أنجبت ليبيا الكثير من الفنانين المبدعين في مجالات الغناء والموسيقى ، غير أن اسم محمد حسن يمثّل استثناء من حيث خصوصية وعمق التجربة ، وغزارة وثراء الإنتاج ، والجمع بين الأداء الصوتي المقتدر والمعبّر والألحان الراقية والمتجذرة في روح الانتماء الأصيل للهوية الوطنية ، والاستمرارية وطول النفس ، الى جانب طرق مختلف المواضيع سواء كانت وطنية أو عاطفية أو اجتماعية أو وصفية أو تراثية أو ملحمية وغيرها ، وهو ما يلاحظه المتابع من خلال الأعمال الكبرى مثل « رحلة نغم » و « الواحة » و« النجع » وصولا الى« سيرة أولا هلال » التي قام بتلحينها وشاركه في أدائها عد من الأصوات من أبرزها الفنانة التونسية الراحلة ذكرى ، وقام بدور الراوي الفنان الكبير الراحل حسن العريب يقدم محمد حسن مئات الألحان والأغاني التي أداها بصوته أو قدمها بأصوات أخرى من داخل ليبيا وخارجها ( مثل وردة الجزائرية ، أنغام ، ذكرى ، لطفي بوشناق ، أصالة ، لطيفة ، حسين الجسمي وغيرهم ) ، وتعتبر أعماله الأوسع انتشارا في وسائل الإعلام ووسائط الاتصال المحلية، وتحولت بعض ألحانه وجمله الموسيقية الى جزء من الإيقاع اليومي للحياة الاجتماعية والعاطفية، ومن المرجعية الجمالية العامّة في البلاد ، إذ يمكن اعتبار الفنان الراحل أبرز عنوان للوجدان الشعبي الليبي خلال السنوات الخمسين الماضية ، وصاحب أكثر الجمل الغنائية والموسيقية ترددا على ألسنة الليبيين وفي جميع مناسباتهم ، وفي مختلف حالاتهم ، وحتى من كانوا يحسبونه سياسيا على النظام السابق ، ويرون فيه معبّرا عن المرجعية العقائدية وملمّعا لشخصية العقيد معمر القذافي ، أقرّوا خلال السنوات الماضية بأنه أحد أسس وأعمدة ورموز الهوية الليبية ، وأن منجزه الفني سيبقى متجاوزا للعهود والتجارب والمواقف السياسية ، وحتى أغانيه الوطنية والقومية التي قدمها للنظام الجماهيري لن تمحى من الذاكرة ، وإنما ستمثل على الدوام وثائق فنية تؤرخ لجملة من الأحداث التي عرفتها البلاد ، وتقدم للأجيال القادمين من الباحثين والدارسين والمكتشفين والمتلقين العاديين صورة وافية عن علاقة الفن بالسياسة خلال مرحلة من تاريخ ليبيا بلغت 42 عاماومحمد حسن الشبلي من مواليد العام 1944 بمدينة الخمس الساحلية الواقعة الى الشرق من العاصمة طرابلس بحوالي 135 كم بليبيا ، وهناك تلقى تعليمه الأول، قبل أن يسيطر عليه عشق الفن ،فاتجه الى الإذاعة في العام 1961 ، وانضم الى المجموعة الصوتية لفرقتها الموسيقية ، وبدأ في تشكيل تجربته من بنغازي ضمن فرقة الفنان وأستاذ المألوف حسن العريبي ، الذي كان في يعمل كموظف في وزارة المواصلات في بنغازي، ثم تحول الى عنصر فاعل في قسم الموسيقى بإذاعة بنغازي عندما تأسست في العام 1959 ، وقدم عددا من الحانه الى نخبة من الأصوات الليبية والعربية من بينهم محمد حسن وعطية محسن وإبراهيم حفظي والمصرية هدى سلطان واللبنانيتين سعاد محمد ونازك والتونسيتين عليّا ونعمة ، وفي العام 1964 عاد الى طرابلس حيث أسس فرقة المألوف والموشحاتتشكلت ملامح محمد حسن كملحن ومطرب في ظل التحول السياسي الذي عرفته البلاد عندما تمت الإطاحة بالنظام الملكي في فاتح سبتمبر 1969 ووصول الضباط الشبان بقيادة محمد القذافي الى الحكم ، وهو ما جعل منه صوتا يؤرخ للأحداث بإحساس وطني وقومي متدفق ، حيث غنى لقيام اتحاد الجمهوريات العربية ، ولإعلان جربة بين ليبيا وتونس ، وقدم من شعر نزار قباني قصيدة « السيد مات » في رثاء جمال عبد الناصر ،ولغيرها من الأحداث ، وعندما عاد في العام 1976 الى مسقط رأسه مدينة الخمس بعد سنوات الإقامة في بنغازي ، خطرت بباله فكرة سرعان ما طرحها على صديقه ورفيق دربه الشاعر الراحل فضل المبروك ،وتتمثل في ملحمة غنائية بعنوان « رحلة نغم » يتجول خلالها في كامل أرجاء ليبيا مرورا بمدنها وقراها وخصوصياتها التاريخية والطبيعية وألوانها الموسيقية والتراثية ،تعامل محمد حسن مع أغلب شعراء ليبيا ، ومن بينهم سليمان الترهوني وفضل المبروك وعبد السلام زقلام ومسعود القبلاوي ، وكذلك محمد الفيتوري ونوري الحميدي وخليفة التليسي ، بالإضافة الى تجربة متميزة مع الشاعر علي الكيلاني في أغان من بينها « الجودة والجود والأجواء » و« طق العود » وملحمتا « الرباط » و« فارس ورجال » ، وأخرى مع الشاعر الكبير عب الله منصور ، أضافت الى خزينة التراث الموسيقى الليبي عشرات الأعمال المتميزة ،وعددا من الملاحم الغنائية المستندة الى الموروث الثقافي الثري وهي « النجع » و« الواحة » و« سيرة أولاد هلال »بعد الإطاحة بالنظام السابق ، اختار محمد حسن البقاء في ليبيا ، ورفض أن يغادرها كما فعل الكثيرون من المحسوبين عليه ، وقد تعرض للتوقيف لفترة محدودة وللتنمر من قبل بعض المتشددين ، وبروح وطنية عالية تقدم ليغني لليبيا الوطن داعيا للمصالحة وطي صفحة الماضي ، بالرغم من أنه كان دخل في مواجهة مع مرض عضال ، واضطر لصرف جميه مدخراته تقريبه في رحلات العلاج ليلفظ أنفاسه الأخيرة في مصحة خاصة بتونس في 17 ديسمبر 2017 ويدفن في اليوم الموالي بمدينة الخمسيعتبر محمد حسن مدرسة فنية متجذرة البناء ومتكاملة الأبعاد ، وعبقرية فنية غير مسبوقة في ليبيا ، وتجربة من التجارب المتميزة على الصعيد العربي ، وقد تعرض للظلم في ظل النظام السابق مثله مثل أغلب الفنانين والأدباء والمفكرين والمبدعين الليبيين في مختلف المجالات ، وهو ظلم من نوع خاص ، حيث أن الصراعات السياسية التي كان الزعيم الراحل معمر القذافي قد دخلها مع أغلب الدول العربية ،ومواقفه من بقية الأنظمة ، وشعاراته الراديكالية التي يرفعها ، أدت الى عزلة للنظام كان من نتائجها عزلة الفنان والمبدع الليبي باعتباره حاملا لمشروع النظام ، كما أن الفنان الليبي كان محروما من أن يعيش نجوميته على صعيد واسع ،وأن يتحرك بسهولة في خارج بلاده ، وهذا ما انطبق على محمد حسن ، الذي كانت جولاته الفنية خارج ليبيا مرتبطة فقط بسياسات النظام وبلحظات تاريخية معينة منها إعلان الوحدة مع المغرب ومع سوريا وتوطيد العلاقات مع موريتانيا وتونس في فترات معينة ، وصولا الى حفلين في لندن وباريس كانا فقط كمؤشرين على الانفتاح على الغرب بعد حل أزمة لوكربيكما أن ليبيا ، لم تكن توفر خلال النظام السابق ، أي أطر قانونية للاحتراف الفني ، ولا للاستثمار في الفن ، ولم تكن تشهد تنظيم مهرجانات فنية وفق قاعدة العرض والطلب ، وإنما كانت الحفلات الفنية فيها مرتبطة بالمناسبات الوطنية ، وكانت الأبواب تفتح مجانا للجمهور ، على أن تقوم الجهات الرسمية كهيئة الإذاعة أو وزارة الثقافة بدفع اجور الفنانين التي عادة ما تكون متواضعة ، ولذلك كان محمد حسن ممنوعا من الغناء بمقابل حتى في خارج ليبيا ، وهو ما يعرفه التونسيون مثلا عندما أحيا حفلات بالمجان في مهرجانات قرطاج وصفاقس والحمامات ودوز وغيرهاوالحقيقة ، أن اللون الموسيقى والغنائي الخاص بمحمد حسن ، كان يمكن أن يؤهله لنيل مرتبة عالية من النجومية على الصعيد العربي ، وخاصة في منطقة الجزيرة العربية والخليج ، فلونه البدوي الأصيل يشد أسماع الجمهور العربي الواسع في اليمن والسعودية والأردن وبادية سوريا والعراق وبقية الدول الخليجية ، وكذلك في بادية شمال إفريقيا ، وهو لا يقل شأنا عن السعودي محمد عبده ، أو عن الراحل طلال مداح ، ولا سيما أن الخصوصيات الفنية و الثقافية والحضارية للمجتمع الليبي تعتبر امتدادا مباشرا لنظيرتها في دول المشرق العربي ورابطا بينها وبين المنظومة المغاربيةومن المؤسف أن ليبيا تعتبر من بين الدول التي لا تحمي حقوق المؤلف ولا توليها أية أهمية ، وهي عموما لا تعترف بالقوانين الدولية في هذا المجال ، ولا توجد بها مؤسسة وطنية فاعلة تختص برعاية الحقوق المادية والمعنوية للمبدعين ولتحصين الملكية الفكرية المعرفّة عالميا بأنها إبداعات العقل من اختراعات ومصنفات أدبية وفنية وتصاميم وشعارات وأسماء وصور مستخدمة في التجارة.كما أن الحكومات المتتالية منذ استقلال البلاد لم تول أهمية تذكر لحقوق المؤلف ، ولا لورثته ، ولم تتجه الى حماية المصنفات الفنية الليبية التي تعرض جزء مهم منها الى النهب والسرقة والى الاستغلال الفاحش دون إذن من المبدعين الأصليين أو ورثتهموبينما لم يستفد محمد حسن طوال حياته من حقوقه كمؤلف موسيقي ، أو بالحقوق المجاورة كمؤدّ ومنتج للمصنفات ، وغيرها من الحقوق المصدّق عليها عالميا ، ولم يتمكن من ضمان حقوقه في المؤسسات الدولية المتخصصة مثل « ساسام » الفرنسية ، فإن رحيله المؤلم قبل أربع سنوات ، كشف عن تنكّر كامل من قبل السلطات الحكومية لواجباتها نحوه باعتباره رمزا فنيا وثقافيا وصاحب فضل على الدولة والمجتمع ، ،كصانع محتوى مؤثر في تشكيل الوجدان الوطني والشعبي ، وصاحب إرث فني لا غنى عنه سواء لجهات البث أو لجهات التلقّي ، وهوما أدى الى حرمان ورثته من حقوقهم المادية والمعنوية ، ودفع بهم الى ظروف صعبة ،ولا سيما أن أغلب أبناءه كانوا قد تخصصوا في المجال الفني أو كانوا جزءا من فريق العمل الخاص بالفنان الراحل ، كما أن أغلب ما حققه من مدخرات طوال سنوات نشاطه الفني ، تعرض للتدمير والإتلاف أو الى النهب والسرقة أثناء وبعد حرب الإطاحة بالنظام في العام 2011 ،وقد يكون من الصعب أن يتخيّل المرء أن أسرة فنان كبير في مستوى محمد حسن، تعاني من ضيق اليد ، لكن الأمر يصبح قابلا للاستيعاب بالنظر الى التجاهل الحكومي لدور الفن والفنانين ، والى الفساد المالي والإداري الذي ما انفك يسيطر على المؤسسات الثقافية والإعلامية ، والى غياب الحقوق القانونية للمؤلف ، فيما تجدر الإشارة الى أنه تم في 16 مارس 1968 إصدار قانون حقوق المؤلف بتوقيع من الملك إدريس السنوسي عاهل المملكة الليبية ، وعبد الحميد البكوش رئيس مجلس الوزراء ، وأحمد الصالحين الهوني وزير الإعلام والثقافة ، ومما جاء فيه أنه « لورثة المؤلف وحدهم الحق في تقدير نشر مؤلفاته التي لم تنشر في حياته ما لم يوصى المؤلف بما يخالف ذلك على أنه إذا حدد المؤلف موعداً للنشر فلا يجوز نشر المصنف قبل انقضاء الموعد المذكور» و« لورثة المؤلف وحدهم الحق في مباشرة حقوق الاستغلال المالي المشار إليها في هذا القانون فإذا كان المصنف مشتركاً ومات أحد المؤلفين دون أن يترك وارثاً أو موصي له فإن نصيبه يؤول إلى شركائه في التأليف أو خلفهم ما لم يوجد اتفاق يخالف ذلك» و« مع عدم الإخلال بحكم المادة (8) تنقضي حقوق الاستغلال المالي المنصوص عليها في هذا القانون بمضي خمسة وعشرين سنة على وفاة المؤلف على ألا تقل مدة الحماية في مجموعها عن خمسين سنة من تاريخ أول نشر للمصنف على أنه بالنسبة للمصنفات الفوتوغرافية والسينمائية التي يقتصر فيها على مجرد نقل المناظر نقلاً آليّاً فتنقضي هذه الحقوق بمضي خمس سنوات تبدأ من تاريخ أول نشر للمصنف » و «تحسب المدة في المصنفات المشتركة من تاريخ وفاة آخر من بقي حياً من المشتركين فإذا كان صاحب الحق شخصاً معنوياً عاماً أو خاصاً انقضت حقوق الاستغلال المالي بمضي ثلاثين سنة من تاريخ أول نشر للمصنف » .اليوم ، وبعد أربع سنوات مرت على رحيله ، تتجدد تجربة محمد حسن الفنية من داخل عمقها وجاذبيتها وتنوع وثراء مفرداتها وعبقرية أصالتها الفنية ، فإذا بالمتلقي الليبي من أقصى الشرق الى اقصى الغرب ، ومن الجنوب الى الشمال ، وفي المدن والقرى والأرياف ، وبالرغم من اختلاف المستويات الثقافية والمعرفية والفئات الاجتماعية والمواقع الوظيفية والانتماءات السياسية والعقائدية ، يجد نفسه مشدودا الى الفنان الكبير الراحل كقامة وقيمة ومقام ، وكرمز من رموز الهوية الوطنية الليبية ، وكنموذج أصيل لقدرة الفن على توحيد الشعبولكن رغم ذلك، فإن محمد حسن يحتاج الى رد إعتبار من السلطات الرسمية ، ولاسيما عبر تكريمه وحماية حقوقه المادية والمعنوية من خلال ورثته ، وتنظيم تظاهرة كبرى لإحياء ذكراه والإحتفاء به ، وهو أمر معمول به في كل الدول التي تحترم رموزها الفنية والثقافية ، وتقدّر عطاءات أبنائها وتنظر الى مبدعيها الراحلين كعناوين للحياة الممتدة التي تستمر ألقا وعبقا وعنفوانا وصوتا متوهجا بلحن الخلود.