يوم الـ25 من يوليو الماضي كانت الشوارع التونسية على موعد مع مظاهرات غاضبة. كل الظروف كانت مهيأة لذلك الغضب، لا الوضع الصحي، ولا الأوضاع الاقتصادية والسياسية، كانت تسمح بمزيد التأزيم، فكان الرأي للشارع الذي تحدى درجات الحرارة الكبيرة والوضع الصحي ليخرج شاهرا صوته وحتى عصاه في وجه السياسيين وأساسا حركة النهضة باعتبارها الحزب الوحيد المتمركز في الحكم خلال العشرية الأخيرة والمسؤولة بنسبة كبيرة إن لم تكن كاملة على الفشل الذي لحق مختلف الميادين إضافة إلى تسببها في تعميق الاحتقان الاجتماعي.
كان ذلك اليوم يقابل عيد الجمهورية في تونس، والشعارات والشارات التي رفعت في الشوارع يومها كانت في اتجاه المحافظة على الدولة وعلى قيمها الجمهورية، التي بنيت على نضالات ودماء أبناء الشعب، ولا يعقل أن تكون مهددة اليوم بتيارات جديدة لم تفرّق بعد بين الدولة في مفهومها العام وبين من حكموها وما يؤاخذون عليه في تاريخ قبضهم على السلطة. اختار إذن المتظاهرون أن يخرجوا في تلك المناسبة كنوع من الرسالة التي يريدون توجيهها لبعض الأطراف، أنهم موجودون للدفاع عن حقوقهم.
منذ ساعات الصباح الأولى خرج الألاف في الساحات وبعض المدن، معبّرين عن غضبهم الشديد. في هذه المرة تراجعت العناوين السياسية وصعدت مجموعات شبابية لا تلزمها العقلية السياسية المناوِرة ولا تُحسب على أي أحد لتقول للجميع أن خط الخطر قد تم تجاوزه ولا مجال لمزيد الصبر. في ذلك الوقت ومع اتساع رقعة الاحتجاجات وتواتر الأخبار عن استهدافات لمقرات حركة النهضة تحديدا، بدأ الحديث عن اجتماعات ساخنة في قصر قرطاج برئاسة قيس سعيّد، للنظر في تطور تلك الاحتجاجات والحلول التي يمكن الذهاب فيها لوقف توتر الشارع.
آخر تلك الاجتماعات كان بحضور رئيس الحكومة في تلك اللحظة هشام المشيشي الذي بلغت العلاقة بينه وبين الرئيس نقطة اللاعودة بسبب احتماء المشيشي بالنهضة حكوميا وبرلمانيا وعناده في مواصلة الإشراف على الحكومة رغم كل الفشل الذي سُجل لحكومته التي ستكون بكل تأكيد أبرز حكومة في مستوى الفشل السياسي والاقتصادي والصحي، بشهادة أغلب المراقبين ومن خلال الأرقام التي ترسلها الهيئات والبنوك الدولية. كان الاجتماع هو الأخير الذي ظهر فيه المشيشي في الصورة، ومنذ تلك اللحظة اختفى تماما عن الأضواء لتبدأ مرحلة جديدة في التاريخ السياسي التونسي مخلفة جدلا كبيرا.
بعد ذلك الاجتماع ظهر الرئيس التونسي بخطاب قوي، معلنا تجميدا للبرلمان وحلا للحكومة وقرارات كبيرة أخرى، تطبيقا للفصل 80 من الدستور الذي يمنح الرئيس صلاحية التصرّف الفردي في وضعيات الخطر الداهم على البلاد، معتبرا أن الظرف الصعب الذي تعيشه البلاد هو خطر داهم كان من الضروري التصرف في مواجهته، وهذا ما خلف نقاشات كبيرة بين أساتذة القانون الدستوري حول التعامل بشكل صحيح مع الفصل أو أن هناك تعسفا فرض ذلك الإجراء.
الدستور التونسي في فصله الـ80 يقول ""لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب..ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة" ويشير النص إلى أن الرئيس "يُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها. ويوجه رئيس الجمهورية بيانا في ذلك إلى الشعب".
وبالنظر إلى هذا النص وجد التونسيون أنفسهم أمام نقاشات التقيّد بالفصل، حيث يرى كثيرون أن الرئيس خرق الفصل ومنهم "شيوخ" في القانون الدستوري في تونس، ووصل بهم الأمر إلى اتهام رئيس الدولة بالانقلاب، في حين يرى آخرون أنه في غياب المحكمة الدستورية تعود لرئيس الدولة سلطة التقدير، باعتباره الضامن لسلامة الوطن وحماية الدستور.
لكن بعيدا عن التأويلات القانونية، هناك حقائق مرتبطة أساسا بما هو سياسي، في ظل رغبة حركة النهضة باعتبارها تشكل الأغلبية البرلمانية والداعمة الرئيسية لحكومة هشام المشيشي، في مواصلة تأزيم الأوضاع والرغبة في البقاء في الحكم، مما خلق حالة من الاحتقان في الشارع التونسي. فمباشرة بعد إعلان الرئيس التونسي عن القرارات، قالت النهضة إن ما حصل هو انقلاب وحاولت استنفار أنصارها وتوجه راشد الغنوشي وعدد من نواب حركته إلى البرلمان في ساعات الفجر الأولى أين وجد نفسه أمام مشهد مذل بالنسبة إليه عندما رفض الجيش التونسي دخوله كما لم ينجح في تحشيد المعارضين لقرار الرئيس الأمر الذي جعله يغادر المكان دون النجاح في أي خطوة كان ينوي القيام بها.
في جانب آخر أعلنت بعض الأحزاب تأييدها لقرارات الرئيس، محاججة بأن الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد اقتصاديا وصحيا بالإضافة إلى العجز عن إيقاف حالة الفوضى السياسية كانت تفرض إجراءات حاسمة ولم يكن هناك أي مخرج لذلك سوى تأويل دستوري من رئيس الجمهورية يعيد الوضع إلى الاستقرار النسبي، محذرة من أي تهديد للحريات أو المسار الديمقراطي اللذين اكتسبا بعد 2011.
نهاية وفي تصور لا يخلو من موقف خاص، كان لزاما أن تخرج تونس من حالة العجز السياسي، حتى لو كان عبر إجراءات يراها البعض إشكالا دستوريا، فمشهد برلماني بذلك الشكل وحكومة تشتغل بتلك الطريقة وذلك الارتهان كان طبيعيا أن تكون نهايتهما على هذه الشاكلة، بقي شيء واحد ذو أهمية كبيرة وهو الحريات التي لا يجب أن تُمس بأي شكل من الأشكال لأن بعض الخطوات الأولى على مستوى المحاسبة مبدئيا طرحت أسئلة مهمة حول أولوياتها والمستهدفين منها.