ذكرى اليحياوي.. تلميذة تونسية تدرس بقسم البكالوريا بأحد معاهد القرى النائية والمهمشة بمحافظة الكاف, شمال غرب تونس, قصة تلميذة تونسية, كانت إلى وقت قريب جدا ككل أترابها, تعيش حياة عادية وبعيدا عن الأضواء, لتصبح بين عشية وضحاها أشهر من نار على علم وتتصدر عناوين الصحف ووكالات الأنباء المحلية, بل حديث الساعة في بلدها, وربما خارجه, كيف لا وذكرى, التي تنحدر من عائلة تونسية متوسطة, أو ربما, محدودة الدخل, ولا تملك غير اللظى, ومن منطقة داخلية مسحوقة من مناطق تونس الأعماق, تونس المنسية, التي لا يدرك أغوارها السحيقة سوى أبناؤها الذين امتزج عرقهم بملح ودم أرضها الطيبة, كيف لا إذن؟ وذكرى أعيدت إلى مقاعد الدرس بقرار وزاري...؟؟

بلى, بقرار وزاري, تعود ذكرى إلى علمها وكتبها وامتحاناتها, بعد أن تم رفتها نهائيا من معهدها واقتراح رفتها نهائيا من كافة المؤسسات التربوية في البلاد على طاولة وزير التربية.. والسبب هو إدانتها ب "الافتراء" على مدير المعهد الذي "اتهمته بالتحرش الجنسي بها", وهو ما اعتبر "افتراء" على إطار تربوي من قبل إدارة المعهد ومجلس التربية بالجهة.. فكان القرار الإداري "الجهبذ" أو بالأحرى "الأسطوري" هو رفت ذكرى بشكل نهائي من معهدها وربما تدمير مستقبلها الدراسي والعلمي بجرة قلم.. نعم بجرة قلم.. لولا القرار الوزاري الذي أنصفها بعد حملة تنديد واسعة من المجتمع المدني ومن الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي والالاف من الإطارات التربوية والمتدخلين في القطاع.

وتعود تفاصيل الحكاية, وفي رواية أخرى شجونها, إلى تجرأ التلميذة المذكورة على اتهام مدير معهدها ب "التحرش", وهو ما نفاه المدعى عليه, في حين تمسكت به المدعية وصرحت به في العلن.

وفي هذا الإطار, أعلن المدير الجهوي للتعليم بالكاف عادل المديوني أن مجلس التربية بالمعهد الثانوي صالح بن يوسف بالقصور اتخذ فعلا قرارا بطرد تلميذة تدرس بالسنة الرابعة اقتصاد وتصرف (باكالوريا) كانت قد رفعت شكوى بمدير المعهد بتهمة التحرش قبل أيام قليلة من انطلاق امتحانات الباكالوريا.

وأضاف المديوني أن التلميذة تقدمت أيضا بشكاية جزائية في نفس الغرض, مبينا في الأثناء, أن النيابة العمومية بالكاف قررت يوم 4 مايو الجاري حفظ القضية لعدم كفاية الحجة.

ولفت إلى أن البحث الإداري لم يثبت أيضا أقوال التلميذة, مؤكدا في المقابل أنه على عكس ذلك, تبين أنها تطاولت على مدير المعهد بالشتم والتجريح وأنها استعملت عبارات غير لائقة في فضاء المدرسة وأمام التلاميذ, وهو ما استوجب قرار رفتها نهائيا من المعهد المذكور مع اقتراح بطردها من كافة المؤسسات التربوية على وزير التربية.

في المقابل, تحدث المفاجأة وتنزل من السماء, ومن حيث لا تنتظر ذكرى, "رحمة" وزارة التربية, لتعلن الوزارة, أمس الإثنين 31 مايو الجاري, أنه تم الاكتفاء برفت التلميذة من المعهد لا غير.

وأوضحت الوزارة, في بيان, أن التراتيب الجاري بها العمل تخول في مثل هذه الحالات, السماح لكل تلميذ راسب سبق أن اجتاز امتحان الباكالوريا، باجتياز الامتحان كمترشح فردي لا غير.

وذكرت بأنه تمت إحالة التلميذة المعنية بالأمر على أنظار مجلس التربية وأنه قرر في شأنها الرفت النهائي من المعهد مع اقتراح الرفت النهائي من جميع المعاهد على وزير التربية باعتباره المخول الوحيد بمقتضى النظام التأديبي للبت في مثل هذا الاقتراح.

واعتبر المستشار الإعلامي بوزارة التربية التونسية محمد الحاج طيب, في تصريح ل "بوابة افريقيا الإخبارية", أن القرار الوزاري أنصف ذكرى وأنها ستتمكن من اجتياز امتحاناتها.

وأكد الحاج طيب أنه تم فتح تحقيق داخلي بالوزارة للتقصي في تهمة التحرش الجنسي التي نسبتها التلميذة لمدير المعهد, مشددا على أنه في حال ثبتت هذه التهمة سيكون مصير المدير المذكور العزل.

ولم يخف الحاج طيب وقوفه المبدئي في خانة الإيجابية, من حيث أنه وجب دوما إعطاء فرصة ثانية للتلميذ في حال هو أخطأ وإقرار عقوبات إصلاحية بديلة لا تدمر مستقبله الدراسي, على غرار عقوبة الرفت النهائي.

ويقول وزير التربية السابق والأستاذ الجامعي والأكاديمي ناجي جلول, في حديث ل "بوابة افريقيا الإخبارية", إن القوانين التربوية في تونس متخلفة جدا, وأن يجب العمل أكثر من أي وقت مضى على مراجعتها جذريا.

ويؤكد ناجي جلول أن المنظومة التعليمية في تونس أصبحت بالية جدا وتكرس "الاستثمار في الجهل", مبينا أنه أثناء تقلده حقيبة التربية طرح مشروعا شاملا ورائدا (الكتاب الأبيض) بهدف إصلاح وعصرنة وتطوير التعليم, إلا أن "أعداء التقدم" أعاقوا تنفيذ هذا "الحلم" وعرقلوه.

وندد ناجي جلول بإقرار عقوبة الرفت النهائي التي ما تزال معتمدة في القوانين التربوية التونسية, مشددا على رفضه المطلق لهذه العقوبة التي اعتبرها "مدمرة" لمستقبل أجيال الغد, طارحا في الأثناء إمكانية اللجوء إلى عقوبات ردعية بديلة أكثر رفقا بالمتمدرس وأكثر فاعلية ونجاعة في بناء ناشئة متعلمة سليمة وبناءة.

وذكر جلول بأنه كوزير سابق طرح مشروع إعادة تكوين الإطار التربوي عبر إرساء "الماجستير المهني", وإصلاح المناهج التربوية وإرساء المدرسة الرقمية, لكن "أعداء النجاح" أجهضوا كل نفس تغيير وكل نفس سعى إلى الإصلاح الجذري.. يؤكد محدثنا.

ويختتم جلول حديثه معنا بحسرة مريرة بادية في نبرات صوته وعلى قسمات وجهه, مؤكدا أنه سعى جاهدا لإصلاح منظومة التعليم في تونس, إلا أن البعض عمل جاهدا على إجهاض هذا المشروع, دون أن ينسى التأكيد على أن جريمة "التحرش الجنسي" موجودة في المؤسسات التربوية في تونس وفي مختلف القطاعات وفي أي مجتمع إنساني ككل, مشيرا إلى أنه عندما كان وزيرا اتخذ قرارات بعزل إطارات تربوية بعد ثبوت تحرشهم بتلميذات قاصرات.

في الأثناء, يشدد الأستاذ الجامعي والأكاديمي رشيد القرقوري على رفضه بشكل بات عقوبة الرفت النهائي من المؤسسات التربوية.

ويؤكد القرقوري, في تصريح ل "بوابة افريقيا الإخبارية", أنه يمارس مهنة التعليم منذ نحو أربعين سنة ولم يحدث مطلقا أن قام برفت تلميذ من مقاعد الدراسة, مبينا أنه لا شيء يبرر على الإطلاق إقصاء متعلم من حقه في التعليم مهما كانت الأسباب لأن الإقصاء من الحق في التعليم شبيه ب "الإعدام", أي بمعنى "الإقصاء من الحياة".

ويضيف الأستاذ الجامعي رشيد القرقوري أن الحق في التعليم مقدس ولا يمكن بتاتا المساس به تحت أي مسمى وأنه في المقابل بالإمكان إقرار عقوبات بديلة تتماشى مع تطور العصر ومع بسيكولوجية التلميذ.

ونوه القرقوري بقرار وزير التربية فتحي السلاوتي بإعادة التلميذة ذكرى اليحياوي إلى دراستها, داعيا في هذا السياق إلى ضرورة مراجعة القوانين والمناهج التربوية البالية واستخدام البيداغوجيا البناءة في تربية وبناء الأجيال المقبلة.

كما يشدد القرقوري على دور المربي في احتواء التلميذ وتفهمه ومراعاة تشعباته وخصائصه وتغيراته النفسية والذهنية والاجتماعية المختلفة, وعلى ضرورة إرساء مشروع شامل ومتكامل لإصلاح التعليم في تونس من أجل البناء والتطوير لا الهدم والتدمير.

  أما النائب بالبرلمان ياسين العياري, فتفاعل بدوره مع الملف.

واعتبر العياري, في تدوينة على صفحته الرسمية على "فايسبوك", أن منظومة العقوبات التربوية في المؤسسات التعليمية التونسية, على غرار الإنذار والرفت من المعهد أو الرفت من جميع معاهد الجمهورية, إلى جانب مجالس التربية وصلاحياتها وتركيبتها, منظومة قديمة وبالية أحدثت لتكون زجرية لا لتكون تربوية وقد تكون ساهمت في الانقطاع المبكر عن الدراسة في البلاد.

وطرح العياري مشروع إصلاح تعليمي يقر عقوبات "عصرية" تفرض الانضباط دون أن تمثل دافعا للانقطاع عن الدراسة.

وبحسب تقرير للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية صادر بتاريخ 9 ديسمبر 2020, بلغ عدد المنقطعين عن الدراسة في تونس منذ سنة 2012 ,1 مليون تلميذ بمعدل حوالي 100 ألف منقطع عن الدراسة سنويا وهم ينحدرون من الأحياء والمناطق المهمشة والمفقرة ولم يقع إدراجهم في برامج الحكومات المتعاقبة.

في المقابل, يرى ن. س, مدرس متقاعد, في حديث ل "بوابة افريقيا الإخبارية", أن الانفلات الحاصل في المؤسسات التربوية خلال السنوات الأخيرة رهيب, متوجها لنا بالقول: "يا ابنتي انظري كل هذا الخور الذي تعيشه المؤسسات التربوية من ضعف المناهج واهتراء البنية التحتية وغياب الانضباط والفوضى العارمة.. هذا زمن سيء جدا يا ابنتي هو ليس زمننا.. نحن كبرنا وتعلمنا وربينا الأجيال خلال العصر الذهبي..عصر بناء دولة الاستقلال الزهي والبهي.. بأبسط الأشياء وبصفر إمكانيات بنينا ودرسنا وربينا أجيالا متعلمة وتنويرية, وكان العلم في زمننا مقدسا وبناء الوطن مقدسا..كان المدرس بمثابة نبي, وكان التلميذ بمثابة ثروة وطنية نادرة نعمل على تكوينها بكل ما أوتينا من جهد, أين كل هذا الان يا ابنتي؟؟ لقد دمر التعليم من أساسه بعد أن كان نموذجا تونسيا فريدا ورائدا نباهي به بين الأمم".

ويواصل المدرس المتقاعد حديث الذكريات التي قال إنها "سلاحه السرمدي" لتحمل تشوهات الراهن: "كنا يا ابنتي عندما نلمح معلمنا يسير في الشارع المحاذي لبيتنا نعدو بأقصى جهدنا لنختبئ منه, ليس خوفا منه يا ابنتي, بل إجلالا وخشية واحتراما, وعندما أخذنا المشعل ممن درسونا أكملنا المسيرة بكل اقتدار..كانت علاقة احترام ومحبة تجمع بيننا وبين تلامذتنا..الان يا ابنتي سقط الاحترام للأسف, ووجب الردع وفرض الانضباط".

ويستدرك ن. س بقوله: "الردع جيد, لكن وجب الرفق ومنح الفرصة الثانية بل منح الفرصة تلو الأخرى..أنا كنت مدرسا صارما..نعم, هذه حقيقة.. لكن لم أفكر يوما في رفت تلميذ.. كنت أرى نفسي الأب والإنسان العاقل والمربي المسؤول.. فكيف يقسو الأب؟؟ وكيف يخطئ المسؤول؟؟.. هذا أمر لا يجوز".

"بلى.. يجوز الرفت من التعليم في حال أخطأ المتمدرس", تصرح و. ك, إطار تربوي بمعهد ثانوي قريب من العاصمة.

وتضيف و. ك, بنبرة ضيق, أو ربما "انزعاج": "تلاميذ اليوم ليسوا تلاميذ الأمس.. الانفلات التلمذي أصبح سمة بارزة في أغلب المؤسسات خلال السنوات الأخيرة".

وتؤكد محدثتنا أن بعض المؤسسات التربوية شهدت حوادث عنف بل "جرائم" ضد الإطار التربوي مارسها تلاميذ قصر, بوعي, أو دونه, مشددة على ضرورة تطبيق القانون وفرض الانضباط لمصلحة الجميع.

مع ذلك, تستدرك و. ك, أن سياسة الردع لا يجب أن تكون قاسية جدا, فلا مفر من تكريس مبدأ الحل الوسط في غالب الأحيان.

وتعقب, نادية الشواشي, محامية التلميذة ذكرى اليحياوي, بقولها, على إثر صدور القرار الوزاري لصالح موكلتها, بأن الحق في التعلم حق أساسي من حقوق الإنسان لا يجب مصادرته تحت أي غطاء, أو من طرف أي كان.

وتأمل الشواشي أن تساهم هذه التجربة المريرة التي مرت بها موكلتها في دفعها نحو الأفضل في مسار العلم والرقي بنفسها وبوطنها.

وبين مواقف مساندة للتلميذة المذكورة, ومواقف مساندة للطرف الثاني في الملف, أي الإطار التربوي, وبعيدا عن حيثيات هذا الملف الذي أسال الكثير من الحبر في تونس, وبمنأى عن ثنائية الظالم والمظلوم, حيث القضاء ولجان التحقيق بالوزارة هما المخولان بالحكم, تبقى قصة التلميذة ذكرى اليحياوي مؤلمة جدا من الناحية الإنسانية, لأن الثابت أنها ليست القصة الأولى ولن تكون الأخيرة, في مسار تفعيل قوانين منظومة تعليمية بالية وتعسفية وجائرة تكرس الهدم عوضا عن البناء...حتما أمثال ذكرى كثيرون في تونس وفي كل بلد مشابه, إلا أن الحظ السعيد الذي أسعف ذكرى قد لا يسعف غيرها, وبالتالي يتم تحطيم مستقبل أجيال ومستقبل أوطان بأكملها بجرة قلم بناء على منظومات وقوانين وقرارات ونواميس تربوية تعسفية, أو بناء على سوء تقدير أو عنتريات أو بطولات زائفة لبعض المسؤولين.. من السهل جدا, بل من الموضوعي جدا, أن يتحول ذلك الطفل البريء, أو تلك الطفلة الحالمة بمكان حذو الشمس, وهما على مقاعد الدراسة, إلى قنابل مجتمعية موقوتة في حال هما افتقدا مبكرا الشعور بالأمان أو شعرا بالظلم والحيف.. من الأخطاء الفادحة جدا في كل مجتمع أن نظلم الطفولة ونحرمها من حقوقها, ولا سيما الحق في العلم, فالطفولة لا تنسى.. والعلم نور, وأي خلل يمكن أن يستهدف أيا منهما قد يعم الظلام.. فرفقا بالأجيال القادمة أيتها المنظومة.