''فان كوخ مجنون .. إلى كل من استطاع يوماً التحديق في وجه بشري، أن ينظر جيداً لبورتريهات فان كوخ التي رسمها بيده .. لا أعرف أي خبير نفسي يستطيع أن يتفحص وجه إنسان بتلك القوة الساحقة التي نقل لنا بها فان كوخ تعابير وجهه...''. هذا المقطع مأخوذ من نص الكاتب الفرنسي أنتونان أرتو الذي كتبه عام 1947 بعنوان ''فان كوخ المنتحر بسبب المجتمع'' مباشرة بعد زيارته لأول معرض كبير نظم تكريما للفنان الهولندي فانسان فان كوخ في باريس (يناير 1947) بمتحف ''لورونجوريه''، والسبب تأثره بما لاحظه آنذاك من تهافت النقاد والجمهور على أعماله والحديث الذي دار عن إصابته بالجنون بينما لم يحظ في حياته بأي نوع من التقدير.

الكاتب "أنتونان أرتو" تأثر بقصة فان كوخ ومعاناته من نظرة المجتمع لمرضه النفسي مسجلاً فيها تشابه مع تجربته الشخصية، حيث كان هو الآخر مصاباً بمرض ''الشيزوفرينيا'' وتم إيداعه مصحة الأمراض العقلية لمدة فاقت تسع سنوات تلقى فيها ما يناهز 55 صدمة كهربائية قضت عليه نفسياً وجسدياً، حيث توفي في ظروف غامضة عام 1948 بعد سنة فقط من مغادرته مستشفى الأمراض العقلية.

النص النثري الذي كتبه "أنتونان أرتو" هو أيضاً الخط المشترك الذي بنيت عليه إشكالية المعرض الفني الجديد الذي فتح أبوابه منذ أيام في متحف ''أورسي'' ولغاية آخر شهر يوليو، مسلطاً الضوء على حياة فان كوخ ومعاناته مع المرض النفسي بأعين الكاتب والشاعر والمخرج المسرحي "أنتونان أرتو"، الذي عانى هو الآخر من المرض العصبي. المعرض الذي يحمل عنوان: ''فان كوخ المنتحر بسبب المجتمع''.

(مثل عنوان النص) يضم نحو 40 لوحة للفنان الهولندي أربع منها بورتريهات ذاتية رسمها هو من خلال النظر لوجهه في المرآة، مثل بورتريه ذاتي بقبعة القش صيف 1887، بورتريه فان كوخ الأذن المقطوعة شتاء 1889. وبورتريهات أخرى لمعارفه كبورتريه الدكتور غاشي، الطبيب النفسي لفان كوخ الذي يعتبر من أغلى لوحات العالم (149 مليون دولار) وبورتريه جوزيف رولان (أيضاً من أغلى لوحات العالم 108 ملايين دولار).

كتب عام 1882 لأخيه تيو يقول: ''تعلم أني لم أكن دائماً سعيداً وأني عشت حياة بائسة ولكن بفضل عطفك علي، شبابي وطبعي الحقيقي ظهرا أخيراً .. لا تعتقد أني أعتبر نفسي مثالياً .. ولا أني أجهل ما يقوله الناس عن مزاجي الصعب .. فكثيراً ما أجد نفسي حزيناً، حساساً، سريع الغضب (...) لا أحب كثيرا رفقة الآخرين وغالبا ما يصعب علي الاختلاط بالناس والتحادث معهم.. ولكن هل تعرف سبب ذلك؟ ببساطة بسبب عصبيتي فأنا شديد الحساسية جسدياً ونفسياً، وهذا يعود للسنوات السوداء التي عشتها. واسأل الطبيب هو أعلم بكل شيء .. تمنيت لو أني لم أعرف الليالي التي قضيتها تائهاً في الشوارع الباردة ولا الخوف من عدم العثور على لقمة خبز .. ولا الضغط الذي عشته بسبب وضعيتي غير المستقرة، تمنيت لو أن ثلث أرباع المشكلات التي عيشتها مع أصدقائي وأقاربي لم تكن وراء كآبتي وتقلبات مزاجي''.

المعروف أن ''تيو فان كوخ'' كان أقرب الناس لأخيه، الذي كان كثير العزلة لم يتمكن من مواصلة نشاطه في الرسم إلا بفضل عطف أخيه الذي كان يشجعه ويمده بالأموال باستمرار.

المعرض كله يسير في سياق واحد هو محاولة الإجابة عن سؤال واحد: ''من يا ترى المسؤول عن انتحار الرسام الكبير ''فانسان فان كوخ''؟ هل هو فعلاً مرضه العقلي الذي أفقده صوابه وجعله يصوب البندقية تجاه صدره عشية الـ 27 من يوليو من عام 1890 في أحد حقول القمح بالريف الفرنسي، أم أن الذنب يقع على كاهل المجتمع الذي استبعده وأقصاه وجعله يغرق في يأس وحزن شديدين حتى انتهى به المطاف للانتحار للتخلص من المعاناة النفسية؟ الرسام الهولندي الذي يعتبر اسمه اليوم علامة بارزة في عالم الفن الانطباعي لم يكن في عصره يحظى بتقدير النقاد أو الجمهور ولا حتى باهتمامهم ولم يتمكن من بيع لوحاته باستثناء واحدة فقط هي (الكرمة الحمراء 1988) ولم يسانده آنذاك سوى أخيه الأصغر "تيو" الذي كانت تجمعه به علاقة قوية بقيت كذلك حتى آخر لحظة من عمره وصديقه الفنان بول غوغان، وكذا صديقه تاجر التحف الفنية إيميل برنار.

تقول الصحافية والناقدة الفنية ''رورين روسينيول'' من أسبوعية "تيلي راما" الثقافية ''فان كوخ كان يمثل نموذج الفنان المشؤوم، لكن لماذا وخاصة من من؟ فالمعروف عنه أنه كان كثير العزلة، يجد صعوبة كبيرة في التأقلم مع ذويه ولا سيما ما يخص تبني رموزهم والتعامل معهم.

ولكن لنا أن نتساءل أليس هؤلاء أنفسهم هم من حكموا عليه بالوحدة القاتلة ومن ثمة اليأس بعد أن أقصوه من دائرتهم ورفقتهم؟''. أما أنتونان أرتو فيكتب في ''فان كوخ المنتحر بسبب المجتمع: ''أولئك الذين أظهروا على الملأ حقيقة نفوسهم الخسيسة، والذين يبدون إعجابهم اليوم بأعمال فان كوخ، هم أنفسهم أو آباؤهم أو أمهاتهم من دق عنقه يوم كان حياً يرزق''.

اسم فان كوخ كثيرا ما اقترن بصفة الفنان ''المجنون''، حيث عرف عنه حادثة قيامه بقطع أذنه وإرسالها لإحدى صديقاته من بائعات الهوى وهو أكثر الفنانين إثارة لاهتمام الأطباء وخبراء علم النفس الذين حاولوا طيلة عقود طويلة اكتشاف حقيقة المرض النفسي الذي كان يعانيه. أكثر من 150 خبيرا نفسيا وآلاف الدراسات والنظريات للبحث عن حقيقة المرض العصبي الذي كان يعاني منه هذا الرسام.

مرض اضطراب المزاج (ثنائية القطب) الشيزوفرينيا، الصرع، الاكتئاب الحاد...إلخ. آخرها كانت دراسة للخبير النفسي والباحث ''فرانسوا برنار ميشال'' في كتاب بعنوان: (فان كوخ: نفسية عبقري لم يفهم، دار نشر أوديل جاكوب) الذي وصل في خلاصة كتابه إلى أن الأطباء الذين اهتموا بفان كوخ في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته، فشلوا في الواقع في تشخيص حالته وعلاجه لأنهم لم يستمعوا إليه بما فيه الكفاية، ولم يهتموا بالتخفيف من معاناته النفسية، مستشهداً برسالة بعثها فان كوخ بنفسه لأخيه تيوو يقول فيها: ''لا دواء لما أعاني منه، والأطباء لا يستطيعون تقديم شيء هم لا يملكونه.

لكن الشيء الوحيد الذي يستطيعون بل يجب عليهم منحه هو قبضة يد أكثر نعومة وأكثر لطفاً من كثير من الأيادي الأخرى''.

تقول إيزابيل كوهين الخبيرة المتحفية المسؤولة عن معرض فان كوخ: ''غلب على السيرة الذاتية لفان كوخ الكثير من الخرافة والكثير عن قصص جنونه رغم أنه لم يتم تأكيد شيء سوى قصة الأذن المقطوعة، إلى أن تبين فيما بعد خاصة بعد نشر رسائل فنسان لأخيه تيو أن الرسام الهولندي كان إنساناً مثقفاً رزيناً وشديد الإحساس. والمسألة كما يقول الكاتب أرتو إنه كان يحرج المجتمع بأفكاره وفنه الجديد.

كيف يصنف فنه وهو خارج الأطر التي وضعها المجتمع، لم يفهمه أحد لأنه عبقري سبق عصره فتم إقصائه واتهامه بالجنون''. تواصل إيزابيل كوهين: نص أرتو يطرح إشكالية افتقادنا لمفهوم واضح ومحدد للجنون (ولا سيما عند الفنانين): هل فان كوخ الذي لم يؤذ أحداً بل ترك لنا لوحات فنية رائعة الجمال هو المجنون أم أولئك الذين أقحموا العالم في حروب عالمية دمرت الأخضر واليابس وقتلت الملايين من الأبرياء؟ قد يكون ارتفاع القيمة المادية لأعماله لأرقام قياسية هو اليوم اعتراف العالم بقيمة هذا الفنان، ونوعا من الاعتذار المتأخر عن تهم الجنون التي هي في الواقع عبقرية فذة.