كل المتابعين للشأن الليبي بعد تحولات "فبراير" يدرك جيدا أن ما بعد العام 2015، ليس كما قبله. تطورات العملية السياسية عرفت مسارا آخر وتغيّرت بعدها مواقف كثيرة أخذا في الاعتبار الواقع الليبي بكل تعقيداته. خلال العام 2015، تأكد الجميع في ليبيا، إلا من استثنى نفسه، أن المحاكمات العبثية ومحاولة الاجتثاث التي حاولت بعض الأطراف ممارستها تجاه مكونات نظام العقيد معمّر القذافي بتهم "قمع المظاهرات" إبان أحداث 2011، ما هي إلا عملية جلب للفوضى وممارسات انتقامية تزيد في الأحقاد وتأزيم الأمور ليست أكثر.
في العام 2015 (يوليو) أقر مجلس النواب الليبي بغالبية الحضور، قانونا للعفو العام في ليبيا، يتم بموجبه التجاوز عن القضايا المرتبطة من تاريخ فبراير 2011 إلى تاريخ تفعيل القانون. القانون تزامن في ذلك الوقت مع أحكام صدرت من محاكم في طرابلس في حق رموز سياسية وأمنية من حقبة نظام القذافي، وخلفت في تلك الفترة ردود فعل عنيفة من عديد الهيئات الحقوقية داخل ليبيا وخارجها، معتبرة إياها مسرحيات انتقامية تمت تحت تهديد السلاح من طرف المجموعات المتطرفة. كما كان إطارا قانونيا أيضا للإفراج عن سيف الإسلام القذافي وما خلفه الحدث من جدل بين مؤيدي الخطوة ورافضيها.
وفي الوقت الذي كان جزء من الليبيين يسعى إلى فتح صفحة جديدة من تاريخ ليبيا تحت شعار مصالحة شاملة لا يظلم فيها أحد وتعطي الحق لجميع الليبيين المؤمنين بالحرية في العيش بسلام، وفي عودة كل من هجّر ظلما من بلاده لموقف سياسي تبناه أو لموقع شغله، كان هناك جزء آخر من جماعات الإسلام السياسي ممن أخذ منه الغرور مأخذه، يرفع رؤوس البنادق في شوارع العاصمة طربا بالمحاكمات التي وقعت، معتقدا أن التاريخ منحه فرصة تاريخية للانقضاض على الدولة حتى على حساب رقاب الناس.
السياق العام لقانون العفو
لا يمكن الحديث عن قانون العفو العام في ليبيا، دون العودة إلى تطورات وقعت قبله، لعل أهمها انتخاب مجلس النواب العام 2014، كسلطة تشريعية قوية تكبح جماح الانفلاتات الواقعة غرب البلاد من طرف مجموعات السلاح. صحيح أن المجلس لم يسلم من حالة الانقسام وبقي يمارس مهامه من طبرق بعيدا عن مركز السلطة التقليدي، لكنه نجح في فرض جملة من التشريعات التي كان ضرورية في ظرفية تاريخية حساسة تعيشها البلاد.
إذن مجلس النواب هو الذي أصدر مقترح قانون العفو وهو الذي صوت عليه في 2015، في جرأة رأى البعض أنها مجازفة في تلك الفترة التي مازال الانقسام السياسي سائدا ومازالت بعض المناطق مسكونة بحماسة "الثورة" حتى في شرق البلاد التي تعتبر أقل حدّة في علاقة ببعض القضايا الخاصة بعناصر من نظام القذافي. والمتابع للأحداث بعد ذلك يدرك جيدا أن ما قام به المجلس كان خطوة في الاتجاه الصحيح قطعت الطريق على ثارات كانت ستقع وتبقي جراحا مغروسة لعشرات السنين.
القانون ورغم أنه صاغ نصوصه بشكل قانوني صرف من خلال تفصيله في عدة مواد تختص في أغلب الجرائم، إلا أنه لا يخلو من جانب سياسي وهو ما تجلّى بعد إصداره، الأمر الذي خلّف ردود فعل متباينة، خاصة من طرف القوى المتنفذة غرب البلاد التي رأت فيها نزعا من سلطتها المعنوية وطريقة للإفراج عن عناصر من النظام السابق.
أهم ردود الأفعال حول قانون العفو العام
بعد إصدار قانون العفو العام في ليبيا، تباينت ردود الأفعال المحلية والدولية بين من اعتبره نقلة نوعية في المرحلة الانتقالية من شأنها أن تفتح صفحة جديدة للجميع الحق فيها دون تمييز وفق أي عنوان كان، وبين من رفضه مأخوذا بحماسة "الثورة" التي تثبت على الأقل في ليبيا أنها مجرّد حرب إقليمية ودولية خيضت على أراضيها في إطار حسابات معقدة وخطيرة.
الأصوات المؤيدة لقانون العفو لم تتأخر كثيرا لتوضيح موقفها، أولاها ما أصدره المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية الذي دعا خلال اجتماع له في تونس في ديسمبر 2015 إلى تطبيق القرار باعتباره خطوة نحو مصالحة وطنية حقيقية. وطالب المجلس الأمم المتحدة والجمعيات المحلية إلى الضغط نحو تفعيله وإطلاق سراح المساجين السياسيين وخاصة النساء منهم، مضيفا أن تواصل سجنهم غير قانوني.
ومن بين الأصوات الأخرى ما قاله المستشار السياسي لرئيس مجلس النواب الليبي عبد الله عتامنة في تصريحات لوكالة سبوتنيك الروسيّة في يوليو 2017، الذي أشار إلى أن القانون يعتبر ضرورة لأن من دونه البلاد لن تتقدّم نحو الاستقرار، قائلا "إنه لابد من وضع السيناريو الآخر بعدم وجود عفو عام والسجون مملؤة وكذلك المهجرين ماهي الحالة التي ستنتج عن ذلك؟"، مضيفا أنه "لابد أن نأتي للطريق الأفضل والمختصر لإحلال السلام وإلا ستكون النتائج أسوأ وسيستمر الصراع ويزيد العنف مرة ثانية".
مجلس أعيان ليبيا بدوره كان من الأصوات المطالبة بتفعيل القانون من خلال دعوته للجهات "التشريعية في البلاد بسرعة إصدار قانون العفو العام كمنهج في الطريق إلي مصالحة حقيقة مع مراعاة الحقوق الخاصة والنظر بعمق ومسؤولية للوطن ومقتضياته وإنهاء حالة الانقسام والتمزق".
موقف مجلس الأعيان في الواقع كان سابقا حتى لعملية التصويت في مجلس النواب حيث كانت دعوته تصب نحو "مشروع مصالحة وطنية حقيقي ينهي أسباب الاحتراب بين أبناء الوطن الواحد، معتبرا أن "الحروب الداخلية بلا أفق حقيقي، واستمرارها سيخرج ليبيا من حركة التاريخ، وسيجعلها في سجل الدول الفاشلة التي لم تتمكن من منع أبنائها من الاقتتال والاحتراب الداخلي".
كما كانت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان حازمة في موقفها مشيرة إلى أنها مع خطوة قانون العفو العام، عبر دعوتها إلى الإسراع في تنفيذه، من خلال "تسوية ملف السجناء والمعتقلين السياسيين في ليبيا، لتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة وتعزيز جهود الوفاق والتوافق".
ودعت اللجنة في بيان بداية العام 2017 بمناسبة اليوم الوطني للتضامن مع السجناء المعتقلين في ليبيا، إلى ضرورة "إطلاق سراح جميع السجناء والمعتقلين السياسيين والكشف عن مصير المختفيين قسريا ، معربة عن تضامنها مع السجناء في ليبيا، لأنهم يمرون بوضعية صحية ونفسية سيئة للغاية".
في جانب كان للقوى الإسلامية بكل تفريعاتها موقف آخر من قانون العفو. إسلاميو ليبيا كانوا مدركين جيدا أن القبول بمثل ذلك القانون هو خطوة أولى نحو عودتهم إلى حجمهم الطبيعي. فهم في غالبهم لا يعيشون إلا في مناخات التوتّر وعلى ذلك الأساس يرفضون أي مسار سياسي قد ينتهي بالمصالحة.
الإسلاميون في ليبيا جعلتهم انتخابات المؤتمر العام التي تفاجأوا بالهزيمة فيها، يدركون ضعف حجمهم في ظل وجود قيادات "النظام السابق" في السجن، فما بالك وتلك القيادات تخرج وتعود لممارسة العمل السياسي. بالنسبة إليه آخر سيناريو يريدون رؤيته هو أن تعود وجوه نظام القذافي إلى الواجهة السياسية للبلاد وهو المتوقع حسب تسلسل الأحداث. بالتأكيد أن كابوس سيف الإسلام يؤرّقهم لكن منزعجون من أي شخصية كان تكون ذات تأثير في البلاد.
الرفض الإسلامي لقانون العفو تترجم من خلال عجز محاكم طرابلس المسيطر عليه من طرف مجموعات تابعة للإخوان والمقاتلة، من خلال أجنحة السلاح فجر ليبيا وغيره، الإفراج عن قيادات ليبية سابقة لها ثقلها الرمزي والسياسي. هي محاكم تتحرّك في الغالب تحت قرارات السلاح وعلى ذلك عجزت عن تطبيق القانون.
قانون العفو ... الطريق نحو مصالحة شاملة
يبقى الحدث الأبرز في علاقة بقانون العفو العام في ليبيا هو الإفراج عن سيف الإسلام القذافي من سجون الزنتان. تلك الخطوة مثلت بالنسبة لأنصار الاستقرار خطوة هامة نحو ليبيا جديدة لكل الليبيين دون تمييز. القرار كان في المقابل صدمة لجماعات الإسلام السياسي التي كانت تمني النفس بأن ترى قيادات النظام السابق تحت حبل المشنقة، ومازالت إلى اليوم من خلال ممارساتها مع القيادات المسجونة عندها في طرابلس، لكن الواقع اليوم يجعلها عاجزة عن القيام بذلك لعدّة أسباب أهمها ضعف رصيدها في الشارع وعيشها تحت الضغط الذي تتغلب عليه إلا بلغة السلاح عندما تضيق أمام السبل وتزيد عزلتهم.
وفي الوقت الذي يسعى الشق الإخواني إلى السيطرة على مفاصل الدولة غربا من خلال رفض تطبيق القانون، ترى أطراف ليبية عديدة أن قانون العفو العام فرصة تاريخية أمام الليبيين نحو مصالحة حقيقية تنهي سنوات طالت من لغة الدماء والصراع، وهذا الذي تعمل عليه عدّة أطراف داخلية وخارجية، رغم أن الأخيرة قبلت المسار على مضض باعتبار أن تأثيرات الأزمة كانت عميقة حتى على الساحة الإقليمية والمتوسطية أمنيا واقتصاديا.
ليس هناك شك أن ليبيا مازلت تعيش على وقع التوترات السياسية والأمنية التي ضربتها بعد أحداث 2011. وليس هناك شك أيضا أن حل مشاكل البلاد لن يكون من خلال قانون يتم إصداره في فترة فاصلة من تاريخ البلاد، لكن ما هو مجمع عليه من قطاع واسع من الليبيين أن قانون العفو العام قد يختصر مسافة أشهر أو سنوات طويلة من الخلافات، وقد ينتهي بمصالحة حقيقية تفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد الذي يحتاج اليوم وقبل أي وقت آخر إلى أصوات وقرارات حكيمة تعيد لها أمنها واستقرارها في كل المجالات.