صادق رجب النيهوم من الأدباء الليبيين البارزين الذين تركوا بصمة واضحة على كل المنجز الثقافي الليبي منذ ستينيات القرن الماضي و حتى الآن ،هو من الكتاب الذين جمعوا بين التراث والحداثة وخاض بنجاح استثنائي في كل مجالات الثقافة.
قيمة النيهوم لدى الأدباء العرب قيمة كبيرة ويعتبر من القامات الفكرية التي فقدها الوطن العربي في أوج عطاءها فكتب القصة القصيرة والدراسة النقدية والمقالة الأدبية والمقالة الفكرية وحرر الكتب التاريخية والموسوعات الشاملة لكل العلوم ،و لم يرحل عن عالمنا هذا إلا بعد أن ترك للمكتبة العربية والعالمية مكتبة كبيرة على هيأة مجموعة لا بأس بها من الكتب في مختلف المجالات ،في صدارتها ثلاث روايات “من هنا إلى مكة”، “القرود” و”الحيوانات”.
وقد اتخذ النيهوم منذ رواية «من مكة إلى هنا» مسارا نوعيا آخر في تجربته الإبداعية، حيث اتجه إلى الكتابة السردية التي كان فيما قبل يستخدمها ضمن سياق كتاباته المتنوعة ،بهذه الرواية سيبدأ مسارا كان قد وكده في قصص للأطفال ، وكما يبدو فإن الكتابين يمثلان مرحلة جديدة في مساره الإبداعي ، خاصة في ’الحيوانات’ فالرواية تستمد روحها من رواية ’1984’ و’ القرود’ التي يمكن اعتبارها الجزء الثاني للحيوانات.
** من مكّة إلى هنا.. ثنائية اللون و الدين
نصف قرن مضى على صدور رواية "من مكة إلى هنا" 1970م ،للكاتب الليبي المرحوم الصادق النيهوم ،محاولا فهم رؤية الإنسان الليبي البسيط للإسلام و رصد التشوهات التي لحقته في رحلته الطويلة من مكة ،و رصد تشكيل الشخصية التراثية إلى شخصية معاصرة من حيث رؤيتها النقدية العنيفة للواقع السياسي الليبي المعاصر.
في شرق ليبيا -حيث تدور أحداث الرواية- تمثل قرية سوسة رقعة التفاعل الحضاري الحي لحضارات المتوسط في ليبيا؛ فسكانها مهاجرون من جزيرة "كريت" اليونانية، وبطل الرواية "مسعود الطبال" ليبي زنجي تعود أصوله لإفريقيا وكذلك زوجته.
وهو يذكّرنا، بعناده وشيخوخته ووحدته، بشخصيّة الشّيخ الصيّاد سنتياغو في رواية همنغواي الشّهيرة “الشّيخ و البحر”، وقد جُرّد من كلّ الصفات الّتي تجعله في مرتبة الأبطال.
أحداث الرّواية قليلة لأنّ معظمها يدور في سريرة مسعود وباطنه أكثر ممّا تجري في أرض الواقع، فهو في صراع محتدم مع فقيه القرية، القابض على سلطة الدين، بدلالتها الكهنوتية القمعية، وذلك لأنه، أي مسعود الطبال، يصطاد السلاحف، التي يعتبرها الفقيه، ممثل القوى الرجعية المتخلفة، مباركة ويحرّم اصطيادها، ومن يفعل ذلك فإنه يتحدى الله والأرواح، متغافلا عمدا قول الله “أُحل لكم صيد البحر وطعامه”.
وعندما يغرق الصبي الذي يعمل مع مسعود، يفسر الفقيه الحادثة بأنها رسالة من الله، في حين أن مسعودا لا يبتغي اصطياد السلاحف فقط، بل يريد زيادة عدد ما يصطاد لأن ثمة إقبالا على تناولها في مطاعم الإيطاليين، من خلال تزويد قاربه المهترئ بمحرك (موتور)، ينوي شراءه من أحد الإيطاليين، ليتمكن من التوغل إلى عمق البحر ومصارعة جنونه.
والإسلام هنا في "سوسة" ليس إسلام مكة في القرن الأول للهجرة، بل هو خليط من الإسلام وموروث ذلك المكان الليبي المختلف. وعلى الرغم من هذا الاختلاف الظاهر، يعيد النيهوم سيرة "الحركة السنوسية" التي نشأت على الأصول والأسباب نفسها، والتي حاولت أيضًا أن تقدم مشروع إصلاح ونهضة دينية و اجتماعية ،غير أنها أضرت بالمشروع الوهابي في المشرق.
ويستثمر النيهوم ذلك ليجعل شخصية مسعود الطبال متمردا وجوديا يصوغ نفسه عبر أسلوب المناجاة في نسيج الرواية، ويعيش مع أفكاره أكثر مما يعيش مع عالم الصيد، لكنه في نسيج الفضاء السردي (قرية الصيادين) كائن لا منتمي هامشي، وكأنه إحدى شخصيات كولن ويلسون.
"من مكة إلى هنا" موضوعية فكرية وتاريخية حكمت التفكير والاجتماع والسياسة في ليبيا والوطن العربي منذ الفتنة الكبرى وحتى الآن، وظل يعاد طرحها دائمًا "من هنا إلى مكة". إنها حج الفكر الإسلامي وحنينه "النوستالجي" الدائم. أول قل "سلفية الحداثة" العربية، وإن تنوعت واختلفت مظاهرها وطقوسها.
**القرود.. سرد يرمز إلى التنافس بين البشر
حاول النيهوم في رواية «القرود» إسقاط الكثير من الملامح، ومنها عن بعض الزعامات الكرتونية، والتي أغرق في وصفها، مما تسبب بمنعها في ليبيا، خشية تأويلها تأويلاً خاطئاً ،حرص على منح تجربته الروائية نوعا من التفرد، وذلك عبر توسيع دائرة توظيف الموروث القصصي الحيواني.
وعلى شاكلة النص التراثي القديم، جنحت رواية «القرود» (1975) إلى تشييد عوالمها الحكائية ضمن رؤية فنية ترنو إلى التوفيق بين عناصر سردية تسترفد مقوماتها من الموروث الحكائي العربي القديم، وعناصر سردية أخرى تستمد مكوناتها من السرد الغربي الحديث.
و تدور رواية القرود حول التنافس بين البشر (قطيع القرود) على نحو عام ،على السلطة والسلاح والقوة والثروة والإناث ،وتكون الغلبة لمن يملك القوة العضلية والمهارة القتالية اليدوية إلى أن يكتشف أحدهم، عن طريق الصدفة، صناعة سلاح عجيب يقلب ميزان القوى، وهو عبارة عن عصا في رأسها عقرب سامة مثبتة بخيط، عندئذ تميل الكفة في الصراع بين زعماء القرود على القيادة والإناث لصالح من يمتلك هذا السلاح الفتاك المخيف!
لكن هؤلاء الزعماء يتعلمون بدورهم صناعة هذا السلاح، ومن ثم يمتلكون قوة ضافية في مواجهة خصومهم، ويحصل نوع من توازن القوى الرادع بين الذكور الأقوياء في مجتمع القرود إلى أن يحدث ما لم يكن في الحسبان حيث يتعلم كل من هبّ ودبّ من القرود صناعة هذا السلاح، فتصبح جميع القرود مسلحة، ويفقد الذكور الأقوياء والزعماء، عندئذ، مصدر قوتهم وهيبتهم، فيدب الاضطراب في مجتمع القردة، وتتلاشى السلطة وتسود الفوضى.
وبصرف النظر عن الإشكالات المعجمية و الإصطلاحية التي صاحبت «الحكاية الخرافية»، فقد احتل هذا الشكل الحكائي التراثي حجر الزاوية في أعمال الصادق النيهوم، سواء أكانت قصصية أم روائية. فمنذ مجموعته الأولى «من قصص الأطفال»، ومرورا برواية «القرود» التي قدم فيها الروائي صورة ناقدة/هازئة عن الأنظمة العربية في علاقتها بإسرائيل، وانتهاء برواية «الحيوانات»؛ كشف الصادق النيهوم عن اهتمام كبير بالتراث عموما، وبالحكاية الخرافية خصوصا
لقد حاول هذا الروائي، وخاصة في روايتيه «القرود» و«الحيوانات»، أن يعرض لعلاقة المثقف الليبي بالسلطة، وهي علاقة تضرب بجذورها في عمق التاريخ العربي. وفي هذا الإطار شكلت الخرافة مجالا فنيا أرحب اتخذه الروائي المغاربي، وقبله راوي الشعب، أداة ليس لتمرير رسالته السياسية/ المرمزة إلى أولي الأمر فحسب، وإنما اعتمده علاوة على ذلك، وسيلة لتحقيق لون من التعالق الفني بين الشكل الروائي والموروث السردي العربي.
** الحيوانات.. من الشخصية التراثية إلى الشخصية المعاصرة
عبر المراوحة بين استلهام التراث والإفادة من منجزات السرد الحديث، استطاع النيهوم أن يجعل من نصه الروائي فضاء سرديا تحاورت فيه تشكيلات سردية تنتمي إلى قيم فنية متباعدة، بل وحتى متنافرة، ليس من حيث زمنيتها فحسب، وإنما من حيث السياق الثقافي.
و قد ركن الصادق النيهوم في رواية الحيوان 1975م ،إلى استراتيجية فنية راهنت على المزاوجة بين مرجعيتين سرديتين أساسيتين هما: مرجعية تراثية وأخرى غربية. فبينما تستند المرجعية الأولى إلى المقومات الفنية للسرد العربي القديم مجسدا في حكاية الحيوان أساسا، نجد المرجعية الثانية تستمد روحها من المنجزات السردية كما تمثلها الرواية الغربية.
وانطلاقا من هذه المزاوجة الفنية بين هذين العالمين السرديين، تنهض رواية «الحيوانات» مشكلة نسيجا سرديا معقدا يقوم على جملة من العوالم الحكائية التي يمكن تحديدها بأربع حكايات هي: الحكاية الإطارية (حكاية الصقر والذئب)، حكاية الأسد والذئب، وحكاية الفيل، وحكاية السنجاب والصقر، وهي تنتظم ضمن نوع من التوالد السردي الذي يقوم على بنية سردية كبرى ،وبنيات سردية صغرى ،الأمر الذي أدى إلى تنوع الفضاءات، وتعدد الشخصيات، وتناسل الأحداث في شكل تداعيات جمعت بين الحقيقة والخيال، والواقع والرمز، والتجسيد والتجريد الذي ينزع، في بعض الأحيان، إلى توظيف العجائبي، وذلك على النحو الذي تمثله حكاية اختفاء الفيل.
و قد تحركت الشخصيات الحيوانية في عدة فضاءات أساسية أبرزها الغابة. والغابة المستحضرة في السياق الروائي تختلف عن تلك الموظفة في الحكاية الخرافية أوالمثلية، فهي لم تعد ذلك الحيز الجغرافي الذي تتعايش فيه الحيوانات أوتتصارع على نحوما نجد في حكايات «كليلة ودمنة»، وإنما غدت فضاء اتسم فنيا بجملة من الخصائص والأبعاد.
وقد عكست رواية «الحيوانات» هذه الحاجة الفنية الملحة إلى تجديد المعرفة بالتراث، وتحصين الوعي بالواقع والتاريخ، وذلك عبر التسلح بعقلية نقدية/ ساخرة/ قلقة / جريئة لا تتحرج في إخضاع كل المنجزات، بما في ذلك المنجز التراثي الديني، إلى سؤال العقل والنقد.
كما حملت رواية "الحيوانات" ازدواجية واضحة قائمة بالأساس على ظرفية المكان و الزمان ،بين مكان تراثي له علاقة بالشكل الحكائي المستلهم، ومكان آخر روائي له ارتباط بالواقع السياسي في ليبيا في العقدين السبعيني والثمانيني من القرن العشرين.
متأثرا بالمناخ التجديدي التأصيلي الذي بشرت به حركة التجريب ،الملحة في خلق رواية مغاربية تتسم بالخصوصية والنضج، ليس على المستوى الدلالي فحسب، وإنما على مستوى المبنى الحكائي كذلك ،خرج الصادق النيهوم عوالمه التخليلية على حكاية الحيوان لما تحمله من رصيد رمزي كثيف ،بمنح التجربة الروائية زخما فنيا وتعبيريا.