" من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها أولاً بجحر".. هكذا تحدث السيد المسيح دفاعا عن امرأة أراد اليهود رجمها لاتهامها بالزنى. وعلى عكس الظاهر لم تكن هذه دعوة إلى الانحلال، بل إلى محاسبة النفس أولا، قبل التجرؤ على الحكم على أفعال الغير.. وبهذا المنطق النقدي، المتصالح مع الذات بمحاسبتها وتوضيح ما خفي من أمرها، صنّف الدكتور محمد العربي الزبيري كتابه الموسوم بـ ".. حزب جبهة التحرير الوطني.. من الشرف إلى العلف: تشريح الأزمة ". كتاب يحاول من خلاله المؤلف تشريح الأزمة الداخلية لواحد من أهم الأحزاب الجزائرية وأكثرها حضورا وإثارة للجدل.

على مدار ثلاثمائة صفحة من الحجم المتوسط، يستقري محمد العربي الزبيري تاريخ حزب جبهة التحرير الوطني، من خلال إعادة قراءة لتاريخه غير المصرح به، أو المساء قراءته بسبب الأحكام الجاهزة أو بسبب عدم القدرة على نقد الذات وامتلاك ما يجب من جرأة لقراءة التاريخ بنحو صحيح. حيث تظهر دوافع الكاتب في وضع هذا الكتاب من خلال الاستهلال الذي جاء فيه »إن الذي لا يدرس الماضي لا يمكنه فهم الحاضر ولا بناء المستقبل«، كما تظهر في الإهداء إلى شهداء الثورة التحريرية المجيدة وإلى المناضلين المؤمنين بمشروع المجتمع وكل الوطنيين.

قبل القبل

خصّص الدكتور الزبيري ثلاثة فصول من كتابه: تمهيد، تقديم ونهاية المهمة، للحديث عن واقع حزب جبهة التحرير الوطني إبان أمانة السيد عبد العزيز بلخادم، والمأزق الذي عرفه الحزب بسبب سياسته التي انتقدها، بعيدا عن كل حسابات شخصية، كونها سياسة ارتكزت بالأساس على تغييب المرجعية الفكرية للحزب، والمستمدة من بيان أول نوفمبر، وعلى التسيير العشوائي خارج القانون الداخلي للحزب، فبحسب الكاتب، فقد أهمل السيد بلخادم التكوين السياسي والإيديولوجي للقاعدة والمنخرطين، وبالتالي تعمد إهمال الخلايا التي كانت همزة الوصل بين القمة والقاعدة. كما عرفت فترته تجميدا كاملا لسائر الهياكل، ليتحول الحزب إلى »دكاكين يرتادها تجار المخدرات ورجال المافيا وأرباب الأموال على اختلاف أنواعهم« ص42.

اتسم الدكتور الزبيري في هذا المؤلف بجرأة خاصة وهو يتهم عبد العزيز بلخادم بأن مهمته كانت إضعاف حزب جبهة التحرير ووأده حيا، وكأنها استمرار لسياسة التغييب التي كان الحزب ضحية لها إبان الحكم البومدييني، أو حتى محاولة جديدة من سلسلة المحاولات الهادفة إلى ما أسماه الزبيري »دفن جثة حزب جبهة التحرير الوطني التي أثخنتها الجراح«.

العارف باللغة وبالمؤرخ، يدرك أن استعمال الأخير لكلمة »جثة« لم يكن سهوا، بل لأنها تأتي في سياق الاعتقاد السائد، أن هذا الحزب ميت، ولا بد من ترسيم الموت بالدفن في جنازة تليق.هنا يشير الدكتور زبيري إلى أنه لا يخوض في مسألة قد خاض الكثيرون والمتعلقة بمحاولات قتل »جبهة التحرير الوطني«، بل بمحاولات اغتيال »حزب جبهة التحرير الوطني« والفارق واضح لأي شخص يملك قدرا معينا من الثقافة السياسية أو التاريخية.

جذور الأزمة: التغييب أولا.. التغييب أخيرا

لقد كان من المفروض أن يكون حزب جبهة التحرير الوطني، الحاضن الأول والأهم لمنظومة الأفكار التي أرستها جبهة التحرير الوطني والتي كرسها بيان أول نوفمبر، ولكن الواقع السياسي المفروض مباشرة بعد استعادة الاستقلال، منع تحقيق هذا الهدف. فجبهة التحرير الوطني أتى عليها كما يقول الكاتب تحالف القوات الخفية التي جاءت في ركاب كل من الرئيسين أحمد بن بلة وهواري بومدين، حين تمكنت »عناصر الثورة المضادة« بمساعدة أعداء الأمس الذين لم يقطعوا صلاتهم بعملائهم في الجزائر من تحييد القادة الأساسيين الذين تمرسوا على العمل السياسي بكل معانيه.

يؤكد الزبيري أن حزب جبهة التحرير الوطني فعليا في السلطة إبان حكم بن بلة وبومدين، وإن حاولا إيهام الشعب بذلك عن طريق وضعه في واجهة سياسية لـ»البريستيج« رغبة في الحصول على الشرعية والتأييد الشعبي، مرجعا ذلك إلى سببين رئيسيين أولهlا طبيعة الحكم السائد من 1962-1979 المتسم بالفردانية والرغبة في تركيز وتجميع السلطة في يد واحدة، والثاني هو الخطر الذي يشكله حزب جبهة التحرير الوطني من خلال كوادره الثورية، وهو ما عبر عنه وزير الداخلية الفرنسية »شارل باسكوا« : »إن العلاقات بين فرنسا والجزائر لن تستقيم ما دامت جبهة التحرير الوطني في الميدان، وما دام هذا »يعني المرحوم الشريف مساعدية« في الحكم«.

هكذا بحسب الكاتب تقرر تغييب الحزب، وهكذا استحال تحقيق رغبة ثوار نوفمبر في استمرار الثورة المجيدة بعد استعادة الحرية، ببناء دولة قوية بمؤسساتها وإرساء فكرة مجتمع مدني حقيقي يتبنى أفكار الثورة.لا ينفي الدكتور العربي الزبيري أن هناك الكثير من المحاولات الجادة والحقيقية في رد قطار حزب جبهة التحرير الوطني إلى سكته. فالمبادرات التي قام بها العديد من المناضلين والوطنيين داخل الحزب، رغبة في مطابقة المنظومة الفكرية للحزب مع المنظومة الفكرية للجبهة كثيرة عبر العقود التي تفصل بين تأسسيه ويومنا الراهن، إلا أنها تبقى متواضعة أمام الأحلام الكبيرة التي يفترض أن يؤمن بها الوطنيون والمناضلون في الحزب، وهي أحلام وإن مدت أجنحتها في سماء المستقبل، تحتفظ بجذورها عميقة في الماضي الثوري المجيد المؤسس على وثيقة بيان أول نوفمير، الذي ألحقه الكاتب بالمؤلف وقدم فيه شرحا وتحليلا مستفيضين.

"حزب جبهة التحرير الوطني من الشرف إلى العلف تشريح الأزمة«

 

تأليف: د. محمد العربي الزبيري

الناشر:ط1- دار الأمة- الجزائر2014