قال الكاتب المصري الراحل محمد حسنين هيكل أنه فيما بين 20 و23 ديسمبر 1969 شارك جمال عبد الناصر فى أعمال مؤتمر القمة العربى فى الرباط، وكانت أيامه الثلاثة فى الرباط ألماً حزيناً على الحال التى صارت إليها أمور العالم العربى فى لحظة خطيرة من لحظات الصراع من أجل المصير.

وودع جمال عبد الناصر فى الرباط، ولو مؤقتاً، أمل العمل العربى الموحد الشامل، متوجهاً إلى طرابلس ومعه الرئيس جعفر نميرى.

وكان القذافى قد سبقهما ينتظرهما فيها.

وكان المقرر أن يبدأ الثلاثة هناك حديثاً عن عملهم الوحدوى الثلاثى استكمالاً واستطراداً لحديث عبد السلام جلود بعد زيارته للخرطوم فى أكتوبر السابق.

وكان جمال عبد الناصر راضياً متفائلاً... وكان رأيه:إنه إذا استحال العمل العربى الموحد الشامل وهو الضرورة...فإن العمل العربى الموحد الثلاثى وهو الممكن يستطيع أن يعوض - ولو جزئياً - عن الآمال التى ضاعت فى الرباط".

وبدأت اجتماعات طرابلس الثلاثية يوم 25 ديسمبر 1969.وأعلن ميثاق طرابلس بين مصر وليبيا والسودان فى 27 ديسمبر 1969.وكان الميثاق أقل مما كان منتظراً، ولكن السودان كان مقيداً بظروف خاصة شرحها جعفر نميرى بأمانة وإخلاص.

كان السودان مشدوداً إلى معركة فى الجنوب ضد مؤامرات الانفصال التى تتصدرها جماعة "الأنيانيا" وهى فى الواقع مجرد واجهة لانقضاض استعمارى ضد السودان تلعب فيه إسرائيل دور المدبر والمحرض ومورد السلاح.

وكانت الحجة الظاهرة للانفصاليين فى جنوب السودان... أن الشمال السودانى عربى، ومكانه هناك بين العرب، وأما الجنوب فأفريقى خالص ووضعه الطبيعى أن يكون دولة مستقلة ضمن مجموعة دول شرق ووسط أفريقيا... كينيا وأوغندا والكونجو إلى آخره.

وكانت وجهة نظر نميرى أن انضمام السودان - بينما معركة الجنوب دائرة - إلى اتحاد عربى يعطى حجة جديدة لنزعات الانفصال فى الجنوب.

يضاف إلى ذلك أن شمال السودان يواجه ظروف مخاض ثورى بين القديم والجديد فى السودان وقد يستغل الاتحاد فيما لا علاقة له بموضوعه وتنشأ تعقيدات إضافية لا داعى لها.

وكان جمال عبد الناصر شديد التقدير لظروف السودان، مبالغاً فى حرصه على ثورته وقياداتها وكان معمر القذافى يشارك عبد الناصر تقديره وحرصه، ولكن أمل الوحدة كان لديه غلاباً لا يلين أمام أية رياح.

وتساءل معمر القذافى والكل بعد فى طرابلس:

- هل هناك ما يمنع مصر وليبيا أن تتقدما خطوة أكبر بعد ميثاق طرابلس على أن يشارك السودان فيها عندما تتهيأ له ظروفه؟".

ووافق جمال عبد الناصر على بحث الاقتراح فى اليوم التالى فى بنغازى وكان هو ومعمر القذافى فى الطريق إليها يوم 28 ديسمبر.

وقبل أن يغادر جعفر نميرى طرابلس إلى الخرطوم فاتحه جمال عبد الناصر فى اقتراح القذافى، وكان رأى نميرى بتجرد وطنى قومى عربى هو أنه يرحب بذلك ويتحمس له".

وكان استقبال عبد الناصر يوم 28 سبتمبر 1969 فى بنغازى مذهلاً.

وأذكر أننى ظللت جالساً مع الرئيس جمال عبد الناصر فى غرفة نومه حتى الساعة الواحدة صباحاً من ذلك اليوم.

وكان حديثه طول الوقت عن تجربة الرباط، وعن ميثاق طرابلس، وعن إمكانيات وضرورات العمل العربى الموحد على أية حدود متاحة.

ثم تطرق إلى اقتراح القذافى وقال:

- إننى على استعداد لأن أفعل كل شىء من أجل ليبيا ومن أجل القذافى ورفاقه فهم شباب الطليعة فى العالم العربى... وأعتقد أننى بذلك أخدم الأمة العربية ومعركتها ومستقبلها.

واقترحت عليه أن يستريح ثم نواصل الحديث فى الصباح.

وأطفأت النور فى غرفته وأنا خارج أتركه للنوم وذهبت إلى الغرفة التى كان مقرراً أن أبيت فيها بقصر الضيافة فى بنغازى وكانت ملاصقة لغرفته.

ولم أستطع النوم ليلتها فلقد كانت شواغل التفكير فيما جرى ويجرى ملحة، ثم إن جو الغرفة كان ثقيلاً فقد كان قصر الضيافة فى بنغازى هو قصر الأمير حسن الرضا ولى العهد السابق لليبيا وكانت الغرفة التى نزلت فيها هى غرفة الأميرة زوجته وكانت كلها - جدراناً وسقفاً - مبطنة بالحرير البنفسجى اللون وهو يملؤها كلها بظلال مقبضه، وهكذا قبل الفجر كنت مرتدياً ملابسى وأتمشى فى حديقة القصر.

وبينما أضواء الفجر توشك أن تطلع أقبل أحد ضباط الحرس يدعونى إلى غرفة الرئيس لأنه طلب إيقاظى ودعوتى إلى لقائه فوراً.

وحين دخلت عليه فى تلك الساعة من الصباح الباكر نظر إلى فى دهشة وقال:

- كنت أتصورك نائماً... وطلبت إيقاظك... وقلت لهم لتأت كما أنت".

وقلت إننى لم أستطع النوم وهكذا خرجت أتمشى فى الحديقة.

وقال هو: إننى لم أستطع النوم أيضاً، ولكن لم يكن فى إمكانى أن أخرج مثلك لأتمشى، فلو خرجت من غرفتى لأزعجت كل الناس من نومهم ليخرجوا ورائى".

واستطرد:لقد فكرت ووجدت أنه من الضرورى أن نتقدم نحن وليبيا خطوة أخرى إلى الأمام بعد ميثاق طرابلس".

وجلست أمامه، وراح يملى على نقط اتفاق إضافى بين مصر وليبيا يتقدم بها خطوة أخرى إلى الأمام بعد ميثاق طرابلس.

وفى الثامنة صباحاً وصل القذافى وكل أعضاء مجلس الثورة الليبى وقدم إليهم جمال عبد الناصر مشروعه الجديد.

وتم الاتفاق عليه... واستقر الرأى على إبقائه سراً حتى لا تتسبب إذاعته فى أى إحراج للسودان الذى يستحق منا جميعاً تقدير ظروفه الخاصة.

واجتمع عبد الناصر ونميرى والقذافى مرة أخرى فى الخرطوم فى مناسبة احتفالات العيد الأول لثورة مايو فى السودان.

ودارت المناقشة أساساً على إمكانية تقدم الدول الثلاث خطوة بعد ميثاق طرابلس، وطرحت أسس الاتفاق الخاص بين مصر وليبيا للمناقشة كإطار لعمل ثلاثى موحد... ولكن ظروف السودان كانت مازالت على حالها أيام طرابلس، بل إنه وقتها كان الجيش السودانى منهمكاً فى عمليات واسعة فى الجنوب إلى جانب تحركات مريبة فى الشمال ما لبثت أن تفجرت بعد ذلك بالفتنة المشهورة فى جزيرة آبا.

وجاء التجمع العربى الواسع فى طرابلس فى 20 يونيو 1970 فى مناسبة الاحتفال بجلاء القوات الأمريكية عن قاعدة هويلس التى اختار لها القذافى بعد تحريرها اسم قاعدة عقبة بن نافع.

كانت المعارك وقتها دائرة بعنف على الجبهة المصرية.

عمليات العبور... قصفات المدفعية... الغارات على مواقع الصواريخ المصرية... غارات العمق حتى على المصانع والمدارس فى مصر.

مصر تقاتل وحدها.

وكان معمر القذافى يطرح فى الساحة العربية بحماسة وبشدة شعار قومية المعركة.