المأساة الروانديّة التي حصلت في تسعينات القرن الماضي وخلّفت أكثر من 800 ألف ضحيّة جرّاء تناحر طائفي وعرقي حرّكته أجندات سياسيّة متضاربة المصالح والغايات، أكسبت صورة أفريقيا قتامة يصفها البعض بـ”الدائمة”. قتامة أسبغها الاقتتال الدائر في أفريقيا الوسطى وما يحصل من انتهاكات في كلّ من نيجيريا والكاميرون وحشيّةً أخرى، عكّرت المشهد أكثر. غير أنّها لم تحل دون بروز أمثلة جيّدة عن التعايش والتسامح من هنا وهناك. وفي هذا الإطار نسوق مثال غينيا الاستوائيّة التي راهنت على الاختلاف واختارت نهج التحابب في منطقة بلغ فيها الصراع أشدّه.

الإسلام في غينيا الاستوائية ما يزال في طور الانتشار، فقبيل سنوات، كان معتنقوه أقلّ من أن يحصوا، غير أنّه شهد زيادة في أتباعه خلال السنوات الأخيرة، ليبلغ عددهم حاليا 10 آلاف مسلم، في بلد يضم 1.4 مليون نسمة، ويعتنق فيه 88 بالمئة منهم المسيحية (النسبة المتبقية تمثّل الوثنيين ممّن يؤمنون بسمات الروح والجماد). لكنّ اللافت هو أنّ المسلمين في غينيا الاستوائية لا يلقون النفور ذاته الذي تُواجه به الأقليات الطائفية في دول عديدة أخرى، وإنّما كانوا إلى وقت قريب يُمارسون طقوسهم في كنف التعايش السلمي في مسجد “كونتراتورس”، الّذي تم تدميره لحالته المتداعية، وهو يستعد لتسليم مشعل التسامح إلى المسجد المركزي، قيد الإنشاء، بحسب شهادات عدد من المسلمين.

المسجد القديم “كونتراتورس” لطالما مثّل منارة دينية في العاصمة مالالبو، فقد تم تشييده منذ ما يناهز القرن من الزمن على يد مسلمين ينتمون إلى مجموعة الـ“هاووسا” العرقية، ويُعتقد أنهم جاؤوا من نيجيريا والكاميرون. “لكن الآن لم يعد له وجود، فقد تم تدميره لحالته المتداعية وحلّ محله مسجد وقتي في حي فيستاون، في الضواحي الشمالية للعاصمة”، على حدّ قول الإمام محي الدين الذي تعود أصوله إلى مدغشقر.

وفي ذات السياق، تطرّق الإمام محي الدين إلى موقع الإسلام كديانة ثانية في البلاد، لافتا إلى الثورة البترولية التي عرفتها غينيا الاستوائية، والتي استقطبت العديد من المهاجرين من الدول الأفريقية المجاورة، والبعض منهم يعتنقون الإسلام.

بيْد أنّ ارتفاع عدد المسلمين في غينيا الاستوائية لا يروق للجميع هناك. حيث أنّ البعض لا يخفون تحفظاتهم بشأن ذلك. ويعوز الخبير في علم الاجتماع، غيلا نسورو أبيمي، ذلك إلى بعض “الأحكام المسبقة” عن هذا الدين، وهي “اعتقادات”، يساهم الحذر في الإبقاء عليها.

ومن جهته، يقول الإمام محي الدين في ما يتعلّق بهذه المسألة: “من يخشى من المسلمين ومن انتشار الإسلام في البلاد، يخشى في الحقيقة من بعض الانحرافات التي يمكن أن يقع فيها البعض. ولكن طالما أنّ في غينيا الاستوائية، قانونا يحمي حرية المعتقد والتعددية الدينية، فلن تحدث هذه الانزلاقات، فالمسلمون الذين يعيشون هنا يلقون قبولا من قبل المسيحيين عموما”.

وفي سياق آخر، تحتلّ اللغة العربية المرتبة الأولى في المسجد الذي عوض مسجد “كونتراتورس” في مالابو بشكل مؤقت، لأنّ معظم المصلّين الذين يؤدّون الصلاة فيه من أصول عربية. أمّا الفرنسية، فهي لغة التخاطب الثانية لوجود مصلين يتحدثون بها مثل المغاربة والماليين والكاميرونيين والملغاشيين، إلى جانب التشاديين والأتراك وبعض المواطنين من غينيا الاستوائية.

مسلمو غينيا الاستوائية، يقيمون بدورهم علاقة جيدة مع كلّ من النظام الحاكم وقادة الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية بالبلاد، حسب ما أفاد به ريكاردو عبدالكاظم نزي إينغونو، وهو مواطن من غينيا بيساو اعتنق الإسلام بعد أن كان يدين بالمسيحية.

هذه العلاقات الطيّبة يؤكّدها الإمام محي الدين من جانبه، حيث أشار إلى تمويل كونستانسيا مانغي أوبيانغ، عقيلة رئيس غينيا بيساو، لعمليّة بناء المسجد المركزي الجديد بمالابو الّذي ما يزال قيد الإنشاء. وسيكون أكبر مسجد في البلاد، حيث أنّه سيتمتع بطاقة استيعاب مهمة، حسب تعبيره.

وتجدر الإشارة إلى أنّ غينيا الاستوائيّة التي تحدها الكاميرون من الشمال والغابون من الشرق والجنوب ومن الغرب خليج غينيا، بقيت إلى حدّ الآن بمعزل عن الصراع الدائر في عدد من البلدان القريبة منها. على غرار الاقتتال الطائفي، الذي تحرّكه دوافع سياسيّة، الدائر في أفريقيا الوسطى منذ سنة ونيف بين جماعة “السيليكا”، وهي ائتلاف بين قوى سياسية وعسكرية مُسلمة، وجماعة “الأنتي بالاكا” المسيحيّة، والذي خلّف العديد من الضحايا وأجبر الآلاف من المسلمين على الرحيل عن ديارهم داخل أفريقيا الوسطى نحو بلدان الجوار هربا من الانتهاكات المرتكبة ضدهم.

كذلك هو حال الممارسات الوحشيّة التي تقوم بها جماعة بوكوحرام الإسلاميّة المتطرّفة في نيجيريا، والتي أفزعت العالم منذ مدّة ليست ببعيدة، عندما عمدت هذه الجماعة إلى خطف فتيات صغيرات من مدارسهنّ بقصد سبيهنّ وإرغامهنّ على الزواج، ومازال البحث عنهنّ جارياٍ إلى حدّ كتابة هذه الأسطر. هذا الخطر الذي تجاوز الحدود النيجيريّة ويحوم بظلاله على الكاميرون ليقترب أكثر فأكثر من غينيا الاستوائية التي تجمعها حدود مباشرة بهذا البلد الأخير.

حيث أنّ الكاميرون أصبح يُكثف في الآونة الأخيرة من العمليات الأمنية على أراضيه تحسبا لاعتداءات يخشى أن ينفذها مقاتلو جماعة بوكو حرام الإسلامية النيجيرية، الّذي أرسل جيشه لمواجهتها عند الحدود.

وأمام كل هذه العوامل والمخاطر المحيطة بغينيا الاستوائيّة، والتي قدّمت صورة عن أفريقيا، بعيدة كلّ البعد عن إعلاء قيم التسامح والتحابب منذ مأساة رواندا في تسعينات القرن الماضي وحتّى الآن، مازالت هذه البلاد الفتيّة تسعى إلى عزل قاعدة التناحر الشاذّة بذاتها، ساعية إلى خلق مثال يُحتذى عن التعايش في قلب الصراع الدائر في المنطقة.

 

*نقلا عن العرب اللندنية