خلال زيارة الدولة التي قام بها إلى الولايات المتحدة الأميركية، لم يبخل الرئيس الأميركي باراك أوباما في كيل المديح لضيفه فرنسوا هولاند الذي فرش تحت قدميه السجاد الأحمر وشرعت بوجهه أبواب البيت الأبيض. أوباما قدم هولاند على أنه الشريك «الصلب» الذي يمكن الوثوق به. اختبره في الملف الإيراني حيث كانت باريس أكثر تشددا إزاء طهران من واشنطن وكادت تطيح اتفاقا عملت عليه الإدارة الأميركية سرا طيلة أشهر مع مبعوثي طهران في العاصمة العمانية. باريس أعدت أن بنوده «لا توفر الضمانات الكافية» لمنع طهران من حيازة السلاح النووي أو الوصول إلى «الحافة» النووية. اختبره أيضا في الملف السوري حيث كانت فرنسا البلد الكبير الوحيد الذي وقف إلى جانب أوباما في عزمه توجيه ضربة عسكرية لنظام دمشق بسبب استخدامه السلاح الكيماوي قبل أن يغير رأيه ويقفز على الفرصة الدبلوماسية التي وفرها له الرئيس الروسي الذي عرض عليه مقايضة التخلي عن العمل العسكري ضد النظام مقابل تخلي الأخير عن ترسانته الكيماوية. اختبره كذلك في الحرب على الإرهاب، في تشدده في موضوع حقوق الإنسان، في امتناعه عن إعادة النظر في انضمام فرنسا إلى القيادة العسكرية الموحدة للحلف الأطلسي الذي كان الحزب الاشتراكي الفرنسي، أي حزب هولاند، قد انتقده بشدة تحت رئاسة نيكولا ساركوزي.

بيد أن أوباما أشاد وأفاض في الثناء على هولاند لسياسته الحازمة في أفريقيا وهو مصيب بذلك. ألم يسارع الرئيس الفرنسي الذي كان يؤخذ عليه افتقاده للحزم والحسم في اتخاذ القرار وفرضه على محيطه وإرسال القوات الفرنسية للقيام بحربين إلى أفريقيا خلال عام واحد: المرة الأولى كانت في مالي، أوائل العام الماضي فبراير (شباط) والمرة الثانية في جمهورية أفريقيا الوسطى «الخريف المنصرم»؟ ألم يطلب من وزير دفاعه بلورة خطة لإعادة انتشار القوات الفرنسية المرابطة في أفريقيا بشكل يوفر لفرنسا الأداة الضرورية للتحرك والانتشار السريع في محاربة الإرهاب والمحافظة على الاستقرار؟ ألم يذهب جان إيف لودريان إلى واشنطن مع كبار مساعديه لعرضها على قادة البنتاغون والحصول على مباركتهم؟
كل ذلك صحيح.

ولذا، فإن الرئيسين أوباما وهولاند حرصا على التأكيد في المقالة المشتركة التي نشرت في صحيفة «واشنطن بوست» و«لو موند» يوم 11 الجاري، أن «الصورة الأبرز» للشراكة الجديدة «بينهما» تظهر في أفريقيا: في مالي وأفريقيا الوسطى والصومال والسنغال وبلدان الساحل وفي الحرب على الإرهاب. وفي المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الفرنسي في البيت البيض، عاود أوباما الإشادة بـ«الريادة» الفرنسية التي تتجلى في أفريقيا. قال أوباما: «أريد أن أحيي الرئيس الفرنسي لأنه دفع تعاوننا إلى الأمام».

وأضاف مخاطبا هولاند مباشرة باسمه الأول: «فرنسوا: لم تكتف بالحديث فقط عن عزم فرنسا على تحمل مسؤولياتها كبلد من الصف الأول بل أنت فعلت ذلك. من مالي إلى سوريا وإيران، بينت عن شجاعة وحزم وكم أريد أن أشكرك لما أبرزته من ريادة ولما قمت به لتعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة».

واضح إذن الارتياح الأميركي للدور الذي تقوم به فرنسا في مستعمراتها السابقة في أفريقيا وهو ما تسميه واشنطن «الريادة» الفرنسية خصوصا أن بين البلدين ما يشبه «تقاسم الأدوار». فرنسا تدفع بفرقها العسكرية إلى أرض الميدان والولايات المتحدة تكتفي بمساعدتها على المستويين اللوجستي «نقل الرجال والمعدات» والاستخباري «عن طريق الأقمار الصناعية وأجهزة التنصت والطائرات من دون طيار». بالطبع، باريس تعمل بالدرجة الأولى لمصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية في المنطقة ووفقا لمسؤولياتها «التاريخية» وبفضل القوى المرابطة في الكثير من البلدان الأفريقية التي ترتبط مع فرنسا باتفاقيات دفاعية. لكن هذه السياسة تبدو محفوفة بالمخاطر وقد تصل باريس سريعا إلى خلاصة مفادها أن «تقاسم الأدوار» ليس عادلا وأنه يتعين إعادة النظر في سلم المسؤوليات والمساهمات المترتبة على كل طرف.

حتى الآن، يبدو التدخل العسكري الفرنسي في مالي أنه الأنجح: القوات الفرنسية أوقفت زحف «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي وحليفاتها من المنظمات الجهادية باتجاه العاصمة باماكو وأخرجتهم من النصف الشمالي من البلاد ورممت سيادتها على أراضيها ونظمت انتخابات رئاسية جاءت بشرعية جديدة وتدخل مجلس الأمن وأرسل قوات حفظ سلام. وبشكل عام، تبدو الأمور تحت السيطرة رغم ما يحصل في مدن الشمال بين الحين والآخر ورغم استمرار مشكلة الطوارق ونزاعهم مع العاصمة باماكو.

مالي تحاشت المصير الذي تعرفه ليبيا حيث إسقاط نظام القذافي فتح الباب أمام الفوضى العارمة وأطلق الحبل على الغارب لـ«القاعدة» وأخواتها لتحويل الجنوب الليبي إلى ملاذ آمن وإلى منطلق باتجاه بلدان الجوار وفي منطقة تمتد من موريتانيا على المحيط الأطلسي وحتى الحدود الغربية للسودان وتشمل الجزائر ومالي والنيجر والتشاد صعودا إلى تونس والبحر الأبيض المتوسط. لكن هل التجربة المالية «الناجحة» ستتكرر في أفريقيا الوسطى؟

منذ عام 1961 قامت القوات الفرنسية بما لا يقل عن 15 عملية عسكرية رئيسية في أفريقيا متنقلة ما بين تونس والتشاد ورواندا وزائير وساحل العاج وجزر القمر وليبيا ومالي وآخرها أفريقيا الوسطى. ولن تتوقف الأمور عند هذا الحد إذ قد تجد باريس نفسها مضطرة للتدخل مجددا في ليبيا رغم استبعاد هذا الاحتمال رسميا حتى الآن. صحيح أن الرئيس هولاند قال أكثر من مرة إن على أفريقيا أن تتحمل مسؤولياتها الأمنية بنفسها الأمر الذي شددت عليه قمة الإليزيه الفرنسية – الأفريقية الخريف الماضي.

لكن هذا لا يغير من واقع الأمور شيئا إذ كلما اندلعت أزمة في دولة أفريقية من مستعمرات فرنسا السابقة، دارت الأنظار باتجاه باريس للتعرف على الاتجاه الذي ستأخذه الرياح بغض النظر عن هوية الحكم القائم في فرنسا يساريا كان أم يمينيا.

عندما قرر الرئيس هولاند إرسال 1300 من الوحدات الفرنسية إلى أفريقيا في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، اختارت لها رئاسة الأركان اسم «SANGARIS» وهو اسم فراشة تعيش في أفريقيا الوسطى، حمراء الجناحين، وأريد من الاسم أن يشير إلى أن العملية العسكرية لن تدوم طويلا وهو ما أشار إليه الرئيس هولاند عندما وصفها بأنها ستكون «سريعة» إذ يكفي أن تبرز القوات الفرنسية عضلاتها حتى تنسحب الميليشيات التي روعت الناس من الشوارع ويعود الأمن والنظام وتنتهي الماسي ويوضع حد لعمليات القتل والانتقام بين مسيحيي أفريقيا الوسطى ومسلميها… والحال أنه بعد ثلاثة أشهر قررت باريس، نزولا على طلب الأمين العام للأمم المتحدة إرسال 400 رجل إضافي بعد تعزيز سابق لعدد القوة فيما أعلن وزير الدفاع جان إيف لودريان السبت الماضي (15 الجاري) أن العملية «ستكون أطول من المتوقع لأن مستوى الحقد والعنف أعلى مما كنا نتصور». وبحسب لودريان: «يتعين التأقلم مع الظروف والاستجابة للحاجات الأمنية وفقا لتطور الأحداث».

الواقع أن «الظروف» ليست ملائمة بتاتا والأهداف التي حددتها باريس لقواتها لم تتحقق بل هي بعيدة كل البعد عما هو واقع الحال اليوم إذ أن بان كي مون نفسه يتحدث عن «عمليات تطهير إثني» يتعرض لها مسلمو أفريقيا الوسطى الذين يهجرون بمئات الآلاف بينما عمليات القتل والتنكيل مستمرة على مرأى ومسمع من القوة الأفريقية وليس بعيدا عن مواقع القوة الفرنسية نفسها. ولذا، فإن ما تعرفه أفريقيا الوسطى اليوم أشبه بـ«الفخ» للقوات الفرنسية فلا هي قادرة على الانسحاب لأنه يعني الفشل ولا هي قادرة على زيادة أعداد قواتها إلى ما لا نهاية لأنها لا تستطيع خوض عدة حروب في وقت واحد. أما الأوروبيون فليسوا مستعجلين لإرسال «القوة الأوروبية» التي قررت «وزيرة» الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون أن يصل عددها إلى ألف رجل «بدل الـ500 المقرة أصلا». وفي أي حال، فإن الدول الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وبريطانيا لن ترسل إلى أفريقيا جنديا واحدا من جنودها تاركة الأمر على عاتق بلدان أوروبية ثانوية. أما الولايات المتحدة الأميركية، فإنها جاهزة لدعم… فرنسا.

في ختام القمة الأفريقية، بداية ديسمبر (كانون الأول)، قال هولاند إن بلاده نشرت 1600 جندي لغرض «نزع سلاح كل الميليشيات والمجموعات المسلحة التي تروع السكان» فضلا عن «إعادة الاستقرار إلى البلاد وتوفير الظروف، في الوقت المناسب، لإجراء انتخابات حرة وتعددية». وبحسب هولاند، فإن العملية العسكرية ستكون «سريعة وفعالة». والحال أن أيا من هذه الأهداف لم يتحقق حتى الآن: الميليشيات لم ينزع سلاحها رغم وجود 1600 جندي فرنسي و6 آلاف جندي أفريقي في إطار قرار مجلس الأمن رقم 2127 «5 ديسمبر (كانون الأول)» بل إن ما حصل أن القوات الفرنسية نزعت سلاح بعض الميليشيات التابعة لرئيس الجمهورية المؤقت ميشال جوتوديا الذي دفعته باريس إلى الاستقالة في 11 الشهر الماضي وسهلت انتخاب رئيسة مؤقتة مكانه. لكن عوض أن تهدأ الأمور، فإن الميليشيات المسيحية بدأت بمهاجمة الأحياء التي يسكنها المسلمون في العاصمة بانغي وفي أنحاء كثيرة من أفريقيا الوسطى. عشرات الآلاف أجبروا على الرحيل من منازلهم والتوجه إلى المناطق الشمالية. قرى وأحياء أحرقت بالكامل. منظمة هيومان رايتس ووتش نددت بـ«التطهير العرقي» وبـ«المجازر المرتكبة» وهي الخلاصة نفسها التي توصل إليها بان كي مون. أضف إلى ذلك أن مقدمات تقسيم البلاد بين جنوب مسيحي وشمال مسلم أخذت تتواتر ما يهدد استقرار ووحدة بلدان الجوار.

كل هذه التطورات المأساوية بعيدة كل البعد عن أهداف البعثة العسكرية الفرنسية الأساسية وعن مهمة القوة الأفريقية الدولية. وواضح للمسؤولين في باريس أكانوا مدنيين أم عسكريين أن الأربعمائة جندي إضافي لن يغيروا الكثير في الواقع الميداني في بلد تزيد مساحته على مساحة فرنسا. ولذا فإن باريس تطرح الصوت وتحث الأوروبيين على الاستعجال في إرسال القوة الأوروبية والأمم المتحدة على تحويل مهمة القوة الأفريقية الحالية «6 آلاف رجل» إلى مهمة للقبعات الزرقاء. باريس تدعو بان كي مون إلى الإسراع والأخير يطالب باريس بمزيد من الرجال فيما الهدف الأبعد للأمم المتحدة هو توفير قوة من 10 آلاف رجل تكون مهمتها حفظ الأمن وإعادة الأوضاع إلى طبيعتها. ولكن حتى موعد تحقق هذا الهدف، فإن باريس تجد نفسها في المستنقع الأفريقي غارقة حتى الأذنين فيما الشركاء «الأوروبيون» والحلفاء «الأميركيون» غير مستعجلين لإخراجها منه.

* نقلا عن مجلة "المجلة" اللندنية