البيضاء، ليبيا - "في هذه المدينة انطلقت الثورة، لكن منذ 2011 إلى الآن، لست أدري هل أسميها ثورة أم كارثة"، يقول أسامة هاش، وهو مواطن مما أضحى يعرف بعاصمة شرق ليبيا.
اليوم، البيضاء ليست منطقة حرب، لكنها تعاني من تبعات الفوضى المدمرة. فقد تدفق عليها آلاف الليبيين الفارين من ويلات القتال الذي قسم البلاد، حتى أصبح أكثر الثوار تمسكا بقضية ليبيا يشككون في الجدوى من الديمقراطية.
البيضاء هي عاصمة منطقة الجبل الأخضر في برقة، عرفت بتمردها وكانت محطة لحركة فيدرالية نابضة بالحياة. أصبحت مقر حكومة اضطرت، بعد اجتياح الميليشيات لطرابلس في أغسطس ، أن تقيم إدارة منافسة للإسلاميين في طرابلس.
لكن في ظل الوضع الراهن، الذي يؤشر على انهيار مالي وشيك، حيث تراجعت عائدات النفط واحتياطيات الأصول الأجنبية لدى البنك المركزي، أصبحت الحكومتان المتنافستان تفقدان بالتدريج دعم المواد الغذائية والوقود. لقد أضحت نشوة الثورة تتلاشى.
"في الأول كان الناس سعداء بحلول الحكومة بين ظهرانيهم، لكن سرعان ما تبددت هذه الفرحة"، يقول هاش، الذي تحول من الدفاع عن الحرية إلى الدعوة إلى نظام فيدرالي تحت حكم ملكي. "لقد أتينا بالحكومة إلى هنا من أجل حل المشاكل، لكن إذا كانوا غير قادرين على ذلك فلا حاجة لنا بهم."
على المصرف التجاري بالبيضاء أن يقرض حكومة عبد الله الثني 750 مليون دينار ليبي (550 مليون دولار) من أجل استمرارها.
"أي حكومة لا تتوفر على المال والموارد هي حكومة غير مرغوب بها. ستكون هناك تبعات حتما"، يحذر هاش.
لقد عرف هذا المكان انطلاق أول مظاهرة للربيع العربي الليبي، اندلعت في 16 فبراير 2011. استغل الناس مباراة لكرة القدم للتجمع وتحدى الديكتاتور معمر القذافي، قبل يوم واحد من موعد 17 فبراير الذي حدده مواطنوهم للاحتجاج.
إنه فصل في تاريخ البلاد يتذكره الكثير هنا بكل اعتزاز وحنين وإحباط مما جنيناه من مرارة بعده. ومن بينهم زياد ناجي، الذي قتلت قوات الأمن شقيقه في أولى المظاهرات.
"لم نكن نتوقع الثورة على هذا النحو، أن يسرقها منا الانتهازييون والإسلاميون"، يقول الرجل. "كنا نعتقد أن ليبيا ستصبح جنة كدبي الإماراتية."

ارتفاع أسعار الإيجار
لا توجد البيضاء في خط المواجهة، لكنها تقع مباشرة بين منطقتي الصراع، بنغازي ودرنة، حيث تقاتل قوات تحالف الجنرال خليفة حفتر الجماعات الجهادية، دون تحقيق نصر حاسم.
"كان القذافي يستخدم البيضاء لتصفية المتطرفين واحدا تلو الآخر. أما الآن، وبعد رحيله، فهم ينتشرون في أي مكان في ليبيا"، تقول جوت، وهي ربة بيت.
عندما يحل الليل، يتسلل الجرحى من الخطوط الأمامية عبر أقرب مطار طلبا للعلاج في الخارج. وفي الصباح، تصطف طوابير طويلة غاضبة أمام المخابز، التي تفتقد في كثير من الأحيان للدقيق. أما انقطاع الكهرباء فقد أصبح أمرا مألوفا.
وكما قال منصور  الفايدي، أحد مواليد البيضاء : "كانت ليبيا مصدرا لتمويل إفريقيا. والآن أصبحت تتسول المساعدات".
بسبب الطلب المتزايد، تضاعف سعر الايجار في مدينة بالكاد يبلغ عدد سكانها 250 ألف نسمة. "أصحاب الأملاك يفضلون التعامل مع الحكومة التي لديها الإمكانيات لدفع أسعار أحسن، بعكس المواطنين العاديين الذي يعانون مشاكل كبيرة"، يوضح الفايدي.

غياب المساعدات الدولية
لكن الحكومة أيضا تعاني من أجل دفع فواتير نفقاتها، حيث أصبحت الفنادق الآن تطلب من المسؤولين الدفع المسبق نقدا. لقد نزح أكثر من 300 موظف حكومي من طرابلس إلى البيضاء، وهم يملؤون كل فنادق المدينة.
هناك ضغط كبير على السكن، وخاصة بعد حلول 3000 أسرة فرت من أعمال العنف في درنة وبنغازي، الكثير منهم يعيشون في ظروف صحية سيئة.
"850 عائلة فقط تحصل على المساعدات هنا"، يقول إدريس جاور، رئيس فريق عمل محلي لمساعدة النازحين. "ليست هناك أية مساعدات من منظمات دولية."
عشرون في المئة من النازحين محليا، يقول جاور، مطلوبون من قبل "الدولة الإسلامية"، وهم غالبا من عناصر في الجيش أو الشرطة فروا مع عائلاتهم من بنغازي ودرنة. كما أن هناك نازحين منحدرين من بلد الطوارق التي أحرقتها ميليشيات مصراتة في 2011.
محمد ناصر كان يعمل مدرسا في درنة، التي تتواجد بها جماعة أنصار الشريعة و"الدولة الإسلامية". "لم نكن مستهدفين، لكننا كنا نعلم أن حربا حقيقية قد تنفجر في أي لحظة، ولذلك غادرنا"، يواصل ناصر تحت أنظار والده المسن.

مسؤولية الغرب
في الوقت الذي يشعر الكثيرون بالإحباط لعدم تمكنهم من العودة إلى بنغازي، يساند آخرون حملة الجنرال حفتر. "كان من الضروري تعقب أصل الأزمة لمعرفة من يقف وراء كل هذه الاغتيالات والتفجيرات"، تقول فاطمة ميلاد التي أُرغمت على النزوح بسبب القتال.
ويقول مسؤولون في المدينة إن حوالي 800 شخص قتلوا خلال موجة الاغتيالات التي اجتاحت بنغازي بين 2012 و2014. وقد حُملت المسؤولية للإسلاميين في هذه الاغتيالات التي طالت عناصر من جيش النظام السابق والشرطة والقضاء، علاوة على ناشطين بارزين.
ويحمل جاور المسؤولية للغرب في صعود الجهاديين وانحدار البلاد نحو الفوضى.
"سبب كل هذه المآسي، الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحلف شمال الأطلسي"، يقول مزمجرا وهو يمشي داخل ممرات المهجع المظلمة. "لماذا؟ لأنهم أطاحوا بالقذافي وسلموا ليبيا لتنظيم القاعدة. إنهم مسؤولون عن بؤس الشعب الليبي".