يكفي أن يذكر أي مواطن عربي المثل الشهير "نحن لن نستسلم... ننتصر أو نموت" ليعرف سامعه مباشرة أن صاحبها أو المرتبط بها هو البطل الليبي ورمز المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الإيطالي عمر المختار. ربّما لم يقلها الرجل بنفس العبارة في الواقع، لكن الفيلم الشهير "أسد الصحراء" للمخرج العالمي مصطفى العقاد جعلها حقيقة ومسلّمة راسخة في ذهن الجيل العربي منذ ثمانينات القرن الماضي إلى اليوم.
ليست تلك المقولة لوحدها راسخة بل أحداث كثيرة في الفيلم صوّرت الشخصية الليبية (وربما حتى العربيّة) المقاومة الرافضة لكل أشكال الاستعمار، جعلت من عمر المختار أيقونة للمقاومة الليبية جمعت رمزيتها كل الليبيين مهما كثرت خلافاتهم، حيث مازالوا إلى اليوم ورغم سنوات الحرب الأخيرة التي فرّقتهم مجمعين على تلك الشخصيّة ومنبهرين بالفيلم الذي أنجز حولها، باعتبارها تعيد لهم جزءا نيرا من ماضيهم الذي مازالت فيه الكثير من الرمزيات التي تنظر من يبحث فيها ويقدّمها للنّاس.
مرويّات كثيرة رويت على المقاوم الليبي عمر المختار. ككل الشخصيات الكبرى في التّاريخ، حظي البطل الليبي باهتمام خاص لدى المؤرّخين. بالتأكيد أنه ليس الوحيد الذي انتهج خيار المقاومة ضد الاستعمار الإيطالي في ليبيا، لكن شجاعة الرجل وربّما حتى الحظ جعلاه على رأس جيل "الجهاد" الليبي، وجعلا أكبر منتجي السينما في العالم يوافقون على تصوير فيلم باسمه، وهو صاحب حظ في ذلك لأن شخصيات ليبيّة كثيرة لم يسعفها التاريخ لكنها كانت صاحبة دور في مواجهة الاستعمار واستشهدت دفاعا عن شرف الليبيين وأرضهم.
يروي فيلم عمر المختار أو أسد الصحراء وهي التسمية الأصلية له، حياة الرجل في المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الإيطالي تحديدا جيوش موسيليني في نهاية الثلث الأول من القرن العشرين. الفيلم كان من إخراج المخرج العالمي "مصطفي العقّاد" ومن بطولة الممثل الأمريكي "أنطوني كوين" الذي استطاع أن يصوّر لليبيين شخصيّة بطلهم وكأنه جزء منها. الرجل وكأنه تمثل بطله إلى درجة الانصهار.
فكرة الفيلم كانت من العقيد الليبي معمّر القذّافي. الزعيم الليبي الشاب في ذلك الوقت والمنبهر بمقولات الثورة والمقاوم للتوجهات الاستعمارية، أراد أن يذكّر الإيطاليين بجرائمهم ولكن بالطريقة التي يفهمها العالم وهي الثقافة والسينما، إلى درجة أن الإيطاليين احتجوا عن تصويره ومنعوا عرضه إلى العام 2009 لما اعتبروه تشويها للجيش الإيطالي، إلى أن تم رفع الحضر بعد المفاهمات التي تمت بين برلسكوني والقذافي خلال زيارة تاريخية للأخير إلى روما، والتي قد يكون من بينها منع ذلك الحضر ليكتشف الجمهور الإيطالي جزءا من تاريخ استعمارهم لليبيا وإيجاد مبرر للاعتذار.
بدأ تصوير الفيلم العام 1979، في مدن مختلفة شرق ليبيا وهي الفضاء الفعلي الذي حارب فيه المجاهد الليبي الاستعمار الإيطالي، وتم البحث فيه عن الخصائص التي يمكن أن تتوفر في أي بطل وطني. ربّما تبالغ السينما أحيانا في ترميز الأبطال لكن المرويات التاريخية كانت تؤكّد أن عمر المختار كان استثناء في تاريخ المقاومة الليبيّة.
تقول مصادر كثيرة أن القذافي فكّر في البداية في إنتاج فيلم عن شخصية ليبية أخرى، لكن لتضارب الأخبار حولها جعل الخيار يكون لفائدة عمر المختار، وهناك أخبار أخرى تشير إلى أن العقيد الليبي هو الذي طلب إضافة المثل الشهير "نحن لن نستسلم ننتصر أو نموت"، كما أنه رفض الإشارة إلى فرضية الخيانة التي يكون قد تعرّض لها من رفاق السلاح، حيث اكفى الفيلم بتصوير صورة الغراب بما فيه من رمزية للإحباط وسوء الصنيع. المصادر تقول أيضا أن مشهد الطفل في نهاية الفيلم كانت بدورها فكرة من القذافي في إطار إضافة الدراما إلى الفيلم، وبالفعل كانت اللقطة استثناء وصورة راسخة بالفعل عن فكرة الصمود وحمل المشعل جيلا بعد جيل.
وإن كان الفيلم صدى قريبا من حقيقة المجاهد الليبي، من خلال بساطته وتواضعه وإيمانه بقضيّة التحرر قبل حتى ظهور المقولات المقترنة بذلك المفهوم، وبالدرجة التي لقي فيها إشعاعا واسعا لدى الليبيين والعرب، الذين استشعروا من خلالها النخوة وبقيمة من يرفع السلاح دفاعا عن وطنه، حيث يصعب أن تجد اليوم شابا عربيا لا يعرف من هو عمر المختار، وحتى لو غاب عنه الاسم يكفي تذكيره بالمقولات الشهيرة التي وردت في الفيلم ليتذكّر من هو الرجل، فإن انتقادات كثيرة أيضا لحقته سواء في مستوى التكلفة التي اعتبر كثيرون أنها كبيرة تتجاوز ما يفترض في إنتاج الفيلم، بالإضافة إلى الأخطاء المرتبطة ببعض الأحداث سواء في إغفال جزء منها. كما انتقده خبراء غربيون لأنه أورد أشياء غير واقعية أفقدت الفيلم جزءا من مصداقيته، مثل تصوير لحظة الإعدام عن طريق الضباط الإيطاليين التي يعتبرون أنها مصطنعة باعتبار أن القائم بالإعدام هم متعاونون ليبيون، بالإضافة إلى أن الآليات العسكرية التي اعتمدت في حرب الطليان لم تكن موجودة في زمن عمر المختار، وهذه الأخطاء حاول مخرجه العقاد من تحمّل المسؤولية فيها، مشيرا إلى أن الظروف فرضت ذلك.
رغم مرور 40 عاما على إنتاجه، مازال فيلم عمر المختار يعرض في المناسبات الوطنيّة الليبية. بالتأكيد أن الرجل ليس الوحيد الذي قاوم الاستعمار الإيطالي، لكن المهم في كل ذلك أن الفيلم سلّط الضوء على حركة المقاومة الليبية التي كان لها الفضل في الأخير في طرد المستعمر والتأسيس لدولة جديدة في سياق عالمي منتصر لقضايا التحرر. يقول مثقفون ومهتمون بالسينما أن الفيلم يبقى من أفضل المنتجات السينمائية العربيّة، والمساهم الأكبر في إشعاعه هو مخرجه مصطفى العقاد الذي استطاع أن يجد ممثلا عالميا مستوعبا للثقافة العربيّة وقادرا على تمثل الشخصيّة رغم أنه نشأ في بيئة غير عربية مختلفة اختلافا كبيرا عن واقعها.