ومن هنا فإن القطب أو الولي الصوفي يصبح بطلا (أسطوريا الى حد ما عندما يتم استثماره في المخيال الشعبي) يؤمن باستمرارية الحياة، ويمنع الدنيا من الزوال، ويحفظ الدين، ويحرس الدنيا وهو يمدن شعبه، ويحافظ على الدين والتراث، ويقيم العلاقة مع العالم الغيبي (غير المرئي) ويقوم بدور الأجداد الذين أسسوا، ويعيد ما سبق أن رسمه الدين في بدايته. ومن خلال هذه المعطيات والمقارنات، يمكننا تفسير ظاهرة تقديس الأولياء، من خلال الدور الذي لعبته هذه الرموز (المرجعيات الدينية الصوفية) في تأسيس وإقامة العمران بنوعيه البدوي والحضري، أو ضمان الحماية والاستمرارية للمراكز العمرانية الحضارية القديمة". (الجزائري وأسطورته : 81) ويلاحظ في هذا السياق، أن قداسة الأولياء ليست مسألة طارئة عليهم. والمقدس في اللغة العربية هو المطهر والمنزه والمبارك، أي هو مصدر الطهارة والتنزيه والبركة. وبهذه المعاني، نجد أن القداسة التي يملكها الأولياء المرابطون، تأتيهم عن طريق الوراثة، وهي بهذا الشكل "مسألة غير ذاتية، ولا تخضع لإرادة الإنسان/الولي المرابط، بل هي قوة خارجة عنه وعن إرادته، وهو ما ينطبق على آل البيت المطهرين بصريح النص الديني الذي يؤكد ذلك ويثبته (قوله تعالى (أحزاب/33) : "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره، عن فاطمة وعلي والحسن والحسين، اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.. والنصوص النبوية في ذلك كثيرة جدا تفوق الحصر، أفردها بعضهم بتآليف خاصة) فالقداسة بهذا المعنى وهذا الشكل، مبنية على رابطة الدم والنسب العائلي. فالبركة النبوية تسري في عروق آل البيت بدون جهد ذاتي إرادي، وتمتد لتشمل الفضاء الاجتماعي وحتى الكون". (الجزائري وأسطورته : 82)
وفي بداية العصر الحديث منذ القرن الخامس عشر الميلادي، حدث تطورٌ هام باندماج المقدس الموروث بالمقدس المكتسب، عبر اتحاد ابن الصلب (الابن الطبيعي) مع ابن القلب (المريد أو السالك) أو بالتحام الطيني بالديني، مما أعطى دفعا قويا للمقدس وفاعليته الاجتماعية بتحول المقدس من الفرد كميزة شخصية، إلى المؤسسة كالولي المؤسس للقبيلة أو القطب مؤسس الطريقة الصوفية، مما نتج عنه ارتباط المقدس بالظاهرة العمرانية، بدوية كانت أم ريفية حضرية، عبر التأسيس أو إعادة التأسيس أو المباركة لضمان الحماية والاستمرارية. لقد أدى هذا التحول إلى تركيز مجال فاعلية المقدس داخل التشكيلات والبنى الاجتماعية للقبائل، بدوية كانت أم ريفية حضرية، عبر الدور الفعال الذي لعبه في تأسيس القبائل البدوية المعروفة بالمنطقة (شمال شرق الصحراء) مثل سيدي امحمد السايح الجد المؤسس لقبيلة أولاد السايح، وسيدي نايل الجد المؤسس لقبيلة أولاد نايل، عبر فرعها بالمنطقة عرش أولاد زكري.. إلخ
أما في ما يتعلق بالعمران الحضري، فقد كان للمقدس الدور المحوري في عملية التأسيس كما هو الشأن مع الولي سيدي امطير مؤسس بلدة أولاد جلال القديمة التي كان موقعها على الضفة الجنوبية لوادي جدي بجوار زاويته التي تضم الآن ضريحه والمقبرة المحيطة بها. أو عملية إعادة التأسيس التي قام بها تلميذه سيدي أحمد بن سالم، والتي بدأت ببناء دار للضيوف في الضفة الشمالية المقابلة، بناء على طلب من سيدي امطير وبرغبة من الولي سيدي عيسى بن امحمد، بعد أن منعه فيضان الوادي من العبور إليه لدى زيارته له، وانتهت بخراب الأولى، وعمران الثانية التي أصبحت نواة البلدة الحالية. وأخيرا عبر ضمان الحماية والاستمرارية بإضفاء البركة على العمران، كما هو الشأن مع مؤسسة مدينة توقرت الأميرة الأرملة تيقرت، بعد نفيها من طرف أهالي غمرة رعايا زوجها سلطان غمرة بعد وفاته، وطردها من طرف سكان بلدة الشماس الواقعة الى الجنوب بجوار توقرت الحالية، بالدعاء لها بالخير والبركة من الولي الصالح بالمسيلة بالحضنة سيدي بوجملين، نتيجة إساءة سكان الشماس معاملته عندما أتى لأخذ القفارة منهم، والكرم والحفاوة اللذين حظي بهما من طرف الأميرة. ثم الدور الذي قام به سيدي امحمد بن يحيى سلطان وادي ريغ الذي تولى الحكم لفترة انتقالية، في تأمين انتقال السلطة من الأميرة تيقرت التي لم تخلف من يرثها في الحكم بعد وفاتها، الى الشيخ سليمان بن جلاب الذي أسس حكم أسرة بني جلاب بالمنطقة بعد اتفاق بينه وبين السكان، يتنازل بموجبه الشيخ بن جلاب عن الديون التي كانت له في ذمتهم مقابل اعترافهم بسلطته عليهم". (الجزائري وأسطورته : 82-83)
6- الوظيفة الأمنية للمرجعية الصوفية : وتتمثل في توفير الأمن لجميع سكان المناطق التي تقع تحت حماية الطريقة الرحمانية، وذلك من خلال مبدأ "العناية" الشهير في منطقة القبائل وحتى على مستوى التعبير الشعبي في جميع المناطق الأخرى. بل إن هذا المصطلح/المفهوم (أقصد العناية) دخل حتى في نصوص المديح الصوفي للطريقة الرحمانية، حيث نجده في مدائح الباشتارزية وحنصالة وحتى في مدائح الطريقة العيساوية في مدينة قسنطينة وضواحيها.
وفي ذلك تقول بعض تلك القصائد الشهيرة التي ما تزال تغنى إلى اليوم، والتي نظمت في مدح سيدي امحمد بن عبد الرحمن مؤسس الطريقة الرحمانية :
"يا الشايب بابا مول العناية نندهك يا شيخي تحضر معايا الاشيب بن عبد الرحمن مرحبا بيكم يا الاخوان سادتي يا أهل الديوان كنتو عند الصيد المقحضر بابا امحمد يا بحر الجود كي نندهك وتجيني عجلان بابا امحمد فرجني في عدايا الاشيب بن عبد الرحمن"
فهذه "العناية" التي تتحدث عنها هذه القصيدة الصوفية، هي تلك الوظيفة الأمنية التي نتحدث عنها. وبموجبها كان الناس يتنقلون في طول البلاد وعرضها، لا يخافون على أنفسهم وأموالهم بمجرد أن يقول أحدهم : إنني في عناية سيدي امحمد بن عبد الرحمن، فلا يتعرض له أحد. بل إن قطاع الطرق الذين من عادتهم ممارسة الاعتداء والسلب والنهب، يتراجعون فورا إذا سمعوا عبارة "العناية" لأنهم في قراراة أنفسهم، حتى وهم قطاع طرق، يعتقدون أن من يعتدي على من دخل في "عناية" أو حماية الولي، تلحقه كارثة في الحال أو في القريب العاجل، سواء في نفسه أو ماله أو أهله. هذه الوظيفة الأمنية التي لم يستطع حتى البايلك العثماني توفيرها، استطاع الأولياء حتى وهم في قبورهم، أن يوفروها للناس.
ويلاحظ في هذا السياق، أن السلم هو ميزة مؤسسي العمران الريفي والحضري، بل هم ضحايا العنف كما هي الحال مع الأميرة تيقرت المنفية، أو الولي سيدي امحمد بن يحيى الذي توصل الى حل سلمي لمعضلة الديون بين سكان توقرت والشيخ سليمان بن جلاب،وهي الوضعية نفسها بالنسبة لمؤسس بلدة أولاد جلال القديمة حول زاوية سيدي امطير على الضفة الجنوبية لوادي جدي، الذي حاول في البداية الإقامة في بلدة سيدي خالد، ولكنه رُفض من طرف السكان ومُنع من الإقامة معهم، فعاد بعد طرده إلى الإقامة بجوار زاوية سيدي امطير التي صارت نواة للبلدة. أما التحاق السكان للإقامة بالبلدة فقد كان يغلب عليه الطابع السلمي، حيث يتم قدوم بعضهم بصفة لاجئين فارين من بطش أعدائهم، أو كنجدة بطلب من السكان الأصليين لمواجهة أعداء متربصين بهم، وأخيرا كمساعدين بصفتهم حرفيين، أو ناشري علم ومعرفة... إلخ". (الجزائري وأسطورته : 84)
أما في العصر الحديث، فنلاحظ وجود مجموعة من الصراعات الناتجة عن التحولات الاجتماعية، أو بسبب محاولات السلطة المركزية العثمانية ممثلة في بايليك الشرق، بسط نفوذها والتحكم مباشرة في المنطقة (شمال شرق الصحراء) منذ منتصف القرن 18 الميلادي، من خلال نزع منصب "شيخ العرب" من أسرة بوعكاز الدواودة (الذين كانوا يتوارثون هذا المنصب من العهد الحفصي، وتم إقراره في العهد العثماني) وزرع عائلة غريبة عن المنطقة، من خلال تنصيب الشيخ الحاج بن قانة في منصب "شيخ العرب"، ومحاولة توسيع نفوذ هذه الأسرة بنزع مشيخة توقرت من أسرة بني جلاب الذين كانوا يتوارثون الحكم فيها منذ القرن 15 الميلادي، وتنصيب أحد أفراد أسرة بن قانة فيه. فجميع الصراعات الناتجة عن هذه السياسة العثمانية، أدت إلى تحطم البنى الاجتماعية القديمة ذات النمط الإدماجي الهلالي وكل أشكال السلطة المحلية بالمنطقة في الثلث الأول من القرن 19 الميلادي، مما أدى بالنتيجة الى توسيع مجال ومكانة المقدس، حيث تجاوز مرحلة تأسيس القبيلة أو القرية، الى تأسيس ما يشابه الاتحادية القبلية التي تضم مجموعات مختلفة من القبائل البدوية والريفية الحضرية، وتشمل مناطق شاسعة من بوادي وأرياف وحضر في شكل طرق صوفية، وهو الوضع الذي يبدو أنه أثر على الأمير عبد القادر في اختيار خليفته بالمنطقة، حيث عين في هذا المنصب الشيخ لحسن بن عزوز شيخ الطريقة الرحمانية بها، رغم محاولات شيخ العرب بالمنطقة الشيخ فرحات بن اسعيد (بالتصغير : سكون السين وفتح العين وتشديد الياء المفتوحة) في الحصول على هذا المنصب مع الأمير، حيث أصبح للصراع مع أو بين الأولياء مؤسسي الطرق الصوفية أو فروعها بمنطقة شمال الصحراء، حضورٌ قوي، وذلك بسبب السياسة التي انتهجها البايليك العثماني في الجزائر.
ففي منطقة الزاب، وبسبب مضاعفات ومخلفات السياسة العثمانية المذكورة، كان الصراع بين تلاميذ الشيخ سيدي محمد بن عزوز ناقل الطريقة الرحمانية الى المنطقة، ومن بعده الشيخ سيدي علي بن عمر مؤسس فرعها بطولقة، ممثلا في كل من الشيخ المختار، والشيخ علي الجروني، وهو الصراع الذي انتهى بخروج الشيخ المختار من بلدة سيدي خالد الى أولاد جلال حيث أسس الزاوية المختارية، أو طرده من أفراد عشيرته حسب رواية أخرى، حيث تحول هذا الصراع الى صراع بين البلدتين. أما في منطقة وادي ريغ، فتمثلت هذه المضاعفات في الصراع بين الشيخ بن جلاب سلطان توقرت وبين سيدي الحاج علي التماسيني مؤسس الزاوية التجانية بتماسين، بسبب تدخل سيدي الحاج علي في الصراع بين فرع أسرة بن جلاب الحكام في تماسين، مع سلطان توقرت ودخول قبائل المنطقة في الصراع، وبالأخص قبائل منطقة وادي سوف كحلفاء للمحورين المتصارعين". (الجزائري وأسطورته : 85-86)
ما ينبغي التأكيد عليه في هذا السياق، هو أن هذه المآلات الصراعية الاجتماعية، لا ترتبط بطبيعة المقدس (ممثلا هنا في الولاية الصوفية المرابطية) وإنتاجه للعنف كما فهمه بعض الباحثين، بل هي مرتبطة بطبيعة البني السلطوية وسياسات البايليك العثماني ومضاعفاتها ونتائجها، وكذلك طبيعة العلاقات الاجتماعية ذات الطبيعة القبلية في تلك المرحلة، والتي ما تزال الى اليوم تؤثر على مآلات الواقع الاجتماعي الجزائري في العديد من المناطق، وذلك من خلال الصراعات الاجتماعية التي ما نزال نشهدها من حين لآخر بين مختلف العروش والقبائل، والتي حاول البعض منحها طابعا دينيا طائفيا من أجل حشر المقدس في دائرة العنف، وإلباسه عباءة ذلك العنف كما حدث ويحدث من حين لآخر بين مزاب والشعانبة في منطقة غرداية على سبيل المثال لا الحصر. والدليل على أن هذه الصراعات المذكورة ليست لها علاقة بالمقدس، هو أننا لا نجد لها أثرا في منطقة القبائل مهد الطريقة الرحمانية وموطنها الأصلي. والسبب في ذلك هو فشل سياسة التفريق التي كان يحاولها البايليك العثماني، من أجل إدخال الصراعات الى المنطقة. من هنا فالقول بأن مأسسة المقدس تؤدي بالضرورة الى تحرك آليات العنف وبالتالي إنتاج العنف الاجتماعي وفتح المجال لممارسته، هذا كلام قد يكون فيه بعض الحقيقة عند البحث العميق، لكنه لا يمكن أن يعمم بحال من الأحوال.
وفي سياق وظيفتها الدينية الثقافية، عملت المرجعية الصوفية ممثلة في الطريقة الرحمانية على مقاومة الحرب الدينية الثقافية التي شنها الآباء البيض على منطقة القبائل بعد الاحتلال الفرنسي للبلد، حيث أفشلت المرجعية الصوفية تلك الحملة التنصيرية التعسفية الشرسة التي قادها الكاردينال لافيجري في بلاد القبائل بعد 1870، فيما عدا بعض الاستثناءات في قرى واضية، واغزن، وبني يني، على سبيل المثال.
ولا يخفى في هذا السياق، الدور الأساسي الذي لعبته المرجعية الدينية الصوفية، ممثلة في الزوايا والطرق، وبخاصة الطريقة الرحمانية، في قيادة المقاومة المسلحة ضد المحتل الفرنسي، حيث استشهد أكثرمن 17 ألف طالب على أسوار الجزائر المحروسة في معركة سطاوالي الشهيرة، جاءوا كلهم من منطقة القبائل التي تمثل مركز الثقل للطريقة الرحمانية. للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع تراجع الدراسة الهامة التي أنجزها الباحث يوسف نسيب باللغة الفرنسية تحت عنوان "الأغاني الدينية في جرجرة"
الحركة الإصلاحية والمرجعية الدينية الصوفية :
تبنت الحركة الإصلاحية في الجزائر، ممثلة في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الخطاب الوهابي السلفي في الجانب الديني، والخطاب الاندماجي في الجانب السياسي، وذلك منذ انطلاقها. وفي هذا الإطار شنت "الإصلاحية" حربا لا هوادة فيها من خلال صحافتها ومختلف منابرها، ضد المرجعية الدينية الصوفية ممثلة في الزوايا والطرق. ومن المؤسف حقا في هذا السياق، أننا منذ استقلال الجزائر واسترجاع السيادة الوطنية، أصبحنا لا نسمع (سواء على مستوى الإعلام أم البرامج الدراسية في جميع المستويات) إلا وجة نظر واحدة، هي وجهة نظر الإصلاحيين، بينما تغيب عمدا وجهة نظر المرجعية الصوفية، التي كانت هي الأخرى لها صحافتها أثناء المرحلة الاستعمارية، والتي لا تقل أهمية عن الصحافة الإصلاحية. بل إن الجمهور الجزائري اليوم، لا يعرف أن المؤسسين الحقيقيين الأوائل لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، هم الصوفية. وعندما اكتشفوا أن ثمة من يريد أن يسير بهذه الجمعية في الاتجاه السلفي الوهابي الذي يتنكر لأصولنا وجذورنا وثقافتنا الصوفية المرابطية، خرجوا منها وأسسوا جمعية أخرى اسمها "جمعية علماء السنة" التي ترأسها الشيخ العلامة المولود الحافظي الأزهري. لكن هذا كله لا يسمع به أحد، لأنه ببساطة تاريخٌ مغيب حتى إشعار آخر، بعد أن تبنت الدولة الوطنية رسميا الخطاب الإصلاحي، لتفتح المجال واسعا أمام رموزه أو من تبقى منهم، ليفتحوا النار على المرجعية الصوفية ورموزها من خلال سيطرتهم على برامج التعليم ومؤسسات الإعلام، وحتى وزارة الشؤون الدينية التي عملوا من خلالها على محاربة التصوف في ملتقياتهم وندواتهم، والتي أشهرها "ملتقى الفكر الإسلامي" الذي كانت تنظمه الوزارة سنويا بعد أن أطلقه الراحل مالك بن نبي من منح الطلبة الجامعيين، لتتبناه الدولة بشكل رسمي بعد ذلك. (راجع حول "جمعية علماء السنة" وملابسات تأسيسها وتفاصيل نشاطها : محمد الصالح آيت علجت، الشيخ المولود الحافظي حياته وآثاره) وعندما نقول إن الحركة الإصلاحية تبنت الخطاب السلفي الوهابي في توجهها الديني فنحن لا نأتي بشيء من عندنا. يقول محمد الصالح آيت علجت في كتابه المذكور آنفا، عن الشيخ المولود الحافطي : "إنه (أي الشيخ المولود) ينكر الفساد ويندد به بصراحة. فمن ذلك اختلافه مع بعض أعضاء جمعية العلماء التي كان أحد واضعي أساس قيامها (مع هذا فالإصلاحيون اليوم لا يعترفون له بذلك) كان الاختلاف من أجل الحط من كرامة الزوايا والمرابطين والتشويه لسمعتهم وإحداث النفرة بينهم وبين العامة.. إن الشيخ المولود صوفي سني زاهد، يحب في الصوفيين نشاطهم في الدعاية للإسلام والتعاون والتآخي. ولقد نوه بفضل الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي المستغانمي والآثار الإيجابية التي خلفها وراءه من الأعمال الجليلة لخير الإسلام عبر الريف المغربي وأوروبا عامة وفي فرنسا بصفة خاصة.. فلم يكن الأول الذي استاء من تصرفات يقوم بها بعض الأعضاء من جمعية العلماء باسم الجمعية، فمن هؤلاء الشيوخ : موسى العقبي، والحسن بولحبال مفتي بجاية، ومحمد العاصمي مفتي المذهب المالكي في الجزائر، ومحمد السعيد الزاهري، والطيب العقبي، وغيرهم". (الشيخ المولود الحافظي حياته وآثاره : 57-62) ويقول في مكان آخر :"ولم يكن الشيخ المولود يميل إلى العنف اللفظي الذي كان يتبناه بعض شيوخ الجمعية، كالذي يقول مثلا في جمع غفير : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى ولا الطرقيون حتى تتبع ملتهم. يقول هذا الكلام في حضور قطبي الطرقية الشيخين أحمد بن مصطفى العلوي ومصطفى القاسمي، مما أدى بهما إلى مغادرة المجلس احتجاجا على إذاية وتهجم وتعريض صريح بهما يجعلهما مثل اليهود والنصارى". (الشيخ المولود الحافظي حياته وآثاره : 64) ونظرة واحدة على النصوص المؤسسة لجمعية العلماء المسلمين، تكفي للحكم بأنها كانت تتبنى الخطاب السلفي الوهابي في توجهها الديني. فهي تحصر الحقيقة الدينية في "فهوم أئمة السلف" حيث يقول الأصل السادس من أصولها العشرين : "فهوم أئمة السلف الصالح أصدق الفهوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسنة". ولا يخفى أن عبارة "السلف الصالح" مفهوم فضفاض جدا، يمكن لكل أحد أن يحمله ما شاء من المفردات والمصاديق. ومن المعروف أن السلفيين والوهابيين يتعسفون عندما يحصرون مفهوم هذه العبارة، في من يقبلون آراءهم من الفقهاء كابن تيمية وابن القيم وغيرهما، بينما يتهمون غيرهم من العلماء والفقهاء بالابتداع والضلال، كما فعلوا بالنسبة لأبي الحسن الأشعري والباقلاني وأئمة الصوفية وغيرهم. وهكذا نجد أن ما لا يقل عن ستة 06 أصول من أصول جمعية العلماء المسلمين، ترتبط بتبديع وتضليل الصوفية، حيث يقول الأصل السادس عشر مثلا : "الأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السلف ومبناها كلها على الغلو في الشيخ" إلخ.. (راجع : عبد الحميد بن باديس نصوص مختارة، جمعها وعلق عليها الدكتور محمد القورصو، ص 64-65)
وعندما نقول إن الحركة الإصلاحية تبنت الخطاب الاندماجي في توجهها السياسي، هنا كذلك لا نأتي بشيء من عندنا، لأننا عندما ندرس كلام الرئيس الأول لهذه الحركة وهو الشيخ عبد الحميد بن باديس، نجد ذلك واضحا بما لا يدع مجالا للشك : يقول الشيخ عبد الحميد :"ينبغي أن نقاوم الأخطار التي أوشكت أن تكتسح اللغة العربية وتخمد عاطفة اللهفة على اللغة الفرنسية. والطريق الموصل إلى الهاب عاطفة الرغبة ذيادا على حياض اللغتين معا، هو تأسيس المدارس الحرة الابتدائية لإحياء الأولى، والسمو بالثانية إلى قمتها". (عبد الحميد بن باديس نصوص مختارة : 34) فالمسألة ليست بالنسبة إليه مجرد الدفاع عن وجود وبقاء اللغة العربية في الجزائر، بل هي أيضا المحافظة على اللغة الفرنسية وبقائها، بل والسمو بها إلى أعلى المراتب، كما قال. يقول الشيخ عبد الحميد عن جمعية العلماء المسلمين : إنها "تريد أن تعمل في دائرة فرنسا الواسعة النطاق، دون أن تتجاوز بوجه، ما حدته القوانين" (نصوص مختارة : 43) كان الشيخ عبد الحميد رحمه الله يمارس خطابا سياسيا مداهنا لحكومة الاحتلال الفرنسي، حيث يقول عن الجمعية : "أما موقفها مع الحكومة، فهو المطالبة والاحتجاج من ناحية الجمعية، والصد والإعراض من الناحية الأخرى. ولقد كنتُ في خطاب السنة الماضية (هذا الكلام سنة 1937) علقتُ رجاء الجمعية على الحكومة الشعبية وحسنتُ الظن بها. وأنا أعلم اليوم، مع الأسف المر، خيبة ذلك الظن ووهن ذلك الرجاء. فحسبنا إيماننا بالله وثقتنا بأنفسنا، فذلك والله أجدى لنا وأعود بالخير علينا. وأما موقف الجمعية مع الأحزاب، فأعيد فيه نص ما قلته السنة الماضية : إن الإسلام عقد اجتماعي عام، فيه جميع ما يحتاج إليه الإنسان في جميع نواحي الحياة لسعادته ورقيه. وقد دلت تجارب الحياة كثيرا من علماء الأمم المتمدنة، على أن لا نجاة للعالم مما هو فيه، إلا بإصلاح عام على مبادئ الإسلام.. فالمسلم الفقيه في الإسلام غني به عن كل مذهب من مذاهب الحياة. فليس للجمعية إذا من نسبة إلا إلى الإسلام. وبالإسلام وحده تبقى سائرة في طريق سعادة الجزائر، والبلوغ بها إن شاء الله إلى أرقى درجات الكمال.. وأزيد اليوم، أن الجمعية لا توالي حزبا من الأحزاب ولا تعادي حزبا منها.. وأما موقفها مع المؤتمر، فقد أوكلته لمن شاء من رجالها، ليحافظ فيه على اللغة والقومية والمطالب الدينية والعلمية، يعمل فيه على مسؤوليته لا على مسؤوليتها". (نصوص مختارة : 55-56) ينبغي في بداية التعليق على هذا الكلام، ملاحظة أن هذا الخطاب في مضمونه، هو خطاب مداهن للحكومة الفرنسية، خطابٌ لا ينصر حقا ولا يخذل باطلا، رافضٌ للعمل الوطني، كأنه يقول : الجمعية هي كل شيء، وكل ما هو ومن هو خارجها كلا شيء. وبالتالي فهذا الخطاب إقصائيٌ بشكل من الأشكال. ثم نطرح السؤال التالي : لماذا تحالفت "الجمعية" إذن مع الحزب الشيوعي وحزب فرحات عباس الإندماجي ضمن ما سُمي "المؤتمر الإسلامي"، ما دامت تكتفي بالإسلام ولا تحتاج إلى غيره في جميع نواحي الحياة ؟؟ ثم لماذا يريد الشيخ أن يتنصل من مسؤولية "الجمعية" في موقفها مع المؤتمر الإسلامي ؟ وهل من المعقول أن يكون الموقف السياسي لرجال "الجمعية" غير معبر عن الموقف السياسي للجمعية نفسها ؟ وهل من المعقول أن يعمل رجال "الجمعية" على مسؤوليتهم ولا تكون "الجمعية" مسؤولة سياسيا عن أعمالهم ومواقفهم ؟ بتعبير آخر : هل من المعقول مثلا، أن يكون العربي بن مهيدي من رجال جبهة التحرير الوطني التاريخية، ثم لا تكون هذه "الجبهة" مسؤولة عن أعماله ومواقفه ؟ ثم إذا كانت جمعية العلماء لا تعتبر نفسها مسؤولة عن عمل رجالها ضمن "المؤتمر الإسلامي" فلماذا لم تعلن عن ذلك في حينه ؟ بل في هذه الحال، لماذا شارك شيوخ الجمعية أنفسهم (ابن باديس، العقبي، والإبراهيمي) في المؤتمر وذهبوا إلى باريس لعرض لائحة مطالبه على الحكومة الفرنسية ؟ وأخيرا : هل هذا الكلام من الشيخ عبد الحميد، يعبر عن واقع أم هو ببساطة محاولة مكشوفة للتنصل من المسؤولية السياسية للجمعية بعد فشل مشروع "المؤتمر الإسلامي" ؟
وفي الوقت الذي يحذر فيه الشيخ عبد الحميد، المسلم الجزائري من الارتباط بالصوفية والطرقيين والمرابطين، نجده يقول لهذا المسلم الجزائري :"احذر من التعصب الجنسي الممقوت، فإنه أكبر علامة من علامات الهمجية والانحطاط. كن أخا إنسانيا لكل جنس من أجناس البشر، وخصوصا ابن جلدتك المتجنس بجنسية أخرى (أي الجزايريون الأنديجان الذين تجنسوا بالجنسية الفرنسية. يقول هذا في الوقت الذي حرم فيه التجنس) فهو أخوك في الدم الأصلي.. حافظ على مبادئك السياسية، ولا سياسة لك إلا سياسة الارتباط بفرنسا والقيام بالواجبات اللازمة لجميع أبنائها، والسعي لنيل جميع حقوقهم. فتمسك بفرانسة العدالة والأخوة والمساواة، فإن مستقبلك مرتبط بها. ثق بأن سياسة الصدق والصراحة والإخلاص، المرتكزة على الحب والعمل والتعاون، لا بد أن تظهرك أمام العالم بمظهرك الحقيقي رغم كل الغيوم التي ينشرها حولك خصومك ومنافسوك، فتعطيك حينئذ فرنسا جميع الحقوق، كما قمت لها بجميع الواجبات، وتحيا حياة طيبة كجميع أبناء العالم العاملين المخلصين". فالشيخ ضد الطرق الصوفية، لكنه مع فرنسا ويحث الشعب الجزائري على الارتباط بسياستها. (نصوص مختارة : 66-67)
ومن الأمور التي ينبغي توضيحها، أن الشيخ ابن باديس يفصل ويفرق بين ما يسميه "الجنسية القومية" و"الجنسية السياسية".. فأما من ناحية "القومية الجنسية" فنحن مسلمون، لنا ديننا ولغتنا وثقافتنا الخاصة. وأما من ناحية "القومية السياسية" فنحن مرتبطون بفرنسا، بل فرنسيون على حد قوله. لكن مشكلتنا، هي أن فرنسا أخذت منا الواجبات ولم تعطنا حقوقنا كمواطنين من رعاياها، لهذا علينا أن نطالبها بذلك بالتي هي أحسن.. يقول الشيخ ابن باديس في مقال له منشور في "الشهاب" بتاريخ فيفري سنة 1937 : "نحن الأمة الجزائرية، لنا جميع المقومات والمميزات لجنسيتنا القومية. وقد دلت تجارب الزمان والأحوال، على أننا من أشد الناس محافظة على هذه الجنسية القومية، وأننا ما زدنا على الزمان إلا قوة فيها وتشبثا بأهدابها، وأنه من المستحيل إضعافنا فيها، فضلا عن إدماجنا أو محونا. أما من الناحية السياسية، فقد قضى قانون 1865 باعتبارنا فرنسيين، لكنه نفذ وينفذ تنفيذا جائرا، فيفرض علينا جميع الواجبات الفرنسية دون حقوقها.. فنهضت الأمة (يقصد الجزائرية) بمؤتمرها الفخم الجليل (ها هو الآن يتبنى المؤتمر الإسلامي) وقررت فيه بالإجماع : المحافظة التامة على المميزات الشخصية والمطالبة بجميع الحقوق السياسية. وأدرك أقطاب الواجهة الشعبية أحقية هذا الطلب، وأدركوا أن لا بقاء للأمة الجزائرية مرتبطة بفرنسا، إلا إذا أعطيت حقوق الجنسية الفرنسية السياسية، مع بقائها على جنسيتها القومية بجميع مميزاتها ومقوماتها، فتقدموا لمجلس الأمة الفرنسي بالقانون المعروف اليوم ببروجي بلوم – فيوليط، وتلقاه الذين يقدمون مصالحهم الفردية والاستعمارية على مصالح فرنسا الحقيقية، بما هو معروف من معارضة بذية ظالمة منكرة. وتلقته الأمة الجزائرية التي ترضى بالارتباط بفرنسا في حقوقها وواجباتها، وهي الجنسية السياسية، ما دامت محترمة في جنسيتها القومية، وهي تلك المقومات والمميزات بشرط لا بد منه : وهو أن يكون التساوي تاما في جميع تلك الحقوق دون تخصيص لحق دون حق ولا تمييز لطبقة عن طبقة. ولهذا اعتبرت (يتحدث باسم الأمة الجزائرية) بروجي بلوم – فيوليط قليلا جدا بالنسبة لحقوقها، وإنما تقبله اليوم كخطوة أولى فقط، يجب بعد تنفيذها أن يقع الإسراع في بقية الخطوات إلى تحقيق التساوي التام العام الذي هو الشرط الطبيعي في سنن الاجتماع في بقاء الارتباط بصفاء وإخلاص. وإذا لم يكن فلا عتب على الزمان، وما شاء الله كان. إننا بكلامنا هذا نعرب عن فكر الأكثرية العظمى من الأمة الإسلامية الجزائرية، ونعلم أن هنالك من لا يرضيهم هذا، ومن لهم نظرات أخرى لها حظها من الاعتبار. وإننا نتحقق أن الموقف الذي يقفه البرلمان الفرنسوي يوم تعرض عليه المسألة، هو الذي يوجه الأمة الجزائرية إحدى الوجهتين. فالمستقبل بيده، والأمر لله من قبل ومن بعد". (نصوص مختارة : 89-90)
إن كلام الشيخ ابن باديس له دلالات خطيرة وعميقة جدا، فهو يدل على أنه غير مهتم لكوننا فرنسيين بقدر ما هو مهتم للجور في تنفيذ القواننين التي تجعل منا فرنسيين، ثم إذا كان الشيخ يتحدث باسم الأغلبية الساحقة من الجزائريين آنذاك كما يقول، فمعنى ذلك أن الاندماجيين كانوا أغلبية بينما كان الوطنيون يمثلون الأقلية.. بعبارة أخرى : إن الشعب الجزائري كان في أغلبيته اندماجيا ولم يكن وطنيا استقلاليا.. أي إن الشعب الجزائري كان يريد الالتحاق بفرنسا، لا الاستقلال عنها.. وهذا بالضبط ما جعل الزعيم الوطني مصالي الحاج ومعه جميع الوطنيين الاستقلاليين الثوريين المخلصين للقضية الوطنية، يرفضون مشروع بلوم- فيوللت الذي أيده المؤتمر الإسلامي ومعه "جمعية العلماء"، بل إن مصالي تناقش ساعات طويلة مع العلماء الثلاثة الذين ذهبوا إلى باريس (ابن باديس، العقبي، الإبراهيمي) لكن ذلك لم يجد نفعا، لأن الشيخ ابن باديس قال له : لقد سلمنا العريضة وانتهى الأمر. (راجع مذكرات مصالي الحاج)
ويقول الشيخ ابن باديس في مقال آخر منشور في "الشهاب" بتاريخ 13 نوفمبر 1937 :
"إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها، لا تريد أن تندمج. ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة، والذي يشرف على إدارته العليا السيد الوالي العالم المعين من قبل الدولة الفرنسوية. (من الواضح أنه يتحدث هنا عن الجزائر التابعة لفرنسا، لا عن الجزائر الحرة المستقلة) ثم إن هذا الوطن الجزائري الإسلامي، صديق لفرنسا مخلص، وإخلاصه إخلاصٌ قلبيٌ لا إخلاصٌ ظاهري، يُخلص لها إخلاص الصديق لصديقه، لا إخلاص التابع لمتبوعه. فهو في حالة السلام والأمن يطلب من فرنسا أن تحترم دينه ولغته، وتمهد له السبيل ليرتقي ضمن دينه ولغته وأخلاقه، وتسبغ عليه نعم الحرية والعدل والمساواة حتى يصبح في رقيه وحريته وسعادته، نموذجا للإدارة الفرنسية والتعاون الأهلي الفرنسي، وتستطيع فرنسا أن تفاخر به الذين يتباهون بما عملوه في مستعمراتهم الحرة. أما في حالة الأزمات العالمية، وحين اشتداد الخطب، وإذا تكلم الرصاص وارتقت السيوف فوق منابر الرقاب، فالمسلم الجزائري يهبُ كالليث من عرينه، للدفاع عن الأرض الفرنسية كما يدافع عن أرضه الجزائرية وعن حريمه وأطفاله. ولو لم تجنده فرنسا، لسار للدفاع عنها متطوعا. ولنا في مختلف الواجهات الحربية الفرنسية، عشرات الآلاف من قبور المتطوعين تشهد بهذا. فنحن الجزائريين المسلمين العائشين في وطننا الجزائري، والمستظلين بالعلم الفرنسي المثلث الألوان والمتحدين مع الفرنسيين اتحادا متينا لا تؤثر عليه الحوادث الطفيفة أو الأزمات السطحية، نعيش مع الفرنسيين عيش الأصدقاء المخلصين، نحترم حكومتهم وقوانينهم ونطيع أوامرهم ونواهيهم، ونريد منهم أن يحترموا ديننا ولغتنا، ويحفظوا كرامتنا، ويأخذوا بأيدينا في طريق النهضة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهكذا نعيش وإياهم أصدقاء مخلصين. وإذا جاءت ساعة الموت في سبيل الدفاع عن الوطن الفرنسي وعن الوطن الجزائري، وجدونا في صفوفهم الأولى لنموت إلى جانبهم موت الأصدقاء المخلصين. وعلى هذا الأساس، توضع الأمور في مواضعها ويحصل التفاهم ويزول كل التباس". (عبد الحميد بن باديس نصوص مختارة : 95-96) مع ملاحظة أن جملة (والذي يشرف على إدارته العليا السيد الوالي العام المعين من قبل الدولة الفرنسوية) وردت بخط مشدد في النص الأصلي المنشور في "الشهاب"، ولذلك شددنا عليها هنا.. وفي مقال آخر تحت عنوان "كلمة مرة"، يعيد الشيخ ابن باديس الكلام نفسه المذكور أعلاه، ويعلق عليه بما يلي :"فجلينا بكلمتنا هذه الحقيقة مكشوفة في وضح النهار، وقطعنا الطريق على كل متقول بالباطل، وأرحنا كل باحث ومتردد من بحثه وتردده. وإلى ذلك، فإننا لم نكن خياليين ننكرُ الواقع ونكابر في المحسوس، فقد ختمنا كلمتنا بإشراف الوالي العام وتعيينه من الدولة الفرنسوية". (نصوص مختارة : 97)
أليس هذا خطاب الإندماجيين ؟ أليس هذا خطاب فرحات عباس قبل أن يلتحق بالركب الثوري ؟ بل لعل هذا الخطاب هو أكثر اندماجية من خطاب الاندماجيين أنفسهم.. إن هذا الكلام فيه تنازلٌ واضحٌ عن مطلب الاستقلال السياسي، بل تنكرٌ لهذا المطلب. ومن المعروف أن التيار الاندماجي لم يطالب أبدا بأن يصبح الجزائريون مسيحيين، بل إن هذا التيار أكد دائما وفي مختلف مراحله السياسية، على ضرورة التمسك بالخصوصية الثقافية الجزائرية بما يشمل الخصوصية الدينية والعادات والتقاليد وغير ذلك.. والنقاش بين مختلف اتجاهات الحركة الوطنية، إنما كان حول مطلب الاستقلال السياسي بالدرجة الأولى، وهو المطلب الذي يتنكر له الخطاب الإصلاحي الباديسي بشكل صريح وواضح. إن الشيخ ابن باديس يتهم الوطنيين الاستقلاليين الثوريين بأنهم "خياليون ينكرون الواقع ويكابرون في المحسوس".. إنه يقول لفرنسا : لا تحاولي أن تجعلي منا فرنسيين في ثقافتنا، لأنك لن تنجحي في ذلك. ولكن بإمكانك أن تجعلي منا فرنسيين في التبعية السياسية لك، وهنا ستنجحين حتما، حيث إننا سنحترم قوانينك ونطيع أوامرك ونواهيك، إن أنت أعطيتنا كل ما تعطينه لمواطنيك من الحقوق في مقابل الواجبات التي نؤديها لك.
وفي مقال آخر تحت عنوان "طليعة الوفد الجزائري"، منشور في "الشهاب" بتاريخ جوان 1933، يقول الشيخ ابن باديس : "كان من نتيجة حرب الخمور بين فرنسا والجزائر، وهي الحرب التي بسطنا عنها القول مرارا، أن تدخل في موضوعها مسيو جوزيف كابو، رئيس وزراء فرنسا الأسبق وأشهر رجال الاقتصاد فيها. يقترح مسيو كابو أن تعلن فرنسا استقلال أرض الجزائر على طريقة الدومنيون، أو المستعمرات الحرة، كأستراليا وكندا وغيرها، بحيث تصبح الجزائر حكومة فرنسية مستقلة، لها إدارتها وجندها ووزراؤها، ولها برلمانها وقوانينها، ولها أن تعقد الاتفاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية حتى مع كل من تريد أن ترتبط معه برباط المعاملة. ولقد أثار هذا الاقتراح ضجة كانت متوقعة، نظرا لقيمة الاقتراح ونظرا لقيمة الذي أصدره. والمسألة اليوم بين أخذ ورد وجدال كبير. فمن رجال الاستعمار الكبير الفرنسي من قبل هذه الفكرة على علاتها ويحبذها، لأنه يراها محققة لآماله، لأنها تجعله مالك البلاد دون منازع. ومن رجال الاستعمار الصغير من يردها، لأنه يرى أنه سيذهب فيها ضحية الاستعمار الكبير. أما المفكرون من المسلمين، فإنهم يردون هذه الفكرة، ويريدون أن تلحق الجزائر رأسا بفرنسا، لأنهم إن ظلموا هنا يجدون من يسمع صوتهم هناك. أما إن أعلن الدومنيون، فإنهم يكونون تحت رحمة الاستعماريين الصغير والكبير". (نصوص مختارة : 104)
وفي مقال تحت عنوان "سفر الوفد" صادر في "الشهاب" بتاريخ جويلية 1933، يقول الشيخ ابن باديس : "سافر الوفد الإسلامي الجزائري الكبير إلى فرنسا، لكي يؤيد أمام الرأي العام الفرنسي، وأمام رجال الحكومة والنواب، برنامج الإصلاحات الجزائرية، الذي قدمه رجل فرنسا الحر وصديق الجزائر الحميم مسيو موريس فيوليت، إلى مجلس الشيوخ، وسيقع البحث في شأنه أمام المجلس العالي أواخر جوان الحالي. ومشروع السيناتور فيوليت ليس بالمشروع الغريب عند قراء "الشهاب" فقد كنا لخصناه لقرائنا عندما أعلن به صاحبه، وذكرنا أهم ما احتوى عليه مثل إدخال الطبقات الأهلية المتنورة (يقصد الأنديجان المتعلمين) في دائرة الانتخابات الفرنسية لمجلس الشيوخ والأمة، وتعميم الجنسية الفرنسية على كل تلك الطبقات والمتوظفين وحاملي الشهادات العلمية وأضرابهم، بحيث يكون الجميع فرنسيين يتمتعون بسائر الحقوق، وينمو عددهم بالتدريج شيئا فشيئا، إلى أن تتكون منهم قوة في البلاد ذات بال. وبما أنه قد تقرر من مختلف النصوص الشرعية والأحكام الفقهية، أن المتجنس بجنسية أجنبية يعد مرتدا عن الإسلام لقبوله طوعا واختيارا الخروج عن بعض أحكام القرآن، فإن فيوليت يرى لملافاة ذلك، وجوب النص على أن المسلمين الذين ينالون الجنسية الفرنسية بهذه الطريقة، يحتفظون مع تجنسهم على أحكام الشرع الإسلامي في حالتهم الشخصية، أي أنه يريد أن يجعل طبقة من الفرنسيين لا تخضع تمام الخضوع للقانون المدني الفرنسي. ونحن نعتقد الساعة اعتقادا، بأن مجلس أمة فرنسا لن يقبل هذه الفكرة لمخالفتها نصوص الدستور، اللهم إلا إذا اتفق المجلسان على عقد مؤتمر فرساي الوطني، لإجراء تنقيح في الدستور يبيح هذه الحالة.. إن مشروع م. فيوليت يُعد انقلابا في الحياة العامة السياسية والاجتماعية بالقطر الجزائري. ولقد كاد النواب في بلاد الجزائر يجمعون على استحسان برنامج م. فيوليت ويسعون السعي الحثيث لتحقيقه، وكذلك قررت جمعية النواب لعمالة قسنطينة وجمعية النواب لعمالة وهران، واجتمعت أخيرا جمعية النواب لعمالة الجزائر في قاعة نادي الترقي وقررت كلها قبول ذلك البرنامج وتشكيل وفد كبير يؤم البلاد الفرنسية لمقابلة رجال الحل والعقد بها.. وقلما اتفقت الجزائر مثل هذا الاتفاق". (عبد الحميد بن باديس نصوص مختارة : 105-106) وفي مقال آخر صادر في "الشهاب" بتاريخ جويلية 1936، يتحدث الشيخ ابن باديس عن مشروع فيوليت الإندماجي بكثير من الانبهار والإعجاب، حيث يقول : "أول برنامج عرف في عالم السياسية الفرنساوية الجزائرية مختصا بالمسلمين الجزائريين، هو برنامج م. فيوليت، وصاحبه من أبرز المشتغلين بالسياسة الأهلية الجزائرية، وقد أدار برنامجه على اعتبارات سياسية دقيقة لا يفهمها إلا الراسخون في علم السياسة، وأفرغه في قالب لفظي مستهو خلاب، ينطوي على معان غامضة ويحتمل وجوها كثيرة من الاحتمالات والتفسيرات".. (نصوص مختارة : 114) وبعد "المؤتمر الإسلامي" ونتائجه الكارثية، وجه الشيخ ابن باديس "نداء الى الأمة الجزائرية ونوابها" وهو عنوان مقاله الصادر في "الشهاب" بتاريخ سبتمبر 1937، يقول فيه : "أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام.. تناسوا الحزازات، امحقوا الشخصيات، برهنوا للعالم أنكم أمة تستحق الحياة، برهنوا لفرنسا أنكم كما وقفتم معها في الحرب صفا واحدا تدفعون عنها، تقفون في السلم صفا واحدا، تدافعون الأنانيين منها الذين هم مثل أعدائها".. (نصوص مختارة : 119) وفي مقال تحت عنوان "الشمال الأفريقي كيف يجب أن يعالج" صادر في "الشهاب" بتاريخ نوفمبر 1937، يقول الشيخ ابن باديس : ".. أما نحن، ونحن أعرف بأنفسنا، فإننا نتيقن أن هذه الأمم الإسلامية العربية استيقظت من سباتها وهبت للنهوض من كبوتها، وشعرت لكرامتها، وأخذت تذكر ماضيها أيام حريتها واستقلالها، وهو غير بعيد في الماضي عنها، فانبعثت تعمل لفك قيودها ونيل حريتها وتبوء منزلتها اللائقة بها كسائر الأمم التي ليست هي، في قوميتها وتاريخها، دونها. غير أنها تريد أن تكون مع فرنسا وتكون فرنسا معها كأستاذ نصوح وتلميذ بار، يتبادلان الصداقة والاحترام، ويتعاونان في الرخاء والشدة. هذا لعمر الله هو حقيقة نفسية هذه الشعوب، وهذا هو سبب ثورتها على الظلم وإبايتها من استمرار الحال على ما كان. وما من علاج بعد هذا، والله، إلا تبديل السياسة العتيقة الرثة البالية، بسياسة جديدة تعترف لهذه الشعوب بكيانها القومي، وتفسح أمامها مجال العمل للتقدم والرقي، وتنيلها أعظم قسط من التحرير، وتشعرها بأنها تساندها لتبلغ رشدها، فتكون بدورها يوم رشدها التام، عضدا وأي عضد لها". (نصوص مختارة : 150)
بل إن الشيخ ابن باديس، ذهب إلى حد الدفاع عن المعمرين وعن إنتاج الخمور في الجزائر آنذاك.. ففي المقال المذكور سابقا تحت عنوان "سفر الوفد" وبعنوان فرعي "هل تقتل فرنسا الجزائر" يقول الشيخ : "يوم 20 جوان الحالي، وقعت في عاصمة الجزائر مظاهرة عظمى، كانت هي الأولى من نوعها بهذه المدينة، حضرها ما ينوف عن الأربعة آلاف شخص، بين مستعمرين كبار وصغار، وعملة وغيرهم، حتى غصت بهم مقاعد مسرح الماجستيك العظيم. والقصد من ذلك الاجتماع إظهار الاستياء من قرار لجنة المشروبات بمجلس الأمة الفرنسي، ذلك القرار الذي قضى بأن يكون دخول الخمر الجزائري لفرنسا بمقدار معين، إجابة لرغبة منتجي الخمور من سكان جنوب فرنسا، وبذلك تتم ترضية هؤلاء، وينال المستعمرون الأوروبيون في الجزائر ضربة قاسية. وكانت الخطب عنيفة والحملة شديدة، وما أدراك ما حملة مستعمرن يريدون أن يدافعوا عن حياتهم وثروتهم، تجاه الاعتداء الذي يريد سكان جنوب فرنسا أن يعتدوا به عليهم بواسطة وبإعانة مجلس الأمة الفرنسي. وكانت الأقوال التي سمعها الناس من خطباء الحفلة، والقرار الذي اتخذه الحاضرون، تضرب كلها على وتر واحد : الجزائر قطعة من فرنسا، تابعة لوزارة الداخلية، وبها ثلاث مقاطعات فرنسية، وأهلها شاركوا الأمة الفرنسية في كل نكباتها وساعاتها الحرجة وأزماتها من الحرب السبعينية، إلى الحرب الكبرى، إلى الأزمة المالية، إلى غير ذلك. فالفرنسي بفرنسا والفرنسي بالجزائر، فرنسي واحد يخضع لقانون واحد ويخدم وطنا واحدا. لذلك ليس من الحق ولا من الإنصاف ولا من المعقول، أن يقع تمييز الفرنسي بفرنسا على الفرنسي بالجزائر، بل يعتبر الأول وطنيا تجب حماية مصنوعاته ويعتبر الثاني من أرض خارجية يجب ألا تقبل بضائعه إلا بمقدار معين، وله أن يموت إذا شاء.. والجزائر اليوم هي أول حرفاء فرنسا في الدنيا، كما أن فرنسا أول حرفاء الجزائر. فحركة الصادرات والواردات بين فرنسا والجزائر هي أقوى حركة من نوعها للبلادين. فإذا قبلت فرنسا فكرة المتعصبين من أبنائها في الجنوب، قضت على هذه الأولية التجارية، وحطمت ثروة رجال الاستعمار وفتحت بين الجزائر وفرنسا عهدا من الاضطراب الاقتصادي والسياسي تكون له نتائج خطرة جدا. والذي نلاحظه بكل استنكار واستغراب، هو أن مجموع العنصر الأهلي شعبا ونوابا، متباعد عن هذه الحركة الهائلة كأنها تقع في أرض غير أرضه، وكأنها تتعلق بمستقبل بلاد غير بلاده". (نصوص مختارة : 108-109)
مرة أخرى نطرح السؤال : هل هذا كلام وطني استقلالي ثوري، أم كلام اندماجي تابع لفرنسا ؟ لأن السؤال البديهي الذي يطرحه من يقرأ هذا المقال هو : ما الذي يهم الإنسان الجزائري الأنديجان أو المتجنس، عندما لا يجد المعمرون لمن يبيعون خمورهم ؟ ولماذا يجد الشيخ نفسه، وهو رجل دين جزائري إصلاحي سلفي وهابي، مضطرا للدفاع عن المعمرين وعن خمورهم التي قد لا يجدون من يشتريها منهم ؟ وهل نفهم من كلام الشيخ أنه يفتي الجزائريين (أنديجان ومتجنسين) بجواز العمل في حقول الكروم التي يملكها المعمرون والموجهة أصلا لصناعة الخمور ؟ من حق القارئ أن يفهم ذلك. مع العلم أن أراضي المعمرين هي أراض مغتصبة من الناحية الدينية الفقهية، فهي ليست ملكا لهم أصلا، فلماذا يدافع الشيخ عنهم وعن خمورهم وهم غاصبون للأرض ؟
هذا إذن، هو كلام الشيخ ابن باديس الذي يُخفونه عنا، والذي لا يُدرس في مدارسنا وجامعاتنا.. لكن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا السياق، هو أننا مع هذا النص وما سبقه من نصوص، ما نزال بعيدين جدا عن حكاية "شعب الجزائر مسلمٌ وإلى العروبة ينتسب".. التي طالما تغنى بها خطاب الدولة الوطنية بعد الاستقلال، حيث أصبح من المسلمات "الوطنية" التي تدرس للتلاميذ والطلبة في جميع مراحل التعليم.
عندما حاربت الحركة الإصلاحية التصوف، ماذا أنتجت في الواقع ؟ أنتجت الفراغ المرجعي حيث لم تعد الأجيال الجديدة تعرف من الدين سوى الصيغة السلفية الوهابية الجافة الجامدة، تلك الصيغة الإقصائية التكفيرية والمنغلقة على الذات، والتي أوصلتنا إلى العشرية الدموية الحمراء التي عاشتها بلادنا خلال تسعينيات القرن الماضي. بينما ظلت الأجيال الجديدة تجهل تماما التراث الصوفي الإسلامي الضخم، الذي يمثل أكبر روافد الثقافة الوطنية في بُعديها الديني والشعبي على السواء. ومن الطبيعي أن الأجيال الجديدة، وسط هذا الفراغ المرجعي، ذهبت تستورد الفكر الديني والفتاوى الشرعية من مصر والسعودية وإيران وباكستان.. واليوم نتحدث عن الفراغ المرجعي. أين هي جمعية العلماء المسلمين ؟ أين هو مشروعها إن كان لها مشروع ؟ ولماذا لم تنتج شيئا على المستوى المرجعي الديني ؟ لماذا هدمت سقف البيت الجزائري وتركت الفراغ الرهيب من ورائها ؟ تركت الأجيال الجديدة فريسة سهلة للتصورات السلفية الوهابية التي يحركها البترودولار الخليجي والسعودي على وجه الخصوص، والتي أنتجت العنف والإرهاب في نهاية المطاف، مما لا نزال نعيش تداعياته إلى اليوم على مستوى المنطقة المغاربية وحتى الأفريقية.
المرجعية الدينية في جزائر الاستقلال :
تبنت الدولة الوطنية الخطاب الإصلاحي العلمائي الذي كرس النظرة الدينية السلفية الوهابية في مناهج التعليم، وحارب كل ما هو روحاني صوفي أو طرقي في على مستوى التعليم والإعلام والثقافة. هذا فضلا عن القمع الذي سلطته الدولة الوطنية (نظام بومدين على وجه الخصوص) ضد الطرق الصوفية ومنع نشاطها ومصادرة أوقافها وممتلكاتها، الأمر الذي جعلها في حكم المشلولة عن أداء دورها الديني الروحي والاجتماعي الثقافي. كمثال بسيط على ذلك : نشأت أجيال كاملة لا تعرف عن الأمير عبد القادر قائد المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، سوى أنه كتب قصيدة عن البدو والحضر.. فإذا كانت هذه هي حال أعظم شخصية جزائرية على الإطلاق في العصر الحديث داخل المنظومة التربوية أو برامج التعليم، فماذا نقول عن بقية الشخصيات العلمية الصوفية والطرقية الكثيرة التي تجاهلتها النخبة الإصلاحية العلمائية التي سيطرت على أجهزة التعليم والثقافة والإعلام بعد الاستقلال ؟ لكن إلى ماذا انتهى بنا المسار الإصلاحي ؟ لقد انتهى بنا إلى غياب كلي للمرجعية الدينية، وأبسط دليل على ذلك هو اختراق المرجعيات السلفية الوهابية لفضائنا الديني، سواء على المستوى الرسمي أم الشعبي، حيث نجحت تلك المرجعيات المشبوهة في صناعة وعاظ وأشباه مفتين درسوا في السعودية على نفقات البترودولار ونجحوا في تجييش شبابنا ودفعهم إلى ممارسة العنف من خلال محاربة الدولة والخروج على المجتمع وتكفيره وإقصاء نخبه جملة وتفصيلا تحت عنوان "الجهاد ضد الأنظمة الكافرة والشعوب المُرتدة التي تطيعها". وتحت هذا العنوان أصبح الجزائري يقتل أخاه الجزائري بدم بارد. ومن المضحك المبكي حقا في هذا السياق، أن أحد البيانات التي أصدرتها "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" حول قضية كتاب الشيخ خالد بن تونس الأخيرة، يتضمن في 85 في المئة منه على الأقل، كلاما لمفت وهابي سلفي سعودي متوفى هو الشيخ عبد العزيز ابن باز. والسؤال المطروح هنا : هل هذه الجمعية تجمع من تسميهم العلماء ليقدموا للناس العلم والفتوى عند الحاجة، أم إنها تجمعهم لمجرد الزخرفة الشكلية وعندما تحتاج إلى العلم والفتوى تذهب لاستيرادهما من أموات السعودية ؟
تاسعا - الواقع الحالي وآفاق المرجعية الدينية الصوفية في الجزائر :
هل يمكن تجاوز الصراع التاريخي بين المرجعية الصوفية والتيار السلفي الوهابي ؟ البعض ممن تبقى من رموز الحركة الإصلاحية وأتباعها، وحتى البعض من رموز الحركات الإسلامية التي استفرغت جهدها في الصراع ضد الدولة في مرحلة التسعينيات، أو تلك التي دخلت اللعبة الديمقراطية، كل هؤلاء أو بعضهم يدعون اليوم إلى ضرورة ما يسمونه "تسليف الصوفية وتصويف السلفية" بمعنى إدخال التصوف على السلفية وإدخال السلفية على التصوف، فهل هذه الدعوة بريئة أصلا ؟ وهل هي ممكنة من الناحية العملية ؟ أتصور أن هذه الدعوة ما هي سوى محاولة لإدخال التصوف والطرق الصوفية في متاهة جديدة، وصولا إلى اختراقها ومن ثم احتوائها والسيطرة عليها (على المدى البعيد) من طرف الدوائر الوهابية التي تقف بعيدا من وراء هذه الدعوة. إن الصراع التاريخي بين المرجعية الصوفية والتيار الإصلاحي السلفي من الممكن تجاوزه دون إشكال. كما أنه من الممكن التأسيس لنوع من أنواع الحوار بين الاتجاهين. على أن يكون هذا الحوار علميا حقيقيا مبنيا على الطرح الحر النزيه، بحيث يطرح كل طرف ما عنده دون خوف ولا خجل ولا مواربة، لا أن يكون الحوار حوارا سياسيا بالمعنى الذي يجعل منه صفقة مبنية على منطق التنازلات والاتفاقات التي تجري في الكواليس، لأن ذلك من شأنه أن يُفقد المرجعية الصوفية مرتكزاتها الحقيقية وقيمها الجوهرية، لأنها حينئذ ستجد نفسها تتنازل عن مساحات واسعة من ذاتها، ليُثبت الآخرون أنفسهم عليها. ومن ذلك النغمة التي أطلقتها بعض الدوائر منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، والتي ما تزال تجد من يسوقها في فضاءاتنا الدينية والإعلامية إلى اليوم، وهي الفكرة التي تقول بوجود "تصوف سني" وآخر "بدعي".. وإذا قبلنا بهذه الفكرة، فإننا بالتالي نقوم بتقسيم الصوفية والطرقيين الى فريقين : فريق "سني"، وهو الفريق الذي ينطبق أوضاعه على أفكار هؤلاء "السنيين"، وفريق آخر "بدعي"، وهو الفريق الذي لا تنطبق أوضاعه على أفكار هؤلاء "السنيين". والأولى أن يتم تقسيم من يسمون أنفسهم "سلفيين" إلى قسمين : السنيون، وهم أهل السنة الذين ينتمون إلى نهج التصوف والطرق الصوفية، وهم الذين تحدث عنهم ابن عاشر في قوله :"في عقد الشعري وفقه مالك/ وفي طريقة الجنيد السالك". أم القسم الثاني، من الذين يحاربون التصوف، فهم ليسوا سنيين، بل هم حشوية أو مجسمة، وهي حال السلفيين والوهابيين اليوم. ومن الواضح أنه لا يمكن أن يتم اتفاق أو تلاق بين صوفي وحشوي، أو بين صوفي ومجسم/حشوي. لسبب بسيط، هو أن الصوفية من أهل السنة، وأهل السنة هم أهل التوحيد والتنزيه المطلق، فهم لا يمكن أن يقبلوا منطق ابن تيمية وتلاميذه وأتباعه، ومنطق ابن عبد الوهاب وتلاميذه وأتباعه، لأنه ببساطة منطق مبني على التجسيم، وهو مضاد للتوحيد والتنزيه الذي ينطلق منه أهل السنة. من هنا، ينبغي أن يكون منطلق المرجعية الصوفية في أي حوار مع السلفيين، هو الدعوة إلى التوحيد الخالص المطلق، والتنزيه الخالص المطلق، كما هو مقرر في نصوص الكتاب والسنة. ولا أتصور أن المرجعية الصوفية تفتقر إلى الحجة الشرعية في هذا المجال، بل هي تمتلك الحجة على السلفيين وغيرهم في هذا المجال وغيره، غير أنها ما تزال بأشد الحاجة إلى نخبة ذكية، ما يزال ينتظرها الكثير من العمل والكثير من الجهد العلمي البحثي الأكاديمي، من أجل تأسيس نص صوفي جديد/خطاب صوفي جديد، يعمل على تحرير القول السديد، وتنوير العقل الجديد، من خلال الحجة الشرعية ومختلف أدوات الخطاب العلمي لا العاطفي، لتسليط الضوء على مختلف الجوانب المتعلقة بالثقافة الصوفية وعلاقتها بالواقع الجزائري في جميع أبعاده، التاريخية والراهنية والمستقبلية.
عاشرا - اقتراحات لتطوير الزوايا والطرق الصوفية في الجزائر :
1- ضرورة تجديد دور الزوايا والطرق الصوفية، رؤيتها وأدواتها ووسائلها، في جميع المجالات : الروحانية والتعليمية والعلمية والثقافية والإعلامية والاجتماعية وغيرها، وصولا إلى إيجاد نخبة صوفية جزائرية ذكية، ما يزال ينتظرها الكثير من العمل والكثير من الجهد العلمي البحثي الأكاديمي، من أجل تأسيس نص صوفي جديد/خطاب صوفي جديد، يسلط الضوء على مختلف الجوانب المتعلقة بالثقافة الصوفية وعلاقتها بالواقع الجزائري في جميع أبعاده، التاريخية والراهنية والمستقبلية.
2- إعادة الإعلام الصوفي الذي كان مزدهرا في مرحلة الحركة الوطنية حيث كانت لدينا العديد من الصحف الصوفية من بينها جريدة "البلاغ الجزائري" التي كانت تصدرها الطريقة العلاوية باللغتين العربية والفرنسية، وذلك من خلال تأسيس جريدة/جرائد يومية أو جريدة/جرائد أسبوعية أو مجلة/مجلات على أضعف الإيمان، تكون منبرا مفتوحا حرا وغير إقصائي، للتعبير عن رأي المرجعية الصوفية ونشر أبحاث وآراء المختصين في التصوف والمثقفين عموما من أبنائها وغيرهم.
3- ضرورة تجمع الزوايا والطرق الصوفية في هيكل تمثيلي حقيقي له رؤية مشتركة وبرنامج عملي واضح.
4- كتابة ونشر تاريخ الزوايا في الجزائر وعلاقتها بمختلف أوجه العمل الوطني والحركة الوطنية، وذلك من خلال الوثائق المتوفرة على المستويين الداخلي والخارجي.
5- المطالبة بترميم وحماية الأضرحة والمقامات ومختلف المعالم الصوفية في الجزائر بوصفها تمثل خلفية تاريخية وشاهدا على الدور التاريخي للمرجعية الدينية الصوفية في المحافظة على مفردات الدين والهوية والسيادة والثقافة والمجتمع في الجزائر، لأن الإنسان الجزائري عبر التاريخ كله لم يرتبط بتلك المرجعية إلا من خلال تلك المعالم التي تدل على عراقتها وعمق جذورها واستمراريتها في آن. 6- الارتفاع بالزوايا إلى دورها السابق بوصفها مرجعية دينية علمية وروحانية واجتماعية ثقافية، وذلك من خلال تأسيس معاهد حقيقية على مستوى عال من الكفاءة العلمية والروحانية، بالتفاعل مع مختلف القدرات والكفاءات الوطنية والمغاربية والعربية والعالمية في هذا المجال، لأن التصوف لا ينبغي أن تحده الحدود الجغرافية.
7- مرحليا : إسهام الزوايا والطرق الصوفية بما لديها من إمكانيات، في تشكيل الرؤية الدينية الجزائرية، سواء على مستوى الإرشاد أم الوعظ أم الفتوى أم غير ذلك، حتى لا تترك الساحة، كما هي اليوم، محتكرة لأشباه العلماء والوعاظ والمفتين السلفيين والوهابيين.
8- المطالبة بتدريس التصوف ولو كمدخل عام ملحق بالتربية الدينية، وذلك في جميع مراحل التعليم.
9- تدريس التصوف كمادة مستقلة في الزوايا، حتى تكون للطالب خلفية تأصيلية شرعية حول هذا الجانب الذي قامت الزوايا أساسا عليه، والذي يمثل المبرر الحقيقي لوجودها. مع تدريس كتب التصوف ذات العلاقة بالطريقة الرحمانية بشكل خاص : غنية المريد، المنظومة الرحمانية وشروحها..
10- على مستوى الطريقة الرحمانية : عدم الاكتفاء بتلقين الذكر، والرجوع إلى ممارسة الخلوة التي يرتبط بها اسم الطريقة (الخلوتية الرحمانية) بجميع ما يتصل بها من تقاليد روحانية، مع التعريف بها وبأهميتها.
11- تدريس واقع الإسلام والمسلمين كما هو اليوم، في الزوايا ( وبخاصة السلفية والوهابية وخطرهما على الأمة العربية والإسلامية بشكل عام، وعلى الواقع والمستقبل المغاربي والجزائري بشكل خاص).
12- الاحتراس من محاولات الا ختراق الوهابي للزوايا والطرق الصوفية في الجزائر، وذلك من خلال ما يتحدث فيه البعض عن "تصويف السلفية وتسليف التصوف" مما لا معقولية له، ولا طائل تحته، بل هو من غير الممكن من الناحية العملية، لأن الخطاب السلفي الوهابي، خطاب إقصائي متشدد بطبيعته، على عكس الخطاب الصوفي. ومن المؤسف في هذا الصدد أن يسير البعض في هذه الخطة عندما يتحدثون عن ما يسمونه "التصوف السني".. وكأنه يوجد تصوف غير سني. وعوض أن يقوم هؤلاء بتقسيم التصوف الى سني وغير سني، كان عليهم أن يقسموا السلفية نفسها الى سنية وغير سنية، بملاحظة الاتجاه السني المغاربي الأصيل القائم على عقيدة الأشعري وفقه مالك وطريقة الجُنيد السالك (وهو ما عليه المرجعية الدينية الصوفية الجزائرية والمغاربية) والاتجاه البدعي الذي اخترعته السلفية والوهابية، والذي يعمل اليوم بكل ما أوتي من قوة البترودولار والقنوات الفضائية ومواقع الأنترنت، على اختراق المرجعية الصوفية وتقسيمها تمهيدا للسيطرة عليها وتشتيتها.
13- عدم الاتكال على الواقع السياسي الحالي، والتفكير من الآن في حالة ما إذا عاد النظام الجزائري لسبب أو لآخر، الى التضييق على التصوف كما فعل بعد الاستقلال، وذلك في حال تغير معادلة السلطة. وبالتالي التفكير في تطوير الموارد المالية للزوايا والطرق الصوفية ومؤسساتها، على أسس اقتصادية علمية تضمن ربحية الاستثمارات واستمراريتها في مختلف المجالات الاقتصادية وعلى رأسها المجالات التي تعتبر حيوية بالنسبة للمؤسسات الطرقية مثل مجال النشر والإعلام بمختلف أنواعه : المكتوب والمسموع والسمعي البصري، في حال انفتاح هذين الأخيرين في المستقبل المنظور. وقبل ذلك، العمل الدؤوب من أجل استرجاع أوقاف الزوايا التي أخذت منها بعد الاحتلال الفرنسي وبعد الاستقلال الوطني.
14- تجديد أساليب ومنهجيات العمل على مستوى الزوايا والطرق الصوفية، من أجل تغيير الصورة النمطية السلبية التي توحي بالتقوقع على الذات والجمود والانغلاق، والموجودة في أذهان الشباب حول الزاوية، من أجل الانفتاح عل الواقع والانخراط أكثر في نشاط المجتمع المدني والاقتراب أكثر من رؤية وطموحات وآمال الأجيال الجديدة من الشباب الجزائري، من خلال الانخراط في العمل الجمعوي بأساليبه الحديثة وتأسيس المكتبات ومراكز البحث وفضاءات الأنترنت والنوادي الثقافية والعلمية المنفتحة على النقاش والحوار الحر والبناء في مختلف المواضيع التي تقترب من انشغالات الشباب.
15- في السياق السابق : ضرورة العمل على إيجاد نشاط تفاعلي بين الزوايا والطرق الصوفية وبين مختلف المؤسسات التعليمية، بخاصة الجامعات التي تضم نخب المستقبل، وذلك، على سبيل المثال، من خلال عقد ندوات للحوار والنقاش العلمي والثقافي، والاقتراب من الانشغالات البحثية للطلبة والعمل على مد يد العون لهم في هذا المجال.