الكل في ليبيا يبحث اليوم عن لحظة التوازن، يتقدم إلى مشارفها ثم ما يلبث أن ينكفئ عنها، وما بينه وبين هذه اللحظة تنشأ حالة كر وفر، ولم يفقد الشعب الليبي ذاكرته ولم يقع في مطب الانحراف بعيد المدى عن اللحظة الحاسمة، الآن الشعب الليبي في جوف معركة أخرى إطارها العام لحظة انعدام الوزن وما بين المعركتين، أعني معركة التوازن ومعركة انعدام الوزن، زمان وظروف وأحوال وتقلبات، والليبيون جميعاً في المركب المتداعي، وكل منهم يحتجز خشبة يزينها ويرممها بطريقته الخاصة دون أن يتنبه إلى أن المركب كله في حالة الاهتراء، وقد وصل إلى مشارف الغرق براكبيه وحمولته، وما أحوج الليبيين إلى الذاكرة الحية في هذه الأيام، ليس بدوافع الارتداد إلى الإرث والموروث ولكن بمهام سيكولوجية لعله يجد في علم النفس ما يفسر التاريخ والواقع بعد أن كان التاريخ هو الذي يفسر الذين كانوا، وهو الذي يفسر الذين مازالوا على قيد الحياة... 

وإني لأعجب في هذا الظرف الليبي المتقلب، كيف لا يدخل عليه ويتداخل معه علم النفس وعلم المجتمع وعلم السياسة وعلم العقل وعلم المصلحة، وما دمنا نتحدث عن ملامح أمة ليبية ومازال الشعب الليبي الأبي والحر، يحتفظ بذلك الطموح الحزين والمحبط نحو انتمائه لأمة دون أن يعمل شيئاً أو أن ينجز خطوة تنقل فيها هذا الانتماء من الانطباع إلى الشعور بالمسؤولية وإلى الاقتراب من الواقع، مادام كذلك فكيف يحق له أن يعيش حالة انعدام الوزن، وقد صار في حواشيها ويحوم حولها مثلما هي تحوم حوله؟‏ والحكمة العربية القديمة تقول: من حام حول الحمى كاد أن يقع فيه.‏ 

كل ليبي شريف وحر، يتملكه هذا الشعور وتخرج منه أسئلة مكبوتة: ما الذي يحدث في ليبيا؟ وماذا بعد؟ ولكن هذا الليبي في لحظة السؤال يتخلى عن الجواب، ينكفئ ويتقوقع على ذاته ثم يذهب في ممارسة عادته اليومية، يقضي بعض وقته في المقهى المتخم بالأرواح التائهة وضجيج الأحاديث ودخان السجائر والأركيلة ويقضي أغلب وقته في الهذيان التقليدي متسمّراً أمام جهاز التلفزيون، يتابع الأحداث ينتقل من فضائية لأخرى وكأنه يدور على ذاته وحينما يصيبه الملل يستقر على برنامج خليع ثم يستسلم للنوم الإلزامي وهو مازال صاحياً، هدّه التعب في ذاته وهدّه الواقع الليبي المتصارع حوله، بما فيه ومن فيه وداهمته فوضى الأفكار والخيارات، وهو يتكرر يومياً وهو يكرر طقوسه البائسة الموزعة ما بين الإحباط والإحباط، ويقولون في علم الإنسان إن هذه الحالة ليست سواءً كلها لها حسنة إيجابية من مصدر واحد بتشعبين، تشعب موضوعي يدل على درجة إحساس الليبي بالمأساة، ونسبة الصدق فيما يشعر، وليس فيما يقول أو يكتب أو يتشدق به في المقاهي وفي الخلوات الصامتة والباردة، والإحساس هذا خير ولكن المهم ألاّ يطرده هذا الإحساس من المركز إلى الأطراف ومن السؤال إلى حيث لا سؤال ولا جواب.‏ 

والتشعب الثاني في المصدر الموحد هو أن هذا الحال هو مقدمة صغرى أو كبرى لا فرق، راهنة أو متوقعة لا فرق، المهم هو أن هناك مقدمة لتحول مازال جنيني الأبعاد ضبابي الموضوعات لكنه بالتأكيد يتخلق وهو قادم على إيقاع أنين المهجّرين وجوع الفقراء وكرامة الليبيين المؤمنين بالحياة، الذين ما عادوا يملكون شيئاً سوى أن يتشبثوا بآخر أسماء هذه الكرامة ولا يلوم أحد أحداً، إذ حينما تتحول السياسة إلى خيارات معلبة تمتطي إرادة المواطن الليبي بموافقته أو مع عدم الموافقة، في هذا الوضع تتشكل عادة أخصب اللحظات، صحيح أنها مؤلمة ومحاصرة لكن أحداً لا يقوى ولن يقوى على تدمير تلك اللحظة الخصبة والتي أخذت مساحتها في العقول الليبية المشعة والقلوب السليمة وفي الجوارح التي ما تدنست وما امتدت إلى حرام ولا مارست زنا الاستغلال ولا عرفت خطوة واحدة نحو نهب المال العام وقتل الوطن الذي استعصى قتله على مئات الغزوات الهمجية الخارجية... قاتلهم الآباء والأجداد في كل المساحة الليبية ونازلهم عبر حروب منظمة، جيل بعضه قضى نحبه وبعضه ينتظر وجميع هذا الجيل لم يبدل تبديلاً.‏ أليس من حق كل ليبي شريف وسوي أن يتفاعل مع ما يجري وأن يعرف الأسباب العامة على الأقل وأن تكون له الصلاحية في تصور التحولات والاستحقاقات القادمة على قاعدة الزمن وثوابت التاريخ.‏ 

إن مجمل المناهج السياسية تقوم على قتل المسافة والروابط ما بين المقدمات، والنتائج والمنهجية العالية والمنتجة معروفة لدي الليبيين في بلد عمر المختار، ليس على لسان الأديب أو المفكر أو الإعلامي أو المسؤول الحزبي من أي حزب كان، ولكن بمنطق قواعد البناء والتطوير والتحديث... إن كل مقدمة لابد أن تنتج آثارها عبر نتيجة وكل نتيجة لابد أن تستمد وجودها الحيوي من مقدمات سابقة، هذا ملمح منهجي يجب على المرشحين للانتخابات الرئاسية القادمة، أن يضعوه في برامجهم وأهدافهم الانتخابية. هذا أوان الشد فاشتدي أيتها الزيم وتحركي أيتها الذمم، فإن الاستحقاق الرئاسي ينبئ بالعاصفة، ومن الجنون السياسي والاجتماعي أن يتحول الشعب الليبي إلى مجرد كميات من الأجساد تمارس هواية السباحة والتعري على الشواطئ اللازوردية في زمن العاصفة المعتم والمظلم.‏ إن المسألة فيها نظر ولابد أن يأخذ هذا النظر مسربين يمضي بهما، مسرب يلح على حالة الديالوج الداخلي كدليل على أن الإنسان الليبي مازال على قيد الحياة يشعر، يتألم ولا يتحول إلى مجرد مستمع أو متفرج أو متلذذ بشريط الأحداث إلى أن يصل إلى حالة الاعتناق للمأساة ويتحول إلى مدمن خطير للتناقض مع ذاته والانفصال على واقعه بطريقة الاكتفاء بالفرجة وإطلاق الآهات الحزينة تارة والمتشفية تارة أخرى، ومسرب ثان يأخذه بهلوسة الحلم إلى آفاق مجهولة لا يستفيق من الحذر فيها إلا عبر نداء الرغيف وصرخة طفل عاد للتو من مدرسته متفوقاً في دراسته ولا يجد من يعترف له بذلك.‏

 إن الواقع الليبي الآن وفي ظل الاستحقاق الرئاسي القادم، يشكل منطقة جذب إلزامية للتفاعل وللأسئلة وللارتداد من حالة الهذيان إلى حيث موقع المواطن الليبي بصيغته وحدوده الأولى، هذا هو واقعه ولا مجال للتهرب منه، فلتكن الأسئلة كلها مسكوبة في سؤالين اثنين يقول الأول: لماذا حدث ويحدث كل هذا في ليبيا...؟ ويقول الثاني: ما الذي سوف يأتي بعد ذلك وعلى أي منطلقات وصيغ سوف يرسو المزاد الانتخابي الرئاسي؟ إنني أعتقد جازماً بأن الشعب في ليبيا يمتلك بحكم مواصفاته الراهنة القدرة الحية على أن يمارس مهاماً هي بمستوى المأساة الليبية الراهنة ولديه من مصادر الثقة ومن وقائع المشروعية ما يؤهله لذلك إذا أحسن التدقيق وصفّى النية.‏ 

كاتب صحافي من المغرب.