منذ صدور القرارين الأمميين المتتابعيين 1970، 1973 من مجلس الأمن الدولي دخلت الأحداث التي شهدتها ليبيا في فبراير 2011 منعرجا حادا تحولت ليبيا على أثره إلى ما تشبه حلبة تتصارع فيها قوى الهيمنة الدولية الكبرى، بل ووجدت حتى الدول التي لم يكن لها أي أثر في تاريخ الصراعات الدولية مساحتها ونصيبها في هذه الحلبة، ولعل الذي فاقم الأمور ما آلت إليه أمور البلاد بعد آخر المعارك التي خاضتها القوات المسلحة العربية الليبية في مدينة سرت في أكتوبر 2011 والذي أعقبه ما سمي بإعلان "التحرير" الذي توجه خلاله رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبدالجليل بإعلان تعديل قانون الزواج ليمنح الليبيين حق تعدد الزوجات، فمارس الساسة في ليبيا تعدد الحكومات، والجيوش، والبرلمانات، والإجندات.
لم يكن أكثر المتشائمين ينتظر أن تؤول أمور الليبيين إلى ما آلت إليه من تردي وتفشي للفوضى، وغياب للسيادة، وتدني في مستوى المعيشة، حتى يصل الأمر تعددية جديدة تمثلت في الطوابير التي يصطف فيها الليبيون بحثا عن النقود التي غابت من خزانات المصارف، والوقود الذي نضبت محطات توزيعه، والمخابز التي اختفى الخبز منها على الرغم من مضاعفة أسعاره عشرات المرات، وإلى جانب هذا المشهد اليومي المأساوي تحولت البلد سياسيا إلى دولة فاشلة، وأمنيا وعسكريا تحولت إلى ميدان تصول فيه المليشيات والعصابات والجماعات المسلحة المحلية والخارجية وتجول دون حسيب ولا رقيب، فنشطت الجماعات المتطرفة على مختلف مسمياتها ومشاربها بل وأعلنت عدة مدن ليبية كإمارات دينية، تمارس فيها جماعات الإسلام السياسي أعتى وسائل الإرهاب والترويع، وانتشرت بالتوازي معها عصابات التهريب، التي تمتهن تهريب كل شيء بما في ذلك تهريب البشر والاتجار بهم فيما عرف بعصابات الهجرة غير الشرعية.
وفي الوقت الذي يعيش الشعب الليبي هذه المآسي تفرغ الساسة والمتنفذون للصراع على المناصب وترأس الأجسام السياسية الهشة التي انتشرت في البلاد وكل يدعي الشرعية ويحمل الشعارات الوطنية حتى وصل الانقسام منتهاه في منتصف سنة 2014 عقب صراعات سياسية واشتباكات مسلحة حول العاصمة طرابلس، ودخلت البلاد في مرحلة جديدة عقب انتخابات يونيو التي تولد عنها مجلس النواب في الوقت الذي مدد المؤتمر الوطني لنفسه، لتنبثق عن كل من الجسمين حكومة خاصة به، ليتفاقم الوضع ويعطي مساحة أكبر للبعثة الأممية ليتحول دورها من الدعم والمساندة إلى المشاركة بل وقيادة العمل بل وإدارة الأزمة حسب تصنيف عديد المراقبين، وبدأت جولات الحوار بين الفرقاء الليبيين في عدة مدن ومناطق داخل وخارج البلاد، وكلها كانت بمعرفة ورئاسة المبعوثين الأممين والذين كان أبرزهم الأسباني برناردينو ليون "عراب اتفاق الصخيرات"، الذي تمكن من فرض المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق التي منذ الإعلان عن ولادتها أصبحت كل الحلول تنطلق منها وتعود إليها.
وقد شهدت عدة مدن مناطق في ليبيا جولات للحوار إلا أنها لم تفض إلى نتائج ما دعى البعثة ومركز الحوار الانساني الذي لازمها الشراكة في تدبير وإعداد لقاءات الفرقاء الليبيين في الخارج للتنقل بين عدة مدن في عدة دول منها تونس والحمامات التونسيتين وصلالة في سلطنة عمان، ولعل أبرزها الصخيرات المغربية التي نالت نصيبها في وسائل الإعلام لارتباطها بوثيقة الاتفاق السياسي الليبي الذي أعلنه المبعوث الأممي الأسبق برناردينو ليون في 17 ديسمبر 2015 ليبقى منذ ذلك الوقت بمثابة المرجعية لكل المبادرات الدولية والإقليمية التي آخرها مبادرة المبعوث الأممي الحالي غسان سلامة، التي استعصى الوصول إليها والتي اشتملت نظريا على صيغة للحل في ليبيا تتمثل في عدة مراحل منها عقد ملتقى جامع لليبيين من ثم إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية كان مقررا لها أن تنتهي سنة 2017 إلا أنها تأجلت حتى العام الماضي 2018 ولم تتحقق، وها هو العام الحالي تنطوي أيامه وأشهره والخطة لا تزال طي الأدراج، لا ينفض عنها الغبار إلا إحاطات غسان سلامة المتكررة أمام اللجان المهتمة بالشأن الليبي في منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
اما الحوارات التي توقفت منذ فترة طويلة واستعاض عنها سلامة بلقاءات يعدها مع عدة أطراف ليبية بغية التجهيز للوصول إلى صيغة عملية لتنفيذ خطته يرى كثير من الليبيين أنه لا طائل منها، وقد يكون الرأي الذي أعلنته الدكتور ابو ريمة غيث المهتم بالشأن الليبي يلخص جملة من أراء الليبيين، حيث يعتبر أن الحوارات الليبية، برعاية الأمم المتحدة، لن تصل إلى أية نتائج إيجابية لصالح الوطن وذلك لغياب القاسم الوطني المشترك لأطرافها، الفاعلة في التأزيم، هذه الحوارات الوطنية أو الليبية التي لم يجدوا أطرافها مكانا لهم في ليبيا يجمعهم ولا قبيلة أو مدينة ليبية ترعاهم!! لن يتمخض عنها أي جديد لصالح البلاد والعباد ما دامت الوجوه التي تصدرت المشهد السياسي بعد أحداث فبراير لا زالت هي اللاعب الرئيسي على المسرح السياسي الليبي لأن هدفها الأسمى هو ما يتحصلون عليه من مكاسب ضيقة وليذهب الوطن إلى الجحيم.
ويضيف الدكتور غيث، أن غسان سلامة إذا كان جادا حقا في مساعدة الليبيين على الخروج من أزماتهم، التركيز وإعطاء الأولوية القصوى للمسألة الأمنية المتمثلة في انتشار السلاح وذلك بوضع آلية محددة لجمعه ووضعه تحت مؤسسة عسكرية وشرطية نظامية موحدة وفقا لخطة زمنية محددة غير قابلة للمناورة والتمديد قبل الشروع في الانتخابات الدائمة التي نسمع عنها لأن تعديل الاتفاق السياسي والتعويل على رموز البرلمان وما يسمى بالأعلى للدولة وغيرهم ممن أفسدوا الحياة السياسية والاقتصادية والإجتماعية في البلاد دون حل جدري لمعضلة السلاح خارج الشرعية فإنها محاولات أخرى لمخض الماء لن تقود من وجهة نظري إلا إلى مزيد من التأزيم والاحتقان.
ولعل المستجد هو إصرار البعثة الأممية اليوم بعقد ملتقى ليبي عام في الداخل هذه المرة، حيث أعلن المبعوث الأممي غسان سلامة موعد مكان عقد هذا الملتقى بشكل محدد وواضح بخلاف كل المرات السابقة من خلال مدينة غدامس ستستقبل المستهدين بحضور الملتقى خلال الفترة من 14 إلى 16 من شهر أبريل المقبل، مؤكدا أن المشاركين سيكونون ليبيون بالكامل ولن يسمح بحضور أي أجنبي، مضيفا أنه لن يستثنى أي تيار سياسي ليبي، وأعلنت نائبة سلامة ستيفاني وليامز عن معايير اختيار المشاركين لتكشف أن كل متسيدي المشهد السياسي الحالي وآخرين سيكونون ضمن الحضور، وهو ما بدد آمال كثيرين كانوا ينتظرون الخروج من الملتقى بنتائج مختلفة قد تفضي إلى حل للأزمة.
ولكن وبناء على المعايير التي اعتمدها سلامة نفسه وأكدتها "نائبته" ستيفاني في اختيار مكونات خلطة غدامس فأنه يتضح بأنها لن تتجاوز كونها إعادة تدوير لما نتج عن جولات الحوار السابقة والتي نتج عنها اتفاق الصخيرات الذي سيصبح بعد السادس عشر من أبريل المقبل يتصف بالاتفاق السياسي السابق، هذا من الناحية الشكلية أما من حيث الموضوع والنتائج فأنه لن يستجد جديد إلا في بعض الوجوه والتسميات، وإعادة هيكلة بعض الأجسام والمكونات الحالية على أقصى تقدير، فكيف ينتظر الجديد وكل الأجسام الحالية ومتسيدي المشهد السياسي اليوم هم أنفسهم من سيشاركون في تغييره؟ فهل من المنطق والذكاء أن تتم إعادة نفس التجربة وبنفس المعطيات وانتظار نتائج مختلفة؟