سعت حركة النهضة التونسية منذ اغتيال المعارض محمد البراهمي (وهو الاغتيال السياسي الثاني بعد شكري بلعيد) إلى الدخول في مسارات ونقاشات سياسية دامت أشهرا طويلة في إطار ما يسمى بـ”الحوار الوطني”، والذي تمكنت النهضة خلاله من امتصاص ردود الفعل الشعبية والسياسية ضد إخفاق حكومتيها (حمادي الجبالي وعلي العريض) على المستوى الأمني والاقتصادي وأخطائها السياسية المتكررة حسب مراقبين.

لكن واقع الضغط المتزايد على حركة النهضة الإسلامية، داخليا وعربيا ودوليا، أجبر الحركة على تقديم عديد التنازلات رآها البعض “اعترافا ضمنيا بالعجز على إدارة شؤون البلاد”، ولعل آخر تلك التنازلات هي مقترحها الأخير المتعلق بترشيح “شخصية توافقية لرئاسة البلاد” دون الحاجة إلى انتخابات رئاسية. وهو الأمر الذي اعتبره بعض السياسيين مثل الباجي قايد السبسي رئيس حزب نداء تونس “مناورة للتغطية على الأزمة داخل النهضة”.

ويرى البعض أن هذا المقترح إنما جاء على خلفية أزمة داخلية حادة يمكن أن تنتهي باستقالة الجبالي من الأمانة العامة للحركة حسب تسريبات أخيرة، وقد أثر مقترحها على حلفاء النهضة وشركاء الحكم سابقا. فقد عبر عماد الدايمي الأمين العام لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية عن امتعاضه مما تقدمت به النهضة وأكد في تصريحاته أن “التوافق مسألة سياسية بين الأحزاب أما الاستحقاقات الانتخابية فمسألة أخرى للشعب تقريرها عبر الانتخابات”. لكن في المقابل تصر حركة النهضة على أن مقترحها سوف يجنب البلاد إنهاكا إضافيا بالانتخابات الرئاسية.

رئيس توافقي يقينا بذل الوقت والجهد

اقترحت حركة النهضة الإسلامية في تونس في وقت سابق، التشاور بين الأحزاب للتوافق حول شخصية وطنية يتم ترشيحها لرئاسة الجمهورية. وتعيد قيادات النهضة اختيار هذا المقترح إلى ضرورة إيجاد مساحات سياسية للتوافق بين جميع الأطراف والاهتمام بالقضايا الأهم المطروحة على أجندة التونسيين عوض الانشغال بالصراعات السياسية حول الانتخابات والرئاسة والتحالفات.

ونفى القيادي في النهضة، رئيس الوزراء السابق علي العريض أن تكون المشاورات للتوافق حول اسم رئيس الجمهورية المقبل محاولة لإلغاء الانتخابات والعملية الديموقراطية، موضحا أن هذا المقترح جاء على خلفية ترشح عدد كبير من الشخصيات السياسية للانتخابات الرئاسية المقبلة التي يفترض عقدها قبل نهاية العام الجاري. وشدد العريض على أن حركته لا تملك مرشحا للانتخابات الرئاسية.

وقال علي العريض، إن حزبه سيقترح على الأحزاب والمنظمات والشخصيات الوطنية الدخول في مشاورات من أجل التوافق حول شخصية وطنية حزبية، أو مستقلة لترشيحها للانتخابات الرئاسية المقبلة.

وأضاف العريض، في مؤتمر صحافي حضرته قيادات حركة النهضة بمقرها في العاصمة التونسية تونس، والذي خصصته لتقديم موقفها من الانتخابات الرئاسية: “نريد رئيسا يطمئن التونسيين على مستقبل البلاد ويحظى بشرعية توافقية”، وهو ما اعتبره مراقبون رسالة حادة للرئيس المؤقت محمد المنصف المرزوقي تؤكد عدم قدرته على إدارة الأزمات الداخلية السياسية بشكل سليم والأخطاء الدبلوماسية المتكررة التي ارتكبها، فيما يؤكد آخرون أنها رسالة تعني بداية القطيعة السياسية مع الحليف المرزوقي.

وقال العريض أن الحركة ستقرر تقديم مرشح لها من داخل أطرها، أو دعم أحد المرشحين بعد التشاور مع الأحزاب السياسية حول الشخصيات المرشحة لمنصب الرئاسة. وهو خيار يؤكد أزمة داخلية ما في إيجاد مرشح “نهضوي” للرئاسة خاصة بعد أخبار أخيرة من داخل الحركة تؤكد وجود خلافات بين حمادي الجبالي الأمين العام للحركة ورئيسها راشد الغنوشي حول الأمانة العامة والترشح للرئاسة وقضايا أخرى هدد حمادي الجبالي بتقديم استقالته إثر تفاقمها وعدم إيجاد حلول لها.

وبشأن فكرة دعم رئيس توافقي للبلاد، أفاد العريض أن حزبه يبقى منفتحا على جميع الخيارات، ومن بينها ترشيح أحد قادة الحركة للانتخابات الرئاسية في حال تعذر التوافق، وأضاف أن تعدد الترشيحات لا يخدم المرحلة السياسية المقبلة، لأن “البلاد بحاجة إلى التوافق والبناء بدل التجاذب والاحتقان” حسب قوله.

ونفى العريض ميل حركة النهضة إلى مرشح على حساب آخر، في إشارة إلى إمكانية دعمهم لأحمد نجيب الشابي، رئيس الهيئة السياسية للحزب الجمهوري، وقال إن الشابي سيكون من بين من ستتحاور معهم الحركة، وسيخضع مثل غيره إلى عمليات التشاور مع الأحزاب السياسية حول شخصه، خاصة بعد رواج أن النهضة تسعى لإيجاد اتفاقات مع حزب نداء تونس حول الرئاسة والانتخابات القادمة.

وبشأن توقعات الحركة للمشهد السياسي المقبل، قال العريض إن البرلمان المقبل سيكون تعدديا، وإن حزبه يدعم منذ الآن فكرة تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو حكومة ائتلاف تضم أغلبية الأحزاب التونسية.

وكان علي العريض صحبة عدد من قيادات النهضة قد دعا إلى إطلاق حوار وطني حول شخصية توافقية في الانتخابات الرئاسية المقبلة. لكن هذه الدعوة قوبلت بحملة تشكيك في نوايا حركة النهضة. إذ حذرت بعض القيادات السياسية المناهضة للاستقطاب السياسي الثنائي بين حركة النهضة وحركة نداء تونس من انعكاسات هذا المقترح، بحجة أن هدف حركة النهضة الخفي هو اقتسام السلطة بين الحركتين وبالتالي دعم ملف ترشح الباجي قائد السبسي، وهذا ما نفته أغلب قيادات النهضة وخاصة علي العريض قائلا أن مقترح حركته “يهدف إلى توحيد التونسيين وعدم إضاعة الوقت والجهد”.

 

مقترح النهضة يعيد "البيعة" وليس ديمقراطيا

في مقابل مقترحات حركة النهضة في إيجاد سبل للتوافق حول ترشيح شخصية للرئاسة التونسية، رفض حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وهو أحد مكونات الائتلاف الحاكم سابقا (الترويكا) المقترح حول شخصية تتولى الرئاسة.

وارتكازا إلى “إرادة الشعب الحرة في اختيار أحد السياسيين للرئاسة” وصف الأمين العام لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية عماد الدايمي دعوة حزب النهضة بـ”المتناقضة مع روح الديمقراطية التي من بين أهم شروطها حق الترشح لكل مواطن”.

وأشار عماد الدايمي إلى أن مثل هذه المقترحات سوف تعرقل الذهاب نحو إقامة انتقال ديمقراطي كامل في تونس تكون فيه الإرادة والسلطة للشعب. ويعتبر مراقبون أن مثل هذه التصريحات تعد تصعيدا في اتجاه فك الارتباط مع النهضة بعد أن تعالت أصوات في السابق هددت الرابط السياسي الذي يجمع الحزبين نتيجة خلافات حول هيئات دستورية وفصول قانونية تهم الدستور التونسي. وقد وصف عماد الدايمى الأمين العام لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية دعوة حزب النهضة للتوافق حول مرشح لرئاسة الجمهورية متناقضة مع روح الديمقراطية التي من بين أهم شروطها حق الترشح لكل مواطن.

وأضاف بأن هذه الدعوة غير قابلة للتحقق في الساحة السياسية التونسية وغير إيجابية لتكريس الديمقراطية والحق في الانتخاب الحر في تونس الثورة، مشيرا في ذات الوقت إلى حق كل حزب في القيام بالمشاورات السياسية التي يراها مناسبة لاختيار مرشحه للانتخابات الرئاسية.

وقد أكدت تقارير إعلامية أن هذا الموقف الصادر عن المؤتمر من أجل الجمهورية إنما يعكس نية الحزب إعادة ترشيح أمينه العام السابق محمد المنصف المرزوقي للانتخابات الرئاسية، خاصة وأن المرزوقي أعرب في العديد من المناسبات نيته إعادة الترشح لمنصب الرئاسة، الأمر الذي دفع النهضة إلى اقتراح مسألة التوافق حول رئيس جديد كتعبير عن شبه نهاية للتحالف بينها وبين المؤتمر، فيما تؤكد تحليلات مراقبين أن الأزمة داخل حركة النهضة في إيجاد مرشح لها من داخلها جعلها تنحو ذلك الاتجاه.

وقد أكد الدايمي في تصريحاته أن “النهضة بهذا المقترح تريد العودة إلى البيعة، أي أن تتفاهم وأن تتفق نخبة من الناس (أي السياسيين) حول شخصية تقود البلاد، في حين أن هذا التفكير يتناقض مع الأساس الديمقراطي الذي نطالب بتحقيقه كاملا والذي طالبت به الجماهير التي خرجت في الثورة والتي طالبت بالحق في المشاركة في إقرار مصير البلاد والقطع مع مصادرة الحق في المشاركة”.

ولم تقف ردود أفعال الأمين العام لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية عند هذا الحد فقط، إذ صرح عماد الدايمي أن اقتراح حركة النهضة التوافق على ترشيح شخصية للانتخابات الرئاسية القادمة “هو عبارة عن طعم ومغازلة جماعية للشخصيات السياسية التي لا تملك رصيدا انتخابيا أو برنامجا واضحا ولها في نفس الوقت طموح للوصول إلى قصر قرطاج وهي لعبة سياسية تستطيع الحركة أن تقيم حلفاءها مرة أخرى وأن تبحث لها عن موطئ قدم سياسي يجنبها موقع المعارضة في المستقبل”.

ويؤكد بعض المراقبين أن الذي ترمي إليه حركة النهضة فعلا من خلال مقترحها هو خلق تكتل سياسي جديد بين الفرقاء السياسيين في تونس وليس المراد هو التوافق كما تدعي الحركة، ويضيف الدايمي أن تفكير حركة النهضة في هذا الاتجاه يكشف عن “رغبة في المناورة لإضاءة الساحة ومعرفة مدى قرب أو بعد بعض الأطراف السياسية عنها” مؤكدا أن ما تقدمت به النهضة يعتبر غير منطقي ولا مبررات واقعية له مؤكدا أن “الحق في الانتخاب مسألة جوهرية ولا يمكن لأي طرف أو جهة أن يصادر هذا الحق للشعب”.

 

رئيس بالتوافق: تأميم الأرباح وخوصصة الخسائر

عبد الجليل معالي

مقترح حركة النهضة التونسية القائم على فكرة ترشيح شخصية وطنية توافقية لرئاسة البلاد في المرحلة، أثار جدلا كبيرا طغى على سجالات الساحة السياسية التونسية، وهو مقترح تزامن صدوره مع إعلان حزب نداء تونس، عن نيته التقدم للانتخابات القادمة بقائمات منفردة، خارج جسم “الاتحاد من أجل تونس”.

مقترح النهضة الذي صدر والبلاد تتهيأ لانتخابات تشريعية ورئاسية ستنتظم تباعا أيام 26 أكتوبر 2014، و23 نوفمبر 2014، كان توقيته مثيرا لطوفان من الأسئلة، وسيل من التحاليل.

فالواضح أن حركة النهضة، الفائزة في انتخابات 2011، والتي تصدعت صورتها بشكل واضح بمفعول سنوات حكمها للبلاد في إطار تجربة الترويكا، تفكر في التعاطي بشكل مختلف مع مقتضيــات المرحلــة المقبلة.

ولاشك أن المرحلة التونسية المقبلة، ستبدأ عبر مدخل أساسي وهو الانتخابات المزمع تنظيمها بعد أشهر، والتي انطلقت كل المكونات السياسية التونسية في الاستعداد (ولو بتفاوت) لها ماديا وبشريا وسياسيا.

الثابتُ أن المبادرة التي أطلقتها النهضة، والتي قوبلت بمعارضة واسعة من قبل أغلب الأحزاب السياسية والقوى المدنية، لم تكن اعتباطية أو مرتجلة، بل إنها دُرست جيدا داخل هياكل الحركة، وروعيت فيها كل موازين الربح والخسارة، مع قراءة للمشهد السياسي الراهن.

عندما تفتقت القريحة السياسية النهضوية عن هذه المبادرة، وفي هذا التوقيت، فإن التصور الأول الذي يتبادر إلى الذهن، (تصور أثارته وعبرت عنه عديد القوى السياسية) مفاده أن النهضة تتقصّد من وراء مبادرتها أولا قطع الطريق أمام عشرات نوايا الترشحات التي بدأت تعلن عن نفسها مؤخرا، حيث تجاوز عدد الأسماء التي أعلنت اعتزامها الترشح للرئاسية القادمة عشرات الشخصيات.

بعد آخر فُهم من مقترح النهضة هو أنها تسعى من ورائه لربح الوقت لمزيد التشاور داخل هياكلها للتوصل إلى تحديد مرشح نهضوي خاصة وأنها لم تتوفق إلى ذلك حتى لحظة إعلان المبادرة (ثمة من يتحدث عن جهود حثيثة لإقناع حمادي بالجبالي بالترشح باسم الحركة، كما عبّر راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة عن عدم اعتراضه على أي مترشح يحصل حوله توافق بما في ذلك الباجي قائد السبسي رئيس حزب نداء تونس الذي قال عنه الغنوشي “إذا ما حصل حوله توافق فهو رئيس تونس القادم”.

الأكيد أن النهضة تسعى بمبادرتها تحويل الوجهة من الانتخاب إلى التوافق تضرب العملية الديمقراطية في مقتل، وتفقد الانتخابات القادمة كل دلالة ومضمون. فالانتخابات الرئاسية التي ينتظر منها الشعب التونسي أن تقدم له رئيسا للبلاد يقطع مع وضع “الرئيس المؤقت” (صيغة ومهاما) هي المدخل الأوحد لدخول البلاد المرحلة الديمقراطية بمؤسساتها الدائمة. أما فكرة الرئيس التوافقي فهي ستكرس هيمنة الأحزاب الكبرى، وستحرم فئات واسعة من الشعب التونسي من حق اختيار رئيسهم.

خاصة وأن التسريبات الأخيرة التي ترددت بعد تلبية عدد من سياسيي تونس دعوة السفير الأميركي جاكوب والس على الإفطار تقول أن كمال مرجان هو الشخصية التي “توافق” عليها طيف واسع من السياسيين بشهادة أميركية، وهو الأمر الذي ينذر فعلا بوجود خطر ما على التجربة الديمقراطية التونسية.

 

*نقلا عن العرب اللندنية