الأعمال المعمارية والمباني، بفنون تصميمها، أو تناسقها أو اندماجها في منظر طبيعي، والمعالم التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر التاريخ أو الفن أو العلم، هي انعكاس للمستوى الحضاري لأي أمة أو بلد، وهي نتاج فهم الإنسان لتراثه، وتفاعله الاجتماعي والمادي في مراحل تاريخه، ويتضمن هذا الناتج عناصر وأبعاداً روحية وفكرية.
من هذه المعالم قصر تاريخي فخم شاهد على مجريات أحداث متفرقة من تاريخ ليبيا لأكثر من قرن ونصف القرن، يقع بشارع سيدي خليفة في العاصمة الليبية طرابلس، الواقع بشكل موازى لشارع الجمهورية وتحديدا بين ميدان مولاي محمد وميدان أبو هريدة، يحدُّه من الشمال الشارع الرئيسي شارع سيدي خليفة ومن الجنوب زنقة دوكال ومن الشرق شارع الشيخ أحمد بن عبد السلام ومن الغرب زنقة حجول. .
يعود تاريخ تشييده إلى أواخر عهد (على باشا القرمانللي) الذي حكم طرابلس من 1832م - 1835م، أي أن عمره الآن 180 سنة، أحد المباني العثمانية الجميلة، والقصر الريفي الخاص بالوالي العثماني، امتلكته بعد ذلك عائلة أبو دلغوسة الليبية، ويعرف في ليبيا بقصر الكونتيسة.
وتقول الأستاذة أحلام الكميشي الصحافية وابنة عروس البحر طرابلس (في أعتقادي أن القصر كان البيت الريفي لباشا طرابلس وهو الذي ذكرته Miss Tully في كتابها الشهير "قصة عشر سنوات من الإقامة في طرابلس أفريقيا"، وبالتالي عمره أكبر مما ذكر أعلاه، ويعود لعهد علي باشا القرمانللي الاول، أي والد يوسف باشا وليس أبنه).
قصر الكونتيسا أو فيلا فولبي، اختارته الكونتيسة نيرينا بيساني فولبي Nerina Pisani Volpi فترة الحكم الإيطالي لليبيا كمستقر لها ولزوجها لتصنع له منه مقاماً يليق به، هي زوجة الكونت (جوسيبي فولبي Giuseppe Volpi المولود في فينيسيا في 19 نوفمبر 1877م السياسي ورجل الأعمال الإيطالي، الذي تولى حكم طرابلس من 16 يوليو 1921م وحتى 03 يوليو 1925م، تولى بعد ذلك منصب وزير المالية والخزانة لمملكة إيطاليا حتى يوليو 1928م، كان أحد مندوبي بلده عند توقيع معاهدة أوشي التي أنهت الحرب التركية الإيطالية عام 1912م، أسس فولبي أقدم مهرجان سينمائي في العالم سنة 1932م، ومن ذلك الوقت أصبح المهرجان يفتتح في منتصف شهر أغسطس أو بداية شهر سبتمبر من كل سنة، في جزيرة ليدو في مدينة الجمال فينيسيا، ويعد هذا المهرجان من أعرق المهرجانات السينمائية في العالم، التي تميز الثقافة الإيطالية وأحد اهم رموز الفن المعاصر، يمنح جائزة (الأسد الذهبي Leone d’Oro وهي الجائزة الكبرى في المهرجان وتمنح لأفضل فيلم، تليها جائزة كأس فولبي Coppa Volpi والتي تمنح لأفضل ممثل و أفضل ممثلة)، توفي فولبي في روما في 16 نوفمبر 1947م.
استطرد الاستاذ زكريا العنقودي وهو من سكان شارع سيدي خليفة بمعلومات قيمة افادنا بها، اشتهر القصر باسم الكونتيسة نيرينا بيساني فولبي Nerina Pisani Volpi المولودة في مدينة فلورنسا في 15 نوفمبر 1875م الشخصية المثقفة ذات الاصل الأرستقراطي الرفيع، لم تكن تؤمن بالفاشية ولا بفكر المستعمر، كانت علاقتها بالليبيين في منتهى الود والوئام، كانت تكره الحروب والدمار، تحب الطبيعة والأزهار، اهتمت الكونتيسة بالقصر وقامت بترميمه فجمعت بالقصر العديد من المقتنيات المحلية الليبية إضافة إلى العديد من المقتنيات الاثرية الرومانية زد على ذلك مجموعه نفيسة من مشترياتها من كل أنحاء العالم والتي كان يشهد لها بالقيمة المادية والثقافية العظيمة، اختزلت في القصر كل سنوات عمرها، أقواس للحكايات وأفق للذكريات ومشاهداتها للعالم أثناء جلوسها على كرسيها المتأرجح بحديقته، فالقصر كان مهيبا، ورغم اللمسة الإيطالية إلا أنها نجحت في أن لا يشوش ذلك عين الناظر، فهو يبدو للمشاهد أقرب للمعمار التركي وأبعد قليلا لكي يكون معمارا إيطاليا، كان من بعيد يشع بياضا ينبثق من وسط باقة من الزهور متمثلة بحديقته ويكمل مهابته كونه شيد وسط خضار المنشية والذي انسحب بعيدا وترك قصر الكونتيسة وحيدا بعد ما سمي بزحف المدينة وما تبعها من ضرورات ظهور النفط فسمي الشارع الذي شق طريقه أمام القصر بشارع سيدي خليفة.
توفيت الكونتيسة نيرينا بيتساني فولبي في 29 نوفمبر 1942م ودفنت في روما، وعادت إليه أبنتها آنا ماريا لوسانا فولبي Anna Maria Losanna Volpi وابنة الكونت جوسيبي فولبي، وزوجة تشيزاري موتزوني Cesare Cicogna Mozzoni المولودة في مدينة فينيسيا في 19 ابريل 1913م، لترثه من بعدها وأقامت به وأحيته من جديد في خمسينيات القرن الماضي، فأينعت زهراته من جديد وعاد للمكان لمسته الأنثوية وبعده الرومانسي نتيجة لاتباعها خطى والدتها وأضفت على المكان الكثير من المهابة والسحر والجمال والأناقة، اهتمت بالمبنى وترميمه كما اهتمت بحديقته وبالحديقة المحاطة به وكانت تعرف بحديقة الياسمين، وأثثته بالأثاث ذي الطابع الشرقي واستغلت المبنى وبستانه الجميل الكبير في إحياء الحفلات والسهرات الخاصة.
استقلت وبمزاج منعزل وبحرص على طراز معماري اندلسي محترف لتشيد المكان، فاهتمت به وبكامل تفاصيله، والحقت به بعض الإضافات التي تتماشى والطابع المحلي بل ووقفت بحرص على أصغر نقوشه الإسلامية في أغلبها، كانت مولعة بالآثار الإسلامية، وكانت حريصة على كل ما هو تاريخي من أصلها الأرستقراطي وثقافتها العالية، حتى السور الذي سيجت به القصر جعلته قصيرا ولم يحتو على أدوات حماية، بحيث يكون مكملا لما يحيط به من جنان أمام حديقتها، كانت تحب جمع البذور من كل بقاع العالم، وحين طاب لها المقام في طرابلس أعادت هندسة قصرها وأخرجت تلك البذور ونثرتها في حديقتها، وصنعت لنفسها حديقة كحدائق الريفيرا بفرنسا، ونمت تلك البذور وصارت شجيرات وأصناف من الورود لم تكن ليبيا مناخ ليناسبها لولا حسن استغلالها للماء الصادر من البئر الطرابلسي مصدر تلك الجنان الملونة والتي كلما كبرت اخذ أريجها يجتاز حدود الحديقة ليعم المكان فيشتمه الجيران، فصار لهم لكل موسم عطر ولون، والتي تركتها على معمار سالفها، أصرت على تجديدها ليكمل تاريخ المكان، لم تكن تحب أن تظهر بقصرها كهجين وسط أولئك المزارعين الذين يحيطون بها لذا حافظت على كل هذا الإرث، وأضفت عليه لمسة عصرية، كانت تؤمن بطيبة كل العاملين في القصر وحديقته من الليبيين،
القصر مفتوح على الأهالي وغير محمي، وهذا ما أرادته، اختارت خطها الخاص، فقد نجحت مع الوقت في إقامة علاقة ود حمّلتها كل رومنسيتها مع أهالي المنطقة تماما كما نجحت معه في استكمال المكان رغم ضخامة المشروع .
ظل المكان وظلت شجيراته وزهوره المتعددة الألوان إضافة لحقل كبير للبرتقال في مواسمه، لوحة من لون البرتقال وبياض المكان حافظ القصر على جمالياته حتى بعد أن تغيرت الجغرافيا المجاورة وصارت تلك الحقول الخضر لمزارعي التبغ والخضار مربعات حجرية قطنها متتبعو أثر النفط، ظل المكان طرفا وشاهدا على الكثير من تاريخ البلاد.
توفيت في 28 مايو 2004م في مدينة فينيسيا عن عمر ناهز الـ 91 عاما.
بعد 1969م استغل المكان لمتحف إسلامي ثم شمله قرار بضم مقتنياته للمتحف الكبير بالسراي، أغلق المكان بعدها، وتقرر أن يتحول المكان الى متحف اسلامي.
استلمت المبنى مصلحة الآثار في بدايات السبعينيات، حيث أدخلت عليه بعض التحويرات وهيأته لان يكون متحفا إسلاميا، وهو أول متحف إسلامي يقام في ليبيا، وتم افتتاحه رسميا في 1 سبتمبر 1973م، تحت اسم المتحف الإسلامي، وعرضت فيه معروضات تعبر عن الحضارة الإسلامية في ليبيا من نماذج معمارية ومسكوكات وخزف ومخطوطات، إضافة إلى النقوش العربية والعثمانية، وأضيف للمتحف قسم خاص بالجهاد الليبي.
ونقلت اغلب معروضاته إلى متحف السرايا عند الشروع في إعداده، ولم يبق منه إلا بعض الأثاث والأشياء التي تخص الكونتيسة التي كانت مولعة بالآثار الإسلامية.
مكونات المتحف الإسلامي.
المدخل الرئيسي
القاعة الأولى: تخص مجموعة كبيرة من الصور التي تمثل أهم المعالم الأثرية الإسلامية الموجودة في ليبيا
القاعة الثانية: صالة العملة الإسلامية
القاعة الثالثة: صالة الفخار والمسكوكات
القاعة الرابعة: صالة الفتح الإسلامي
القاعة الخامسة: صالة الحجارة المنقوشة العربية والتركية
القاعة السادسة: صالة المتحف التاريخي (صالة متحف الجهاد الليبي) بالإضافة الى وجود بعض الاضافات كالتخزين والترميم.
تبلغ مساحه الأرض الكلية للمبنى وحديقته 5 هكتارات تقريبا، مساحة المباني المغطاة 1600 متر مربع تم اقتطاع جزء من مسطح الأرض الأصلي لصالح منتزه الأوائل، الذي يحتوي على إضافات معمارية تمت إضافتها في فترة الاحتلال الإيطالي بالإضافة إلى الحديقة الخاصة بالقصر.
قصر الكونتيسة أو فيلا فولبي، غادرته الكونتيسة وكل شيء في مكانه، الغرف ومقتنيات الكونتيسة القيمة ومدفئتها النحاسية وايضا سريرها، كل شيء في مكانه، حتى مكتبتها العظيمة التي تم الاستفادة منها لاحقا.
ما زال المكان رغم أنه يعاني العبث والإهمال باقيا وشاهدا وطرفا شريكا في صياغة تاريخ ليبيا بالرغم من اللامبالاة.
مازالت الكونتيسة أو سانية الوالي كما أطلق علي القصر في القديم يسكن لصمته المهيب.