عندما نجح «الضباط الاحرار» في الاطاحة بالنظام الملكي في ليبيا  حرص القادة الجدد في البلاد تحت تأثير المد الناصري،على أن يربطوا أول علاقة مع مصر، لذلك كانت السفارة المصرية في طرابلس هي أول من علم بتفاصيل ما جرى. في الخامسة صباحاً من يوم أول سبتمبر اتصل أحد الضباط الأحرار بالسفارة المصرية لإحاطتها علماً بالانقلاب.

وجاء في مقال بقلم الكاتب الصحفي نوري صل على صفحات جريدة « الشروق » التونسية ضمن مسلسل حول حياة الزعيم الليبي الراحل :

لم يعلن «تنظيم الضباط الأحرار» حين نجح في استلام الحكم بليبيا عن أسماء قادته. شكل مجلس لقيادة الثورة يضم 11 عضواً من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، وأضيف إليه عضوان من خارج المجلس.

لم تكن لأولئك الضباط الخبرة السياسية الكافية، وانطلقوا في البداية في قراراتهم يقتدون بنموذج التجربة الناصرية في كل شيء، مستفيدين من المد القومي الذي هيمن في تلك الفترة على العالم العربي، وكانت ليبيا من الدول القريبة جداً من ذلك المد، لكن مع مرور الوقت يبدأ العقيد معمر القذافي في اتخاذ إجراءاته الخاصة في إطار الحكم والإدارة وهو ما ترتب عنه اختلاف في وجهات النظر مع عدد من رفاقه.

ظلت أسماء القادة الجدد في ليبيا مجهولة لفترة بالنسبة الى العالم الخارجي، إذ لم يعلن «الضباط الاحرار» عن أسماء أعضاء «مجلس قيادة الثورة» لكن اتضح من البيانات الأولى أن قادة النظام الجديد هم من الموالين للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. مع ان عبد الناصر نفسه لم يكن يعلم بأسماء مجلس قيادة الثورة الليبية برئاسة معمّر القذافي .

 وعلى أساس هذا الولاء لجمال عبد الناصر حظيت «ثورة سبتمبر» باحتضانها الواسع، ليس من الشعب الليبي فحسب، بل من الشعوب العربية وامتداداتها الإفريقية، خصوصاً وأنّ عبد الناصر يُعتبر أحد القادة التاريخيين لإفريقيا وأيضاً لمنظومة عدم الإنحياز.

كانت أول شخصية يتاح لها اللقاء بـ"الضباط الاحرار" آنذاك الصحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل الذي أوفده الرئيس جمال عبد الناصر على عجل إلى طرابلس لاستطلاع الوضع هناك. عاد هيكل ليكتب في مقاله الأسبوعي «بصراحة» في صحيفة «الأهرام» عن قادة ليبيا الجدد.

كتب هيكل حينها عن القذافي ورفاقه بأنهم «ضباط متحمسون من صغار الرتب وقائدهم الملازم أول معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي»كما وصفهم بأنهم «شباب بريء إلى درجة محرجة، وشباب رومانسي إلى درجة خطرة».

بمناسبة مرور أول سنة على استلام القذافي الحكم في ليبيا حضر عدد من القادة العرب ذكرى مرور سنة على قيام «ثورة الفاتح من سبتمبر» كما أصبح اسمها الرسمي في ليبيا، وكانت تلك في الواقع أول مرة يطل فيها العقيد معمر القذافي على العالم الخارجي.

من أبرز من حضر ذلك الاحتفال الرئيس جمال عبد الناصر، والملك حسين، والرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. تابع الجميع الحفل الخطابي والاستعراضي للقوات المسلحة الليبية، واستمعوا إلى خطاب مطول ألقاه العقيد معمر القذافي تجاوز الساعة، استهله بالتوجه إلى الرئيس جمال عبد الناصر قائلاً «أخي القائد الرائد الأكبر» معلناً أن الثورة ستكون أكبر سندٍ لمصر الناصرية، ثم تحدث الرئيس جمال عبد الناصر حيث أعلن عن تأييد قوي للثورة الليبية قبل أن يتوج العقيد معمّر القذّافي على عرش القومية العربية، قائلا للجماهير الليبية المحتشدة في بنغازي: «أترككم لأخي معمّر القذّافي الأمين على القومية العربية والأمين على الوحدة العربية من بعدي». قبل أن يخاطبه قائلا: معمّر أنت تذكّرني بشبابي».

ساهم إعجاب القذافي وتأثره بشخصية الزعيم المصري، جمال عبد الناصر، إلى جانب قصَر المدّة الزمنية التي امتدّت خلالها علاقة الزعيمين، في منح عبد الناصر فرصة احتواء طموحات القذافي واندفاعاته هو وأقرانه من الضباط الأحرار كما يقول حسنين هيكل.

وبينما كان القذافي يعرض الوحدة بين مصر وليبيا، كان عبد الناصر يسايره بالقول إن «المبدأ مقبول لكن التنفيذ مؤجّل». وعندما طالب العقيد الليبي بالمساهمة في الحرب على إسرائيل، لم يُرفض طلبه لكن اتفق على أن تترك لعبد الناصر فرصة التفكير في طريقة مساهمة ليبيا. وهو ما حصل عندما طلب عبد الناصر من القذافي تمويل شراء قاذفات طائرات، لم يتردد في حينها العقيد الليبي الراحل في دفع ثمنها حيث كانت الثقة محور العلاقة بين الرجلين.

هذه الظروف والأنواء التي خطا معمّر القذّافي خطواته الأولى في ظلّها؛ وفي ظلِّها كان عليه خوض معاركه على جبهتي مواجهة «قلاقل» الداخل، و الانخراط في مشروع المواجهة للسياسات الغربية في الخارج و دعم قضايا التحرر الوطني،ومن ضمنها دعم واحتضان فصائل الثورة الفلسطينية.