النزيف الطائفي الذي تحركه دوافع وأجندات سياسية في معظم الأحيان، أدمى خاصرة القارة الأفريقية منذ زمن ومازال يسدل بظلاله على مناطق عدة فيها، خاصة مع ما تشهده منطقة أفريقيا الوسطى من تناحر واقتتال باتا يذكّران بالفاجعة الرواندية التي لم تندمل جراحها حدّ اليوم.

نزيف على شدّته لا يمكن له أن يحجب بوادر الأمل التي تلوح من هنا وهناك، والتي اختارت نهج إعلاء قيم التسامح والتعايش في مواجهة التطرف والغلو، و”عيد الصليب الحقيقي” يتنزّل في هذا الإطار. عيدٌ يستذكر خلاله مسيحيّو إثيوبيا سماحة دينهم ودعوات اليسوع الذي حضّ على التعايش ولا شيء غير ذلك.

في هذا الإطار، احتفل المسيحيون الأثيوبيين، نهاية الأسبوع الفارط، بعيد الصليب، والمعروف محليا بـعيد “مَــسْـكَـــلْ” في ميدان الصليب بوسط العاصمة أديس ابابا؛ من خلال مهرجان كبير أقيم بحضور حاشد على الصعيدين الشعبي والرسمي؛ وذلك عشية العثور قبل 1600 على ما يعتقده الإثيوبيون الصليب الذي صلب عليه المسيح.

وقال الأنبا ماتياس؛ رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في كلمته بهذه المناسبة : “يجب علينا جميعا أن نعمل معا بقيم المحبة والسلام والتسامح التي دعا إليها المسيح اليسوع خاصة ونحن نحتفل بيوم الصليب الحقيقي”.

وطالب الأنبا ماتياس “أتباع الكنيسة الأرثوذكسية بأن يعملوا وفق تعاليم المسيح التي تدعو إلى الوحدة والمحبة كما هنأ المؤمنين بعيد الصليب، والذي أصبح أحد التراثيات التي تفتخر بها أثيوبيا، خاصة بعد تسجيلها ضمن التراث العالمي في منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة العام الماضي”.

من جهة أخرى، أضاف الأنبا قائلا: “معركتنا اليوم هي معركة التنمية والتي يجب أن نعمل فيها سويا بمختلف دياناتنا ومذاهبنا من أجل إثيوبيا، وأكد على أن الوحدة هي السبيل لتحقيق التنمية والتحول الإيجابي بأثيوبيا”.

من جانبه قال نائب عمدة مدينة أديس أبابا، ابباو سطوتاو، إن “الاحتفال بعيد الصليب يجب أن نستفيد منه من خلال اتباع التعاليم الدينية للمسيح الذي يدعو إلى السلام والمحبة والتعايش”.

وأضاف: “السلام والمحبة من السبل السليمة لوحدة الصف والعمل معا من أجل الوطن”. كما هنأ المسيحين بعيد الصليب “مسكل” ودخوله ضمن التراث العالمي من قبل منظمة اليونسكو. وطالب سطوتاو بضرورة الحفاظ على التراث الوطني والمناطق الأثرية بأثيوبيا.

هذا وقد تضمن الاحتفال الرئيسي الذي أقيم بميدان الصليب في وسط العاصمة الإثيوبية، ويطلق عليه ميدان الثورة، إيقاد شعلة كبيرة يطلق عليها “داميرا” وسط حشود كبيرة من المسيحين، خاصة اتباع الكنيسة الأرثوذكسية، بحثا منهم عن إشباع روحي وسياحة نفسية من خلال سماع الترانيم والتراتيل الدينية التي تنتظم في المهرجان.

كما شهد الاحتفال طقوسا وعادات دينية وفقرات قدمتها الكنيسة، حيث قام الكهنة الذين يرتدون الملابس المنقوشة ويحملون الصليب الفضي بالرقص مع أتباعهم وهم يرددون الترانيم والأناشيد الروحية وفي أيديهم المشاعل، بينما وقف على الطرف الآخر طلاب مدارس الأحد، كما يسمونهم في الكنيسة، وقد ارتدو الملابس الإثيوبية التقليدية البيضاء، حاملين رايات جمعت بين العلم الإثيوبي والصليب.

كما قدم المشاركون عروضا فنية تخللتها أناشيد وترانيم دينية يلهبون بها حماس الجماهير التي احتشدت بهذه المناسبة التي يعدها الأثيوبيون مناسبة دينية ووطنية في آن واحد. وشهد الاحتفال إقامة عروض موسيقية من الشرطة الفيدرالية في مشاركة رسمية إلى جانب الحضور الكبير من البعثات الدبلوماسية، خاصة الغربية.

تجدر الإشارة، إلى أنّ “مَــسْـكَـــلْ”، هي كلمة تعني باللغة الأمهرية “الأم”، ولكنها تترجم إلى “عيد الصليب” بمراعاة الجذور التاريخية لهذا العيد، الذي يعود إلى رؤيا رأتها الملكة القديسة هيلينا، التي قالت إن الوحي جاءها في المنام وأمرها بإشعال نار كبيرة في العراء سينتشر على إثرها الدخان في السماء ثم يعود إلى الأرض ليحدد بدقة مكان الصليب الأصلي، فأمرت كل سكان مدينة القدس بجمع كميات كبيرة من الحطب دلت حسب اعتقاد المسيحيين الإثيوبيين على مكان الصليب الأصلي، وفق صحيفة العرب.

كما أنّ السر في الأهمية العظمى التي توليها الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية بهذه المناسبة الدينية بالذات، يعود إلى أن هناك اعتقادا يفيد بأن أجزاءً من الصليب الأصلي الذي تم اكتشافه بواسطة رؤيا هيلينا وصلت عن طريق مصر إلى أثيوبيا، وأنها لا تزال موجودة عند قمة جبل “أمبا غَـشَنْ” في إثيوبيا الذي يعتبر من المزارات الدينية المهمة.

وبعد انطفاء النار يقوم أتباع الكنيسة برسم علامة الصليب على جباههم، ويعتقد البعض منهم أن رسم الصليب برماد خشب الاحتفال يعني الغفران الكامل لكل الخطايا تماما، كما يعتقد البعض أن اتجاه الدخان وطريقة تكوم الرماد يحدّدان ويشيران إلى مجرى حياة الأفراد في المستقبل.

تجدر الإشارة إلى أنّ العاصمة الإثيوبية أديس أبابا معروفة بانتشار مظاهر التسامح الديني بين سكانها حيث يظهر فيها بوضوح تعايش سلمي بين أصحاب الديانات المختلفة جنبا إلى جنب وفي حالة وئام تام.

حيث تقع كنيسة ضخمة يصلصل جرس الصليب فوق هامتها قرب المسجد الكبير في حي بياسا، وعلى بعد أمتار قليلة منه، هناك الإثيوبيون من أصحاب الديانتين يسلمون على بعضهم البعض ويذهب كلّ منهم ليؤدي صلاته، المسيحيون في كنيستهم والمسلمون في مسجدهم.

وقد يعزى لهذه الظاهرة النادرة في العالم، الطبيعة الهادئة والاحترام الجم للشخصية الإثيوبية، وانشغال الناس من مختلف الديانات والأعراق بأساسيات الحياة ومجابهة الفقر والمعاناة.