من يتابع المشهد السياسي والثقافي والإجتماعي في تونس يلاحظ عودة الحبيب بورقيبة الى صدارة الزعامة ، فالتونسيون إختاروا اللجوء الى تاريخهم القريب والبحث عن المثل الأعلى والرمز والنموذج والأب الذي يمكن أن يوفر لهم أملهم في الدفاع عن مقومات المجتمع والدولة المدينة الحديثة والهوية الوطنية ،ويبدو  أنهم لم يحتاجوا الى طول عناء ، حيث وجدوا في  إستحضار شخص وملامح وفكر وتجربة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بعض الأمان الذي كادوا يفتقدونه في خضم  التحولات السياسية التي عرفتها بلادهم بعد الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في الرابع عشر من يناير 2011

واليوم تتبنى عشرات الأحزاب السياسية والمنظمات والجمعيات الدينية فكر ومشروع بورقيبة في تأكيد على الدور الريادي الذي قام به الرجل في تحرير البلاد وبناء الدولة ، ويحيي التونسيون يوم السادس من شهر إبريل الذكرى السنوية لوفاة زعيمهم الوطني الذي ودّعوه في العام 2000 بعد أن قضى 13 عاما معزولا عنهم في إقامة جبرية بسكن حكومي في مسقط رأسه مدينة المنستير الساحلية ، وذلك على إثر الإطاحة به من قبل وزيره الأول زين العابدين بن علي في السابع من نوفمبر 1987 في ما سمي بالإنقلاب « الطبي » 

وتحوّل ضريح بورقيبة الى مزار يقصده الساسة والمواطنون والسواح الأجانب ، كما تم إنجاز متحف خاص بالزعيم الراحل يحتوى على مقتنياته الخاصة وصوره وتسجيلاته الصوتية والمرئية وما كتبه وما كُتب عنه ، وشواهد عن حياته منذ ولادته في الثالث من أغسطس 1903 الى وفاته في السادس من إبريل 2000 مرورا بمراحل النضال والسجون والنفي والعمل السياسي الى أن حصلت تونس على إستقلالها عن فرنسا في 20 مارس 1956 ثم إعلان الجمهورية في يوليو 1957 وفترة حكمه التي إستمرت ثلاثين عاما ، 

العودة الى بورقيبة

والعودة الى بورقيبة جاءت بعد  إتساع دائرة الخوف من سيطرة المشروع الإخواني والفكر الديني المتطرف بما يهدد النموذج المجتمعي الحداثي والمنفتح  والسلم الإجتماعي والحريات الخاصة ومكاسب المرأة ، فالزعيم الذي يعتبر أبا الدولة التونسية الحديثة كان قد راهن على التعليم والصحة ونجح في الإطاحة بالعصبية القبلية ،وإستطاع في العام 1956 ، بعد إشهر قليلة على إستقلال البلاد إصدار قانون الأحوال الشخصية الذي منه تعدد الزوجات وقنّن الطلاق وجعله من مشمولات القضاء دون غيره ، وقاد حملة تنظيم الأسرة بما حال دون الإنفجار الديمغرافي في بلد محدود الإمكانيات ، كما وحّد القضاء وجعله مدنيّا ،ووحّد التعليم وجعله نظاميّا ، وفرض تعليم البنات ، وإختار أن يذهب ثلث ميزانية الدولة للتربية والتعليم ، وإرتبط بعلاقات دولية متوازنة ، وكان سبّاقا في دعوة العرب منذ العام 1965 الى القبول بمبدإ التقسيم للأراضي الفلسطينية والى إعتماد مبدإ « خذ وطالب » ،وفي التنبّؤ بسقوط الشيوعية وإنهيار حلف وارسو ، كما كان له موقف واضح من الإسلام السياسي ومن جماعة الإخوان المسلمين الذي أجاب حين سئل عن  سرّ الخلاف معهم « بيني وبينهم 14 قرنا ليس إلّا » 

الشخصية الوطنية

 أكد الباجي قائد السبسي رئيس الحكومة الإنتقالية الأسبق وزعيم حركة « نداء تونس » والذي عمل مع الزعيم الرحيل منذ العام 1956 وتولى مناصب مهمة في عهده « أن العودة الى بورقيبة هي عودة الى الهوية التونسية وملامح الشخصية الوطنية كما نظّر لها ودعا إليها وكرّسها المجاهد الأكبر طيلة تجربته السياسية ، والبورقيبية فكر وأسلوب تفكير ورؤية سياسية ومنهج في العمل وفي فهم الواقع والمستقبل ،وقد إستطاع بورقيبة  أن يبلور نموذجا مجتمعيا تونسيا وسطيا معتدلا وفكرا سياسيا واقعيا وإستشرافيا وأن يكرّس حالة تونسية حضارية متميزة رغم ضعف الإمكانيات وقلة الموارد ،وقد أثبتت هذا الحالة تفرّدها في مواقف عدة وخاصة بعد الثورة حيث إستطاع العقل التونسي أن يتجاوز جلّ العراقيل  ، وأن يثبت تميّزه وواقعيته وميله الى الحوار ونبذه للعنف » 

وأوضح  قائد السبسي أن بورقيبة من طينة الزعماء الكبار الذين بصموا عهودهم ومجتمعاتهم وأثروا في شعوبهم تأثيرا كبيرا ،وأردف « قد يستغرب البعض من شباب تونسي في عمر الزهور لم يعش زمن بورقيبة ولم يستمع الى خطبه وكلماته ،ومع ذلك يرفع صوره ويحتفي بشخصيته ويستشهد بمواقفه ويدافع عنه أمام هجمات المتشددين والتكفيريين والغلاة ممن يحقدون على الزعيم ،لا لشيء إلّا لأنه نجح في أن يقطع أمامهم طريق وضع اليد على الدولة والمجتمع حيث فوجئوا عند محاولتهم تغيير النموذج المجتمع والهيمنة على البلاد أن الدولة المدنية التي أرساها الزعيم عصية على التدجين ،كما وقفت المرأة التي حررها بورقيبة بقوة أمام المشروع الكهنوتي ، وعرفت الإدارة التونسية كيف تحافظ على مصالح الناس رغم الظروف الإستثنائية ، ونجح منطق الإعتدال الذي رسّخه الزعيم الراحل في صد جحافل التشدد والتطرّف » 

زعيم وقائد

ويرى التونسيون أن الحبيب بورقيبة  أعطى للدولة هيبة ، وأنه كان خطيبا مفوّها ، وقائدا مثقفا ، ووطنيا صادقا ، وصاحب مشروع تحديثي ، ومحبّا لبلاده رغم كل الأخطاء المحسوبة عليه ، والتي يجد لها بعض البورقيبيين مبررات ، فبورقيبة كان لا يعترف بديمقراطية في شعب لا يزال يعاني من الجهل والأمية والفقر والحاجة ،وعندما دعاه أحد المقربين منه للإستفتاء حول قانون الأحوال الشخصية وتحرير المرأة ومنع تعدد الزوجات في العام 1956 ،أجابه بأن « الشعب قد يرفض اليوم هذا القانون ولكنه سيفخر به بعد ثلاثين عاما » ، وروى حمّة الهمامي زعيم حزب العمال ( الشيوعي سابقا ) أحد أكبر معارضي بورقيبة خلال عقدي السبعينات والثمانينيات أنه تم إعتقالهم بسبب نشاطهم السياسي ثم دعاهم بورقيبة الى مقابلته في قصر الرئاسة ليتحدث معهم ، وليقول لهم أنه يفضّل أن يكون له معارضون متعلمون ومثقفون على أن يكون له أنصار من الجهلة والأميين ، ويقول المناضل والحقوقي على بن سالم الذي شارك في المحاولة الإنقلابية ضد بورقيبة في العام 1962 « بعد خروجي من السجن  بأيام قليلة فوجئت بالوالي ( المحافظ) يدعوني الى مكتبه فإستغربت الأمر ، ثم قصدت الولاية ، وإلتقيته ، لزجده يخبرني بأن الرئيس يعرض علي العودة الى عملي السابق حتى إحفظ كرامتي وأعيل أبنائي 

وفي العام 1972 كان بورقيبة  في قصر الرئاسة يتابع خطابا كان يلقيه الزعيم الليبي السابق معمر القذافي في صالة البالماريوم في تونس العاصمة يتحدث فيه عن ضرورة إعلان الحرب على الغرب والولايات المتحدة ، فقرر بورقيبة الإلتحاق بالإجتماع ،وواجه القذافي بالقول : كيف ستحاربهم ؟ وكيف ستنتصر عليهم بسلاحهم ؟ وهل إمتلكت ناصية العلم والمعرفة والصناعة الثقيلة لتواجه الغرب ؟ إن أي مغامرة منك ستجعلهم يردون عليك بقوة ويدمّرون كل شيء 

سبق عصره

ويعتقد كمال مرجان زعيم حزب المبادرة الوطنية أن « الحبيب بورقيبة قائد فذّ ، يذكر له التونسيون أنه قاد معركة التحرير من الإستعمار ثم معركة بناء الدولة الحديثة ، وقد كان الرجل سابقا لعصره ، وصاحب فكر تنويري وإصلاحي متجذّر في بيئته ومتّصلا بمدرسة الإصلاح التونسية ذات السبق في محيطها ، وهو وإن كان صاحب شخصية كاريزمية فهو كذلك صاحب رؤية ثاقبة ناتجة عن ثقافته العميقة في بعديها العربي والغربي وعن موهبة كبيرة دفعت به دائما ليكون صانع أحداث ومواقف » 

ويضيف « أن بورقيبة الذي يتهمه خصومه بالتغريب لم يكن معاديا للهوية العربية الإسلامية وإنما كان يدافع عن فكرة الهوية الحضارية العميقة المبنية على الإجتهاد والإنفتاح وتوسيع الأفاق ، حتى أن قانون الأحوال الشخصية الذي كان محل إنتقاد الإسلاميين بات اليوم محل إجماع الأغلبية الساحقة من التونسيين بما فيهم حركة النهضة  الإسلامية التي يعترف قادتها أن منع تعدد الزوجات لا يتناقض مع مقاصد الشريعة وأنه إجتهاد من داخل الدين ذاته »

 

ضمان للوحدة 

ويؤكد الباحث والأكاديمي ناجي جلّول أن « وراء عودة بورقيبة الى صدارة المشهد السياسي في البلاد توق التونسيين الى إستعادة الأب الضامن للوحدة الوطنية والزعيم القادر على رفع التحديات والنموذج المحلي المتقدم على النماذج المستوردة ، وعندما أطيح بالنظام السابق وحاول الإخوان والسلفيون والمتشددون مل ء الفراغ السياسي والثقافي ، عاد بورقيبة ليتحصّن به التونسيون ، رليستندوا اليه في الدفاع  عن دولتهم المدنية الحديثة المنفتحة على العالم المواكبة للعصر والمتجاوبة مع تطلعات أبنائها » مشيرا الى أن « التاريخ قد أنصف بورقيبة الذي تعرضت شخصية للتهميش والطمس في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ، والأجيال الجديدة عادت لتقرأ سيرة الرجل الذي كان له الدور الأهم في بلورة صورة تونس الحديثة القادرة على حماية نفسها من أي مشروع يحاول العودة بها الى الوراء » 

وقال الناشط السياسي والقيادي في حركة نداء تونس محسن مرزوق أن الناجح حاليا في تونس هو فكر بورقيبة بدليل محافظة المجتمع التونسي على خصوصياته والدولة المدنية على بنيتها ، وأضاف أن الحبيب بورقيبة أكد حضوره القوي عندما قبل خصومه الحاليون وخاصة من الإسلاميين  بالإبقاء على الفصل الأول من دستور 1959 الذي يحدد هوية الدولة ورفضهم تضمين مبدأ إعتماد الشريعة كمرجع أساسي للقوانين في الدستور الجديد 

وتابع مرزوق أن الزعيم الراحل كان إسلاميا حداثيا ومصلحا ولم يكن في يوم من الأيام لائكيا أو معاديا للدين كما يدعي بعض الذين لم يجيدوا قراءة التاريخ ،فبورقيبة مثلا رفض تنظيم المؤتمر الأفخارستي المسيحي في تونس خلال فترة الإستعمار في حين قبل به رجال دين موالون لفرنسا وللنظام الملكي أنذاك ،وبورقيبة كان يخطب من على منابر المساجد ليدافع عن الدين من منظور حاثي تقدمي ، وكان يرفض إستغلال الدين لأهداف سياسية عكس بعد بعض الأيمة الذي يهاجمونه من على منابر مساجد بنيت في عهده » 

 

المدرسة البورقيبية

في تونس توجد مدرسة فكرية وسياسية بازرة إسمها المدرسة البورقيبية وهي التي ينتمي إليها أنصار  الزعيم الراحل وخاصة من الدستوريين نسبة الى الحزب الحر الدستوري الجديد الذي أسسه بورقيبة في مارس 1934 ، ويرى التونسيون أن البورقيبية تعتمد بالأساس على مبدأ الوسطية والواقعية السياسية التي تعتمد على المرحلية في تحقيق أهدافها وترفض كل أشكال التطرف والمغالاة ، 

كما أنها تنبني على الموضوعية في قراءة التاريخ والعقلانية في التعاطي مع الحاضر و الرؤية الإستشرافية في التفاعل مع المستقبل ، وتنزع الى التوازن والإستقلالية في العلاقات الخارجية ،وإلى ترسيخ هيبة الدولة ،وتحقيق وحدة المجتمع 

وتعتبر حركة نداء تونس التي يتزعمها الباجي قائد السبسي والحركة الدستورية التي يقودها حامد القروي وحزب المبادرة الوطنية الذي يترأسه كمال مرجان من أبرز القوى السياسية التي تتبنى المدرسة البورقيبية والتي تحظى بحضور مهم في الساحة التونسية حتى أن حركة نداء تونس باتت الحزب الأكبر في البلاد والحاصل على النسبة الأعلى من نوايا التصويت في الإنتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة حسب أغلب علميات سبر الإراء 

 

رمز للمقاومة

رغم رحيله جسدا منذ 14 عاما وعزله سياسيا منذ 27 عاما ، إنتفض مشروع بورقيبة ليقاوم التيارات الدينية المتشددة سواء المرتبطة بالمشرروع الإخواني أو بالمشروع السلفي ، وعاد المدافعون عن الدولة المدنية من ليبيراليين ويساريين  ووسطيين وتقدميين ليرفعوا شعارات الزعيم الراحل ، وتحولت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي الى ساحة مواجهة مفتوحة بينهم وبين  الإسلاميين الذين يجاهر بعضهم بتكفير الحبيب بورقيبة وإتهامه بالإلحاد ومعادة الإسلام والماسونية والتبعية للغرب 

وفي حين يؤكد الباجي قائد السبسي أن كل معتدل وحداثي وتقدمي هو بورقيبي بالأساس يقول حمة الهمامي زعيم اليسار الراديكالي « نحن الأبناء الشرعيون لبورقيبة » وتخرج نساء تونس رافعات صور الزعيم في إشارة الى وفائهن للمكاسب التي حققها لهنّ ،وهي مكاسب أثبتت صمودها في وجه كل محاولات العصف بها ، كما لا تخلو مسيرة شعبية تقودها التيارات المدنية من صور بورقيبة 

كما ولدت حركة طلْابية تتبنى الخيار البورقيبي ،وصدرت عشرات الكتب التي تنناول شخصية الرجل ، أغلبها تدافع عنه وتستعرض مواقفه التقدمية ، ولم يجد الرئيس الحالي منصف المرزوقي بدّا من الإعتراف بدور الزعيم الراحل في تحديث المجتمع وترسيخ مدنية الدولة ،ومن رفع صورته في مكتبه بقصر قرطاج 

وعندما حاول أحد الشبان المتشددين في أكتوبر الماضي تفجير ضريح بورقيبة ندّد التونسيون بالحادثة وإعتبروها جريمة ضد وطنهم ووطنيتهم ، وعندما حاول مفتى البلاد حمدة سعيّد الإساءة الى الزعيم وإتهامه بمعاداة الإسلام كان ردّ الفعل عليه صاخبا مما دفع به الى الإعتذار 

ويذكر التونسيون أن بورقيبة لم يكن له رصيد مالي  ولا ممتلكات داخل أوخارج البلاد و لم يبن لنفسه منزلا خاصا ، وعندما بنى ،بنى لنفسه ولوالديه ضريحا في قلب مدينة المنستير ،وكتب على شاهد قبره : هذا قبر الحبيب بورقيبة باني تونس الحديثة ومحرر المرأة