ماهي تشابكات المشهد التونسي الراهن في ظل تفاقم المطلبية القطاعية و الاجتماعية و الاحتجاجات الشعبية؟  و في ظل وضع أمني يتسم بالاستقرار الحذر؟ و هل يوجد دفع في اتجاه اندلاع ثورة الجياع في تونس؟ و أية حلول ممكنة لاحتواء التململ الاجتماعي في هذا البلد؟ و ما كلفة الحرب الدائرة في ليبيا على الأمن و الاقتصاد التونسيين؟عن هذه الأسئلة و غيرها، أجاب الأمين العام لحركة النهضة الإسلامية و رئيس الحكومة الأسبق علي العريض في حوار شامل ل"بوابة افريقيا الإخبارية" تطرق فيه محدثنا إلى كل تشابكات المشهد السياسي  و الأمني و الاقتصادي في بلاده إضافة إلى تعرجات الأزمة في الجارة الليبية.

و في ما يلي نص الحوار.

بداية أين وصل التصويت على مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء في ظل الاحتجاجات الصادرة عن أهل المهنة؟

مشروع القانون الخاص بالمجلس الأعلى للقضاء من الركائز الأساسية للنظام الديمقراطي و لذلك لا غرابة أن يأخذ هذا المشروع بعض الوقت و الكثير من النقاش حوله، لا سيما بعد  أن بذلت لجنة التشريع العام بالبرلمان جهدا كبيرا من أجل تطويره. 

انطلقنا بالأمس في مناقشة الفصول فصلا فصلا و هناك حرص كبير على الإسراع بالمصادقة على هذا القانون و لذلك لن تنقطع الجلسات بمجلس الشعب حتى المصادقة عليه، علما و أن المشروع يضم 66 فصلا و نأمل أن ننهيه اليوم أو غدا لأن المصادقة النهائية عليه يجب أن تتم يوم 21 من الشهر الجاري ليتم على إثر ذلك إرساء المجلس الأعلى للقضاء.

و ماذا عن الاحتجاجات المرافقة لمناقشة هذا المشروع و التي يتهم فيها القضاة لجنة التشريع العام بالإنقلاب على الدستور و محاولة وضع اليد على استقلالية السلطة القضائية؟

كما تعلمين من حق القضاة إبداء آرائهم و اقتراحاتهم و الأمل أن لا يتم اللجوء إلى تنفيذ إضرابات تضر بمصالح المتقاضين. في تقديري أن أكبر طرف قادر على تمثيل القضاء هو مجلس الشعب و السلطة التشريعية و هو الجهة التي تسعى إلى تحويل الدستور الى نصوص قانونية و منها القانون المنظم للسلطة القضائية. و بالتالي من الممكن حصول خلافات في القراءة و التأويل و لكن يبقى مجلس الشعب هو المرجع الذي يمثل سيادة الشعب و من يمتلك السلطة في التشريع.

و هل توجد توافقات إلى غاية الآن بين الكتل النيابية حول المشروع المذكور؟

إلى حد الآن هناك نسبة محترمة من التصويت و هناك نسبة توافق و لكن الآراء المختلفة تحترم لأن الديمقراطية ليست إجماعا بل هي سعي للتصويت و القبول بالتحكيم.

و هل صحيح أن بعض بنود مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء مثلت انقلابا على الدستور كما يرى القضاة المحتجون؟

لا على النقيض من ذلك، المشروع يمنح السلطة القضائية استقلاليتها و يوفر للقضاة كامل الضمانات للقيام بدورهم و نحن جد حريصون على إرساء قضاء مستقل و نزيه و يتوفر على كل الضمانات. كما أنه لا يخفى عليك أن القضاء تم توظيفه في مرحلة الاستبداد للنيل من الحريات و الظلم و نحن اليوم نقطع مع هذه المرحلة على الأقل من خلال هذا القانون و ذلك بهدف أن تدخل البلاد في مرحلة جديدة تتسم بوجود سلطة قضائية مستقلة في إطار توفر الضمانات لذلك و في إطار توازن السلط و تكاملها و مراقبة بعضها البعض و كذلك في إطار وحدة الدولة.

هل توجد دوافع سياسية وراء احتجاجات و إضراب القضاة في رأيكم؟

لا أعرف هل هناك دوافع سياسية للإضراب أم لا، و لكن أقول إن التشريع يبقى مهمة حصرية لمجلس الشعب، كما أن فض النزاعات تبقى مهمة حصرية للقضاء. لجنة التشريع العام استمعت إلى كل الأطراف و خاصة منها مختلف هياكل القضاة و  حدث نقاش ثري معهم و على كل نحن نحترم آراء القضاة و حريصون أشد الحرص على توفير كامل الضمانات للقضاء و القضاة و مشروع القانون الحالي يوفر ذلك.

و متى يتم الإنطلاق في مناقشة مشروع قانون مكافحة الإرهاب و كذلك بالنسبة لمشروع قانون زجر الاعتداءات على حاملي السلاح؟

أمام المجلس عدة مشاريع قوانين.  ثمة ازدحام في الحقيقة حول كيفية تناول هذه المشاريع و كذلك حول ترتيب تناولها. من مشاريع القوانين التي سنتناولها في وقت قريب نجد مشروع قانون مكافحة الإرهاب و تبييض الأموال و كذلك مشروع قانون المنافسة. اللجنة المعنية بهذين القانونين أوشكت على الإنتهاء من النظر فيهما و بعد ذلك سيتم إحالتهما على الجلسة العامة.

أما بالنسبة لمشروع قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين و العسكريين فإنه مازال قيد الدرس نظرا لأنه آخر قانون تمت إحالته على اللجنة و ستتم دراسته بنفس العناية و تمريره على الجلسة العامة حال الانتهاء منه. و بصفة عامة، فإن كل مشاريع القوانين التي تقدمها الحكومة تدخل عليها تعديلات هامة من قبل لجان المجلس. كذلك هذا القانون سيكون محل تنقيحات من شأنها الجمع بين ضمان احترام حقوق الإنسان من جهة و حماية حاملي السلاح  و نجاعة تدخلاتهم من جهة أخرى.

كيف تشخصون موجة الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها جهة الفوار مؤخرا؟

هناك مشكلات حقيقية تتعلق بالتنمية و التشغيل في عدة جهات من البلاد. و لكن في المقابل هناك أيضا مشكلات تتعلق بكيفية التعبير عن هذه المطالب المشروعة و أحيانا في كيفية التعاطي الأمني و السياسي مع هذه الاحتجاجات. في رأيي يجب تفهم المطالب المشروعة و إفهام المواطنين بأن احتجاجاتهم يجب أن تكون مؤطرة بالقانون لتجنب  التجاوزات التي يمكن أن تخرج هذه الاحتجاجات عن هدفها الرئيسي أو تسقطها في العنف أو العنف المضاد الناتج عن ردة الفعل. و أعتقد أنه  بالحوار يمكن التوصل إلى حلول.

و لكن تبقى الاحتجاجات الاجتماعية في أية جهة كانت بدون شرعية بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية و الحرب التي تخوضها البلاد على الإرهاب، وفق البعض، ما جوابكم؟

المطلوب هو ترشيد التحركات الإجتماعية و إفهام آهالي الجهة بأن قضاياهم ستقع دراستها من قبل الدولة و يجب إفهامهم أن قضايا  التشغيل و التنمية يجب أن يتم التحاور حول مداخلهما حتى نتجنب التوتر و العنف و الغموض مما من شأنه عرقلة الاستثمار لأنه في ظل التوتر يصعب على الحكومة تنفيذ المشاريع التي تمت برمجتها. من الممكن كذلك فتح حوار مع الشركات الكبرى الموجودة بالجهة حتى تساعد بدورها على التنمية هناك.

نفهم من كلامكم أن المطلوب هو أن تدخل الحكومة في حوار مع المحتجين؟

ليس فقط الحكومة بل السلطة الجهوية و نواب الشعب و الأطراف الاجتماعية و حتى الإعلام. لا يوجد مستحيل إذا توفر الحوار و تم التعاطي مع الأمور بشيء من الهدوء و المرحلية.

تونس ليست عاجزة عن حل مشاكلها الاقتصادية و الاجتماعية إذا توفر الهدوء و الحوار و المرحلية. المسألة مسألة وقت و هذا الأمر لا يعني منع الاحتجاجات السلمية بالطبع.

اتهامات لأطراف سياسية و نقابية و من بينها اتحاد الشغل و الجبهة الشعبية و المؤتمر و ما يسمى ب"حراك شعب المواطنين" و كذلك النهضة بتأجيج احتجاجات الجنوب وفق بعض الجهات، ما رأيكم؟

لا يمكنني توجيه الاتهام إلى أطراف سياسية و اجتماعية بكونها تقف وراء تحركات مطلبية في هذه الجهة أو تلك. بصفة عامة هناك قضايا اجتماعية تدفع بعض المواطنين للتحرك و الاحتجاج و لكن كيفية التعامل مع هذه الاحتجاجات و المطالب هو الذي يمكن أن أنتقده لأنه أحيانا إذا لم يقع ترشيد أو توضيح الحقائق و إذا لم يقع تبني المطالب الحقيقية و إدانة العنف من أية جهة كانت و إذا لم يقع مراعاة امكانيات البلاد و مراعاة المرحلية لتحقيق المطالب الاجتماعية، هنا تحدث المشاكل، و الأطراف التي لا تراعي ما سبق ذكره هي التي يمكن انتقادها لكن لا يمكن التسرع في توجيه الاتهامات إلى هذه الأطراف أو إلى المواطنين أو الحماسة المفرطة لدعم كل التحركات حتى تلك التي تخرج عن السلمية.

هل من الممكن أن تستغل الجماعات الإرهابية هذا المناخ الاجتماعي المتوتر خاصة في جهة الجنوب المتاخمة للقطر الليبي لتسريب أسلحة أو بعض عناصرها إلى بلادنا؟

في الحقيقة ليس لدي دليل على هذا الأمر.  الحكومة و أجهزتها هي التي بامكانها إجابتك عن هذا السؤال.   و لكن من المؤكد أنه كلما ازدادت الاحتجاجات و ارتفع التوتر الاجتماعي في منطقة ما كلما ساعد ذلك بعض الإرهابيين و المهربين على استغلال الفرصة. الإرهاب و التهريب يستفيدان من كل مكان يوجد فيه ضعف أمني.

هل تؤيدون الرأي القائل بأن الوضع على الحدود التونسية الليبية يبقى قنبلة موقوتة تهدد أمننا القومي؟

الوضع في ليبيا يؤثر شديد التأثير على تونس. خلال السنوات الأربع الفارطة تونس تأثرت بصفة كبيرة
من الأوضاع السائدة في ليبيا أمنيا و اقتصاديا و كلفة الخسائر الاقتصادية  لتونس قدرت بأكثر من 5 مليار دولار تقريبا. أما على المستوى الأمني فهناك استنفار لكل أجهزتنا الأمنية و العسكرية لحماية حدودنا و منع دخول السلاح و الإرهابيين إلى بلادنا و كذلك لمنع فرار ارهابيين من بلادنا في اتجاه ليبيا  و هذا الأمر مكلف جدا في الحقيقة.

تونس في حرب على الإرهاب و بجانبها الشقيقة ليبيا التي مازالت تسعى إلى تحقيق التوافق الداخلي و تحقيق سلطة مركزية موحدة و نحن نعيش مرحلة انتقالية، هذا أمر كبير و مكلف لتونس و مع ذلك فبلادنا  مازالة واقفة و مسيطرة على أوضاعها الداخلية و مازالت  اضحة الأهداف و سيدة قرارها و تحمي حدودها..في تونس الدولة مازالت موجودة و هذا ليس سهلا. طبعا نحن نتفهم شعور الكثير من المواطنين بأن تحسين ظروفهم الاقتصادية تأخر و لكن الانتقال الاقتصادي آت بعون الله إذا توفر الأمن و الاسىقرار لأن الانتقال الاقتصادي يحتاج إلى استقرار أمني و سياسي و إلى سلم اجتماعية و الدولة التونسية تسعى من أجل ذلك.

تتحدث بعض الأطراف عن وشك حدوث ثورة الجياع في تونس، فهل هذا السيناريو ممكنا في تقديركم؟

الحديث عن المطلبية الاجتماعية نعم و لكن أكثر من ذلك لا أظن. ثورة على ماذا بالضبط؟ نحن ثرنا على الاستبداد في السابق و الآن نحن نسعى إلى معالجة أوضاعنا و هذه المعالجة تجري أمام أعين الشعب و لا توجد أشياء مخفية عنه لأنه هناك سعي دؤوب من طرف الجميع تقريبا لحلحلة الإشكاليات المطروحة و أظن أن الشعب واع بإمكانيات البلاد و بضرورة توفر المرحلية  في تحقيق مطالبه نظرا لأن الدولة ليس بمقدورها إنجاز كل المطالب في وقت وجيز.

نأتي إلى المشهد الليبي، فهل تؤيدون الموقف الرسمي التونسي في توخي الحياد مع الأطراف المتنازعة في هذا البلد؟

موقف تونس من الأزمة الليبية موقف متوازن و هو موقف الجار تجاه جاره و يتمثل في مساعدة الأشقاء الليبيين على الحوار دون التدخل في شؤونهم الداخلية و دون دعم هذا الطرف أو ذاك. أمن تونس هو من أمن ليبيا و اسىقرارها من استقرارها و لكن إلى غاية الآن ما زالت محاولات التوفيق بين الطرفين التي تقوم بها الأمم المتحدة و تدعو لها تونس لم تثمر بعد و مع ذلك لا يجب أن نشعر باليأس فالطريق واحدا و هو دفع الفرقاء الليبيين و مساعدتهم على التوافق.

هل مازال الحل السلمي ممكنا في إنهاء الأزمة الليبية في نظركم؟

دائما يبقى الحل السلمي هو الأمثل بل الوحيد لإنهاء الأزمة الليبية لأن الحرب تعرف بدايتها و لا تعرف نهايتها و الأمل في توصل الأشقاء الليبيين إلى حل سلمي يبقى قائما.

هل توجد حاليا  مبادرات من حركة النهضة و الحكومة لإيقاف فتيل الصراع في الجارة الليبية؟

المساعي موجودة من الجانبين. رئيس الجمهورية نفسه قام باستقبال الطرفين و هذه الجهود تتطلب وقتا حتى تثمر. كثيرة هي الأطراف التي تسعى إلى دفع الليبيين إلى التوافق و ليست فقط تونس أو حركة النهضة.

كسياسي كيف تقرأ المشهد الليبي القادم؟

أنا أرجح أن تنجح المحاولات التي ترمي إلى جمع الليبيين على خارطة طريق توحد الدولة الليبية، خارطة طريق تحظى بالشرعية و تفضي إلى دستور و انتخابات. لا يجب اليأس من هذا الطريق لأنه لا يوجد طريق سواه.

و هل سنجح الحوار الليبي الذي ترعاه الأمم المتحدة في وقف نزيف الجارة؟

الحوار  الليبي تحت راية الأمم المتحدة هو الإطار المساعد من حيث المساعي التي تقوم بها الدول العربية التي يساهم في إنجاحها الخيار الذي توخته الأمم المتحدة و أرجح أن هذا الخيار سينجح و سيتوصل إلى خارطة طريق تنهي الأزمة الليبية.

هل من المتوقع أن تتناول الزيارة التي يؤديها  رئيس الحكومة الحبيب الصيد إلى الجزائر نهاية الأسبوع الجاري الملف الليبي، حسب رأيكم؟

في الحقيقة ليست لدي فكرة عن جدول أعماله و لكن من الطبيعي أن يزور رئيس الحكومة  الجزائر باعتبار التعاون بين البلدين.  و لذلك أعتقد أن تكون مجالات التعاون بين الجزائر و تونس هي محور زيارة الصيد. و بالنسبة للملف الليبي، فأعتقد أنه ربما يتم التعريج عليه.