يعيش المواطن الليبي على وقع أزمات اقتصادية متواصلة، فمع أزمة الكهرباء وطرح الأحمال، وأزمة الدقيق والرغيف والمخابز، ومع أزمة السيولة وطوابير المصارف وأسعار العملة، ومع مشكلة الأمن المتواصلة منذ أكثر من سبع سنوات، ومع مشاكل التعليم والانقسام السياسي، تظهر مشكلة القطاع الصحّي في ليبيا الأكثر خطورة والأكثر تدليلا على السقف العالي (جدا) الذي وصلته الأزمة الليبية.


** العوامل كثيرة ..والنتيجة واحدة:

لا تبدو مشكلة القطاع الصحي في ليبيا، مفصولة عن باقي أزمات البلاد (السياسية والاقتصاديّة والأمنية)، فلا يمكن تشييد قطاع خدمات جيد في بلد يعاني التمزّق السياسي وغياب الأمن وانهيارا اقتصاديا شبه كامل، غير أن قطاع الصحّة بالذات يبدو مؤشرا مهما على الخطر، فحين يصل انعكاس الأزمة إلى قطاع حيوي كصحة المواطنين والخدمات الطبية والأدوية، تكون الأزمة قد بلغت حدًا خطيرا ونقطة تبدو كأنها الأخيرة قبل الانهيار الكامل.

الانقسام السياسي، وانقسام وزارة الصحة إلى وزارتين يحوّل مسألة وضع استراتيجيات صحية قصيرة أو طويلة المدى مسألة عبثية، فهذا الانقسام لا يمكن أن يقدّم أي تطوّر شامل للقطاع في البلاد، بل هو واحد من أهم الأسباب التي تدفع نحو مزيد من التعفّن.

كما يؤثر الانقسام أيضًا على الرقابة الصحيّة والأدوية، غياب الدّولة المركزيّة بمؤسساتها الموحدّة والفاعلة، ينعكس سلبا على القطاع بشكل كامل، وعلى حركة توريد الأدوية والتهريب، غياب الرقابة الحقيقية على المعابر والموانئ الجوية والبحريّة يضعف كثيرا من قدرة الأجهزة الرقابية ودورها الوقائي.

الأزمة الاقتصادية التي تغرق فيها البلاد، الناتجة بدورها في جانب منها عن هذا الانقسام السياسي إياه، تؤثر بشكل مباشر وكبير أيضًا على القطاع الصحّي، وعلى البنية التحتية للمؤسسات الاستشفائية في البلاد وعلى توفير المواد الضرورية من أدوية وآلات طبية، كما تؤثر كذلك على الأطقم الطبية في ظل غياب السيولة وتأخّر الأجور (وضعفها)، كما تنعكس على العمالة الأجنبية في القطاع، من أطباء واطارات شبه طبيّة، التي بالإضافة لأسباب أخرى (أمنية في غالبها) تأثّر وجودها كثيرا بهذا العامل الاقتصادية.

المعطى الأخير مهم جدا في مطحنة الأزمة الصحيّة في ليبيا، حيث كانت البلاد تعتمد في نسبة كبيره على العمالة الطبية الأجنبية، لكن كثير من العوامل دفعت الى عزوف كبير للأجانب عن العمل في ليبيا، ما انعكس بشكل سلبي كبير على القطاع في رمّته من ناحية الجودة ومن ناحية الإمكانيات البشرية.

غير أنّ المشكل الذي يمكن إعتباره الأكثر أهميّة وتأثيرًا هو غياب الأمن في البلاد، والحماية اللازم للمؤسسات الصحيّة والطواقم الطبية في البلاد بسبب انتشار الميلشيات التي تبدو كـ"الفيروس" في الجسد الليبي المنهك والمثخن بالجراح، وغياب الأمن والحماية اللازمة للمستشفيات والمراكز الطبية والعاملين فيها.


** "فيروس" المليشيات ..يعفّن الجراح:


تبدو ليبيا كوطن جريح، الآلاف من سكانه مهجرّون أو نازحون في الداخل، والآلاف تأكلهم الحروب الأهلية والصراعات السياسيّة، بنوك خاوية من السيولة، وطوابير طويلة أمام المصارف والمخابز، وأفق سياسي مضبّب وغامض، والكل قابض على الزناد في وجه الكل.

ووسط هذه الجروح، تبدو المليشيات المسلّحة، التي استثرت من الحروب والخراب والفوضى وغياب الدّولة، كالفيروس الذي يدفع دوما نحو الأسوأ في هذا البلد العليل، خطف واغتيالات ومعارك وقتل بلا محاكمات وسجون ومعتقلات وايتاوات تفرضها خارج سلطة الدّولة.

المليشيات، تلك الأجسام الطفيلية التي تظهر في أعقاب الحروب الأهلية، والمستفيدة من إدامة الأزمة، إنها مصدر ثرائها ووجاهتها السياسية، فرأسمالها الرّمزي الأساسي هو الفوضى وغياب الأمن.

تؤثّر هذه المليشيات على كل القطاعات في البلاد، حضورها الطاغي والمؤثر في كل نواحي الحياة والتسويات السياسية، وحضورها الكثيف في كل مدن البلاد، وجشعها الدّائم لمزيد من النفوذ والمال، يصيب قطاع الصحّة بشكل مباشر وفي المقتل.

عديدة هي حوادث الخطف والاغتيال التي طالت الأطقم الطبية في المؤسسات الاستشفائية، ما دفع في الغالبية العظمى من الكوادر الطبية الأجنبية الى ترك البلاد، خاصة في الجنوب والغرب، وهي الحوادث التي ترد عليها الهيئات الصحية باضرابات عن العمل ومطالبات مستمرة بتوفير الأمن والحماية وتوفير المسلتزمات والأدوية والاهتمام بالبنية التحتية وأحوال العاملين في القطاع.

لا تتوانى المليشيات كذلك عن استهداف المستشفيات، وعن اقتحامها وتصفية المرضى والجرحى، وهو وضع ( في كُلّيته) لا يساعد أبدا عن اصلاح المنظومة الصحيّة ولا توفير الحد الأدنى من الخدمات المطلوبة.

إذن، هكذا تبدو المليشيات في ليبيا كالفيروس الذي يدمّر كل شيء، مستفيدة من حالة عدم الاستقرار السياسي وغياب سلطة فعلية للدولة وتوحيد شامل لمؤسساتها المصرفية والأمنية والعسكرية، وربّما تغذّيها باعتبارها رأسمالا رمزيا حيويا لتواصل وجودها، ويبدو تأثيرها أكثر تعفينا للوضع حين يمس أهم قطاع حيوي في البلاد، وهو قطاع الصحة.