يتحدث الكتاب الذي نقدم ترجمته إلى قراء العربية عن النساء والرجال. إنه بحث في قضايا النوع والقاموس والهوية الثقافية والتباينات الدلالية والنحوية والاستعارات الجنسية ولغة الذم والتحقير. وهي قضايا تعود جميعها إلى عمليات التذكير والتأنيث التي تعتمدها اللغة من أجل مواكبة حضور النوع في النحو والوظائف وفي الحياة الاجتماعية أيضا. لا يتعلق الأمر بنوع نحوي خالص يتعلم الناس من خلاله قواعد المطابقة، ويتعلمون كيف يميزون بين الرجل والمرأة، بل هو عندهم مدخل أساس نحو استعادة عالم يُبنى في الرمز عبر ما يفصل الذكر عن الأنثى عند الكائنات الحية وفي أشياء الطبيعة ومظاهرها وأبعادها. فالتذكير والتأنيث يتحققان في اللغة في المقام الأول، فللأشياء والكائنات "فرْج" في الكلمات لا في وجودها المادي دائما، تماما كما تتوزع القِطع في كل الآلات على ذكر وأنثى. لذلك كان " أول الفصاحة معرفة التأنيث والتذكير في الأسماء والأفعال والنعت قياسا وحكايةً ".
إن الذكورة والأنوثة خاصيتان بيولوجيتان، وهما بذلك أصل التلاقح والتناسل والتكاثر. إنهما جزء من وظيفة في الجسد سابقة على التمدن والتحضر، ولكنهما يُحددان أيضا موقعا داخل نظام رمزي يُذكر ويُؤنث استنادا إلى سند لغوي يتميز بتقطيع خاص للمدرك الخارجي لا يراعي في الكثير من الحالات حقيقة الجنس فيما يتم تقطيعه. وهذا مصدر اختلاف اللغات في الكشف عن الجنس والعدد وتسمية أشياء الكون وظواهره. إن اللغة، على خلاف الحس المحايد، لا تُخْلص دائما للعالم الذي تقوم بتمثيله. إنها تُصنف كائنات العالم وفق إكراهات ثقافية تختلف باختلاف معتقدات الناس وتصوراتهم للحياة والموت. وذاك هو الفاصل المركزي بين الحس في الطبيعة وبين التمثيل الرمزي في الثقافة.
وللتذكير والتأنيث ضمن هذا النظام موقع خاص. فلم تعد هذه الثنائية موجهة للتعبير عن حاجة أملاها النوع النحوي في اللغة فقط، بل تحولت إلى مستودع لقيم وأحكام وتقديرات خاصة بموقع النساء والرجال داخل المجتمع، فهي الأساس الذي يقوم عليه توزيع الأدوار والمهن والوظائف والأحاسيس ونصيب الذكر والأنثى من الإرث والشهادة؛ ومن خلالها أيضا يُفْصَل بين القوي والضعيف والسلبي والإيجابي والإيلاجي والاستيعابي. بل إن اللغة ذاتها انشطرت وأصبحت مستودعا لكلمات تتداولها النساء، وأخرى خاصة بالرجال وحدهم. يتعلق الأمر في جميع الحالات بما يضمن للكائنات والأشياء موقعها ضمن التبادل الاجتماعي.
فلا فَرْج للأرض، إنها مادة صامتة، ولكنها تحضر مع ذلك، في تصورنا، مؤنثة تملك من دلال المرأة وغنجها وعطائها وخصوبتها الشيء الكثير. إنها مؤنثة في الثقافة، أي في الجوهر الرمزي، لا في تبعيتها لمذكر محتمل، كما يحدث في الصفات الإنسانية. ولن تتحول أبدا إلى جامد صامت أو إلى مذكر فاعل، في لغتنا على الأقل. ففي هذه الحالة ستنهار كل الصور التي بنيناها عن الأرض، فهي أمنا الأولى، الطين الذي منه جئنا وإليه نعود، وهي العطاء والبطن والرحم والتراب الذي يغذي كل شيء. يقال في التقليد المسيحي إن مريم أرض لم تُسق أبدا، ولكنها مع ذلك جادت بالثمار.
والحاصل أن الكلمات هي المؤنثة أو المذكرة لا الأشياء الموضوعة للتمثيل الرمزي. وهذا معناه أن عناصر الطبيعة تحضر في التمثلات الرمزية ضعيفة سلبية أو دونية، وتحضر أيضا قوية حاسمة صلبة وإيجابية محاكاة لـ"ضعف" المرأة و"قوة" الرجل في الحالتين معا. إن الله ذاته، الذي خلق الإنسان على صورته، لا يمكن أن يكون في ذاكرة الناس ووعيهم، عند النساء والرجال، إلا مذكرا بالضمير النحوي أولا، وبالصفات المذكرة ثانيا (أسماء الله الحسنى)، واستنادا إلى العوالم الثقافية التي يستثيرها في نفوس المؤمنين والمؤمنات ثالثا، فلا أحد من هؤلاء جميعا يقبل أن يكون خالقه امرأة. لذلك قد لا يكون تذكيره سوى موقف من المرأة ذاتها، فالذي "ليس كمثله شيء" ينفي عن نفسه التذكير والتأنيث في الوقت ذاته.
سعيد بنكراد ( جامعة محمد الخامس أكدال، الرباط المغرب):