الصمت يثقل كاهل المكان، وقد بدأت الازقة والشوارع في منطقة وسط البلاد بمدينة بنغازي في هذا المساء فارغة كئيبة، ويقطع حدة صمتها بين الحين والآخر، نباح الكلاب الذي يرج أرجاء المكان، دخلت بداية الشارع الدمار والسكون حلا به، وكلما تقدمت ازداد الشارع ضيقا، ووحشة، وعند مدخليه تزاحمت الكلاب تنتظر الانقضاض علي بأبسط حركة خاطئة قد أقوم بها.

وسط هذا الركام والدمار تعيش ش، ن ذات 21 ربيعا هي ووالدتها، وابنها، واخوتها الصغار بعد أعوام من النزوح والتنقل بين المدن الليبية، ومرارة الايجار، وعبس الأقارب، في شقة صغيرة طالتها يد الدمار والحرب، التي تطل من خلف الصيانة البسيطة التي جعلتها نوعا ما صالحة للحياة، والعيش بكرامة.

تقول ش، ن ــ التي تزوجت وأنجبت وتطلقت خلال سنوات نزوحها وهي لم تبلغ العشرون عاما بعد ـــ عن يوم نزوحهم الذي لم تتوقع أن يطول إلى هذا الحد: خرجنا من منزلنا في بداية عملية الكرامة أو حرب الجيش ضد داعش بمدينة بنغازي، وكنا آخر من خرج  من منزله بمنطقة وسط البلاد، التي كانت آخر معاقل داعش بالمدينة، حيث قام بإخراجنا الهلال الأحمر الليبي، وكان خروجنا بناء على أننا نبقى أربعة أيام فقط ثم نعود إلى منزلنا، وتركنا كل شيء جوازات السفر، وكل الأوراق التي تهمنا، واحضرنا معنا بعض الملابس الخفيفة فقط، ولكن تلك الأربعة أيام طالت لتصبح أربع سنوات، تنقلنا خلالها من منطقة إلى منقطة بمدينة بنغازي، ثم من مدينة لمدينة ومن بيت لبيت كان أولها بيت جدي، وبعد أن بدأت شوارع من منطقة وسط تتحرر عدنا وسكنا بشارع جمال عبدالناصر.

تحول أبي إلى أشلاء

فجأة اشاحت بصرها عني أثناء الحديث وبدأت عيناها تمتلي بالدموع ثم نظرت إلى السقف وقالت: بعد شهر من عودتنا للسكن في شارع جمال توفي والدي إثر انفجار لغم، عندما عاد إلى منزلنا ليطمئن عليه، داس على كوم من الرمال كان يوجد بها لغم، تقطع والدي إلى أشلاء بترت رجليه ويديه لم يبقى إلا جسده العلوي، بعد هذه الحادثة عدنا للإقامة في منزل جدي.

بدأت لي تلك الشابة الجميلة متماسكة أثناء سردها لحكايتها مع النزوح وواصلت سردها عن العودة لشقتهم قائلة: في عام 2019م بدأنا في صيانة شقتنا التي تضررت كثيرا من الحرب، كانت الأعمدة فقط التي تسند الشقة من السقوط هي الموجودة، ولا يوجد شيء سليم إلا المطبخ، وقامت بصيانة الشقة جمعية خيرية، ولكن المعدات والمواد الكهربائية قمنا بإحضارها نحن وقمنا بتوصيل المياه والكهرباء واستقرينا في بيتنا من جديد، ولم تقدم لنا الدولة شئيا.


تم سرقة الشقة بالكامل

وتضيف عن البيئة التي يعيشون بها حاليا قائلة: نحن نعيش في بيئة غير صحية، وقد واجهتنا مشاكل كثيرة قبل السكن وبعد الصيانة وقبل أن نتمكن من تركيب الحماية على النوافذ تم سرقة الشقة بالكامل، حيث يوجد تحت النافذة كومة عالية من الركام الذي خلفته الحرب من يتسلقها يستطيع الدخول إلى الشقة من النافذة قبل تركيب الحماية، وتقول بمرارة عن هذه السرقة أنهم سرقوا حتى أنبوبة الأكسجين الخاصة بطفلي المريض بالقلب.

وعن مدى الأمان الذي تشعر بها في شقتها تقول: الخوف لم يتركنا وفي كل الأوقات نشعر بعدم الأمان، حتى بعد أن قمنا بتركيب الحماية على النوافذ وعلى الباب إلا اننا مازلنا نخاف، ولكن ماذا نفعل " الله غالب" ليس لدينا مكان نذهب إليه، إضافة إلى أصوات الرماية بالأسلحة التي تحدث قريبا منا، معاناة النزوح صعبة جدا فرضت علينا العودة إلى بيتنا وهو غير آمن، ولا يوجد مكان نذهب إليه، وأن الحديث عن التعويضات لم يصلنا منه شيء ولم نعد نسمع عنهن، " عايشين على بركة الله وخلاص".

الأخرون لا يرغبون في العودة

وحول مدى صلاحية العمارة وخلوها من الاضرار التي تحافظ عليها من السقوط تقول: أنا لا أعرف شئيا حول ذلك، هي العمارة في الأيام الماضية سقطت شرفة الدور الثالث أي الشقة التي فوق شقتنا، على شقتنا والشقة التي تحتنا ثم سقطت على سيارة جارنا، لذلك لم نعد نقوم بصف السيارات تحتها ولا تحت أي عمارة أخرى، وتضيف عن الجيران الموجودين معهم في العمارة قائلة: نحن وخمس عائلات أخرى فقط نسكن هنا الباقي لا يرغبون في العودة بسبب الأوضاع الصعبة هنا.

وتقول ش، ن عن بداية يومها وسط هذا الدمار: تقوم أمي في الصباح بإيصال إخوتي إلى المدرسة وأنا اذهب إلى الجامعة فأنا ادرس بكلية الصيدلة حاليا، وتظل أمي مع ابني الصغير، إلى حين عودتي من الجامعة، بعدها تذهب هي إلى عملها بأحد مراكز التجميل بالمدينة وتعود قبل أن يحل الظلام.

تأقلمنا مع الكلاب

وعن كيفية تعاملهم مع الكلاب المنتشرة بكثرة من حولهم تقول: تعبنا في البداية ولكن بعد ذلك تأقلمنا معها، وبعد أن بدأت تتعرف إلينا لم تعد تنبح علينا أو تحاول أن تؤذينا، صح لا ننام في الليل من كثرة الخوف فالليل هنا مخيف جدا.

وتشير إلى أن المنطقة غير آمنة من كثرة الألغام المحيطة بنا فهي موجودة بالمحلات المحيطة بنا، والقريبة منا، ونحذر اخوتي قبل النزول أن لا يدخلوا إليها، وتم وضع علامات توضح وجود الغام هنا، فخلال الفترة الماضية انفجر لغم في شاب في مقتبل العمر في الشارع الذي أمامنا، وعندما جئنا للسكن قام الجيران بتحذيرنا من الاقتراب من هذه الأماكن لأنها مليئة بالألغام.

وتؤكد أنهن لم يتعرضن لمضايقات من الشباب بحكم إنهن من سكان المنطقة منذ فترة طويلة، ولكن ذات يوم وجدنا إطارات سيارة أمي ممزقة وكأن أحد قصد هذا الفعل، وبعدها لم تتكرر هذه الحادثة، فبالتأكيد مع غياب الدوريات الأمنية بالمنطقة ستحدث مثل هذه الأشياء، فنحن لا نراهم إلا بعد شهر أو شهرين يمرون سريعا، أو يمر الحرس البلدي يقتل الكلاب ويتركها مكانها.

وتختم ش، ن كلامها قائلة نحن نعيش في بيئة غير صالحة وقد تحدثنا إلى عدد من الجهات من أجل إزالة الركام الذي يوجد تحت نافذة الشقة فهو يجلب الحشرات والرائحة الكريهة ولكن أحد لم يستجب على حد قولهم إن هذا المكان ملئ بالألغام ولا نستطيع الاقتراب منه.