اليوم وفي ظل تفشي ثقافة جائحة القرن الفيروسية في أمس الحاجة إلى قصص وروايات البوح بصوت عالي، وإلى إطلاق فيض المشاعر، إلى مشاركة الآخرين ما يشعرون به، خاصة عندما يحتجز الزمان والمكان عقولنا، بحيث لا يتوقف الزمن من هول ثقافة الجائحة، ونملك في ذات الوقت هؤلاء المبدعين يملكون موهبة كتابة القالب التواصلي الفني البديع، فالمتلقي يُمنح فنيات الابداع وادواتها. في هذه البسطة نستعرض قصة ممشوقة ببنائها الإنساني، للقاصة فاطمة مخلوف، حيث قصتها الموسومة " التاسعة" والتي نشرت بمجلة " أوراق مبعثرة" في عددها الثالث عشر، سبتمبر، لسنة 2020.

فالقاصة عموما في قوالبها النصية كانت تتحدّث عن تجربتها، وقد كانت تتحدث عن تجربة شخوص أخرين من الواقع، او من الخيال، محاولةً تقديمها بشكل واقعي، أو الخلط بينهما، في اقتفاء منهجي محتويا منهجا منطقيا، لتمنح القاصة بناء الاقصوصة الشرعية الفنية، والتي يجب أنّ تُنتج المُتعة، والبهجة قبل انتظار عوائد النص الإبداعي لديها. 

في هذا الجنس الادبي تقع القاصة فاطمة مخلوف أسيرة قصصها للواقع، فهو لا يمكنها أن تراه من كل الثقوب، وهذه طبيعة الانسان، فثقوبها وزوايا الاخر تشكل معا المجال العام لقصصها، وضمن هذا السياق وقعت اعمال القاصة فاطمة مخلوف، وقصتها الأخيرة التي نشرت في مجلة "أوراق مبعثرة" في هذا الشهر، ووسمها " التاسعة، والتي نسجتها من خارج بيئتها، وجاءت بعد تجربة قصصية تم نشر معظمها في مجلة " أوراق مبعثرة.

وبهذا النوع من الكتابة لجنس القصة، ربما الكتابة في هذا الجنس، عند القاصة فاطمة مخلوف، يعود أحدُ أسباب هذا الاهتمام إلى أن القصة تمنح خاصيّة السرد والحوار المشوق، والتي تعطي مساحةَ أكثر لعرض الصور والاشكال والألوان والقليل من التفاصيل، وكذلك فنيات الاسقاط القصصي الهادف. ولذا فتجربة الكتابة القصصية قد لا تتضح رؤيتها من خلال عموميات تنقل عواطف وخيالات ووقائع، لأنها لا تنقل تفاصيل معاناة شخوص قصصها.

وفي قصصها يحاول المتلقي رغبته في  أن يُشبع فضوله تجاه تأثير فعل القيود العاطفية، والتي يصنعها الانسان تجاه أخيه الإنسان، وكيف تكون تفاصيل هذا العالم الصغير، وماهي صور العذاب والالم والمعاناة وبلغة قصصية قصيرة سردية وحكائيه فنية، تجلب المُتعة والبهجة ، حيث تقودنا إلى  العطف أحيانا، او الوقوف عند حواجز المتعة، وهنا نعود ربما إلى محاولة فهم خطط القاصة العامة من ادبيات القصة، أو هل هي نقل معاناة شخوصها إلى من هم خارج دائرتها، كنوع من الفضول الإنساني، أمْ أن طبيعة أدب القصة القصيرة  يتمثل في  مجرد تقديم مادة  ثرية،  وهو توجه   ممتع  قصصياً لصنع عوالم افتراضية ذات طابع إنساني، يخلق متعة  للمتلقي،  أو المزج بينهما. 

بداءات قصتها " التاسعة"، بالحديث عن علاقة حميمة بين عريس وعروس، ووصف ليلة اللقاء بينهما زواجا كامل الأركان، تشير القاصة “الســاعة تشــير إلــي التاســعة ومعهــا انطلقت إضــاءات ورديــة   تزيــن عبــاءة الســماء، دقــات قلــب الشــاب الأســمر الوســيم تتســارع وكفــه يحتضــن أنامــل عروســه البيضــاء الرائعة الجمــال، فــي الليلــة التاســعة مــن الشــهر التاســع. عروســان رائعــان ينســابان فــي رقصــة ســاحرة علــى إيقــاع موســيقا (الســمفونية التاســعة)، أســطورة  “بيتهوفــن” التــي قــال ليلــة عزفهــا لأول مــرة  جملتــه الشــهيرة  (الأن ســتتغير الموســيقا إلــي الأبــد)،  ارقــص  الشــاب الأســمر عروســه بخفــة ومهــارة،  وكانــت معــه تنســاب ومــن حولهمــا كورال مــن الأطفــال  فــي منتهــى الســعادة؛ تســعة أطفــال أيتــام دعاهــم مــن دار اليتامــى   التــي يســاهم فــي تبرعاتهــا جعلهــم يرتــدون ذات البدلــة التــي  يرتديهــا   “ التوكســيدون التقليديــة” بســترة ســوداء، بمرافقة تســع فتيــات صغيـرات، بفســاتين مــن الــورد ًبيضــاء مجنحــة، وذيــل طويــل، يضعــن تاج علــى شــعورهن  الناعمــة القصيــرة  بقصــة “الكاريــه” والعــروس تتمايــل فــي فــرح، وهــي ترتــدي فســتان أبيضا  بلا طرحة،  وتضــع قرطيــن مــن الألمــاس في أذنيها" .

نلاحظ في بداية قصتها مدي التعلق بتكرار كلمة " التاسعة" وكأنها ذات علاقة بلغة الأرقام في سرديتاها القصصية، من خلال وصف حي لتلك المراسم، واجواء الاحتفال تحت أنغام قطعة موسيقية لبيتهوفن، ولقطعته الموسيقية " التاسعة" الشهيرة، ناهيك عن وصف براءة الأطفال. فالدلالة الرقمية في قصتها استعملت كضابط للبناء القصصي لديها، فبداءة حوارية النص بالموسيقي، وختامها كان أيضا ختاماً علي قطعتها الموسيقية التي اختارتها لنسج وقائع احداثها.

 لقد اهتمت القاصة، وبحروفها، وبفعل الوصف، سواء للأمكنة، أو الشخوص، أو الي الموسيقي، محاولةَ توظيف ما لديها من حروف ومفردات، وبلغة تميل إلى المجاز الأدبي لصنع صورة في مخيلة المتلقي إلى درجة أنه أحياناً يبتعد عن حبكة سيرة معينة، من خلال توالي أحداثها إلى الوقوف عند تفاصيل الوصف السريع، حتى تختلط على المتلقي هُوية القاصة، هل هي بطلة السيرة الذاتية نفسُها، فنرى استخداماً لضمير المتكلم، أو أن القاصة تصف تجربة خاصة بها. 

ومن الأشياء المهمة في هذه القصة حوارية الطفل مع إدارة المدرسة، وبكائه لفقدانه لامه، وكيف كانت إدارة المدرسة راقية في تعامله معه.  فلقد قدّمتها ضمن سياق قصتها بأنها بناءٌ من العواطف المتبادلة بين طفل فاقد للأمومة، والعنف والألم، حيث استطاعت القاصة أن تخلق هذا التشقق في قصتها، من خلال منحها هذه العطية الي الإدارة التربوية، ودون ثمن، فكانت هذه العطية صدْعاً في جدار الصورة الذهنية المنطبعة في ذهن الطفل والإدارة المدرسية.

لقد كانت القطعة التاسعة لبتهوفن مسرحا لبطلين، فالشخوص هي ذاتها، والحكاية ما تلبث أن تنتهي من أفواههم لتكرر، في مواطن أخري من القصة، فكان انسان قصتها قادرا على التكيف مع بقية الأعراق والألوان، لأنه كائن متكيف بطبعه، وفي كل الظروف، وأصعبها مع أصعب الأوضاع الموجعة، إلى درجة أنه اعتاد الوجع ورغب في عدم مغادرته، فقابلية الحياة غالبة عليه، وتدعوه إلى أن يبذل أقصى جهده ليتعلق بها.

لقد حاولت القاصة في عملها " التاسعة" هذا أن تكتب سيرة معينة، أو ثقافة سلوكيه جديدة مفقودة، تفيض بمعاناة، وعواطف إنسانية جياشه، وتصف لنا قيمة الام وغيابها عن أبنائها، وان تستحضر في متن قصتها شابا ذو بشرة سمراء، ينتمي الي الصحراء، وأن تنقل إلينا رسائل قد تكون مشفرة ومتداخلة، لم تكن معنية بعالم الخيال الافتراضي، بل هي قصة حوارية كما رأتها، أو سمعتها، أو عاصرتها، وفي كل الأحوال، فعملها هذا من بواكير قصصها، وانطلاقة لمشروعها القصصي الذي سيزداد نجاحاً مع ولادة كل نص جديد لها.