وأخيرا أعطى المشير خليفة حفتر الضوء الأخضر لقواته بحسم معركة طرابلس ، كان الأمر واضحا بإقتحام العاصمة ، ومحملا بكثير من الإشارات المهمة وعلى رأسها ضمان تأييد الجانب الأكبر من المجتمع الدولي لهذه الخطوة ، أو على الأقل حياده ، حيث لم يعد هناك أمل في التوصل الى حل للأزمة ، ولا في الخروج من المأزق ، في ظل إستمرار الوضع في طرابلس على ما هو عليه منذ إتفاق الصخيرات قبل أربع سنوات

الثلاثاء الماضي حظي السراج بإستقبال رسمي في قصر الرئاسة التونسية بقرطاج التي عادة ما يقضي جانبا طويلا من وقته في فنادق الضواحي القريبة منها ، وتحادث مطولا مع الرئيس قيس سعيّد ، تونس تبقى من الدول القليلة التي تراهن عليه وعلى حكومته ، وتستقبله وفق البروتوكول الرسمي وبعزف السلام الجمهوري وإستعراض طابور الشرف ، وخلال إقامته في العاصمة التونسية عقد السراج عددا من اللقاءات مع سفراء ومبعوثين دوليين ، إستشف منها أو بٌلّغ خلالها تلك النتيجة التي طرحها على أعضاء حكومته مساء الأربعاء وهي أن الموضوع قد إنتهى ، وأن هناك ضغطا دوليا لإنهاء الوضع الحالي لفائدة حفتر.

خلال 48 ساعة كانت هناك تحولات كبرى في المواقف الدولية : مناورات عسكرية إيطالية فرنسية قبرصية في شرق المتوسط ، قمة الإتحاد الأوروبي ترفض مذكوة الفاهم بين السراج و أردوغان حول المنطقة الإقتصادية البحرية الخالصة ، مصر تجرب إطلاق صاروخ جديد من غواصة في عرض البحر ، الولايات المتحدة وروسيا تؤكدان التنسيق في ما بينهما لحل الأزمة الليبية ، اليونان تعلن سحب إعترافها بحكومة السراج وتعترف بدلا عنها بالحكومة المؤقتة المنبثقة عن مجلس النواب الليبي ،اليونان يقرر التعاون مع قوات البحرية الليبية في غلق الممر البحري حول جزيرة كريت لمنع وصول سفن تركية محملة بالسلاح الى طرابلس ،  مجلس الشيوخ الأمريكي يعترف بإبادة الأرمن دعما لقرار مجلس النواب ، تركيا تتراجع خطوة للوراء عن تصريحات رئيسها بالإستعداد لإرسال قوات الى ليبيا.

هذه الأحداث وغيرها ، أكدت أن حكومة السراج زجت بنفسها في نفق مظلم ، عندما وضعت كل البيض في سلة أردوغان ، الأوروبيون كانوا أبرز الغاضبين بإعتبار مذكرة التفاهم الموقعة في 27 نوفمبر الماضي تستهدف عضوين من إتحادهم هما اليونان وقبرص ، الإيطاليون الذين كانوا أقرب الى حكم الميلشيات وجدوا أنفسهم في موقف محرج  دفع بهم الى التخلي عن السراج ، والأمريكان تواجه علاقاتهم بالأتراك توترا بالغا على كل الأصعدة ما جعلهم يرون في إعلان حكومة الوفاق تبعيتها لأنقرة تحديا لهم.

علينا أن ننظر الى الوضع من زاوية أخرى : ماذا لو لم ينتبه العالم الى خطورة تصرفات السراج ؟ و تدخلت تركيا مباشرة  في غرب ليبيا لدعم حكومة السراج المنهكة ؟ هذا الزاوية طرحت في عواصم غربية ، وتم التوصل من خلالها الى نتيجة واحدة وهي أن التدخل التركي سيقود حتما الى تدخل مصري في شرق البلاد لدعم الجيش الوطني والبرلمان المنتخب وحكومته ، وسيكون لذلك تأثير واضح ومباشر في دول الجوار وفي المنطقة ككل.

بعض المصادر أكدت أن القاهرة أبلغت واشنطن بأنها لن تقف مكتوفة اليدين وهي ترى أردوغان ينقل بلطجته من شمال سوريا الى غرب ليبيا ، الإتحاد الأروبي كذلك تطرق الى هذه الفرضية من خلال لقاءات قادته في بروكسيل ، والروس أنفسهم لا يخفون إستياءهم من إستمرار الأتراك في مدّ أطماعهم على حساب سيادة الدول

لم يعد خافيا أن تركيا تواجه عزلة إقليمية ، فسياسة صفر خلافات مع الجوار التي كان قد نظّر لها أحمد داوود أوغلو قبل 20 عاما ، أصبحت صفر صداقات في ظل حكم أدروغان ، كما أن آثار التعنت التركي إتسعت الى أبعد من دول الجوار ، وباتت هناك أطماع عثمانية قديمة تتجدد مستهدفة  دول المنطقة بالإعتماد على قوى الإسلام السياسي والإقليات العرقية الطورانية وبعض مراكز النفوذ المرتبطة سياسيا أو إقتصاديا بالأتراك ، وهذا الأمر أصبح مصدر قلق في الكثير من الدول ، وخاصة بالنسبة للدول الكبرى التي ترى في المد التركي نزعة إستعمارية جديدة تهدد مصالحها الإستراتيجية

لننظر قليلا الى الصورة : السراج يريد أن يسلم مفاتيح طرابلس لأردوغان ، هذا يعني أن ليبيا ستصبح تدور في فلك التوسع العثماني الجديد ، بمساحة تقارب المليوني كلم مربع ، وساحل طوله ألفا كلم ، وموقع إستراتيجي من الطراز الأول في شمال إفريقيا وجنوب المتوسط وثروات طائلة من النفط والغاز والمعادن النفيسة ، مع شعب قليل العدد ، ومناطق ساشعة شبه خالية من السكان.

لا أحد سيسمح للسراج بممارسة هذه اللعبة الخطرة التي ستضرب الأمن الإقليمي والدولي في مقتل ، والتي تمثل تحديا للمنطقة والعالم ، وخاصة الدول ذات العلاقة المباشرة بالشأن الداخلي الليبي ، أو ذات المصالح الإقتصادية في ليبيا.

ثم ماذا عن حكم الميلشيات ؟ خلال الأسابيع الماضية إكتشف العالم ما يمكن أن يحدث في دول يحكمها حشد ميلشاوي ، الصورة في العراق ولبنان كانت واضحة ، قبل ذلك كان الوضع في اليمن فاضحا لدور السلاح المنفلت عندما يكون بين أيدى مسلحين عقائديين من خارج سلطة الدولة ، الواقع الليبي لا يختلف ، فالبلاد التي تعيش على وقع الفوضى منذ تسع سنوات ، توجد بها حكومة تدار من قبل الميلشيات المسلحة والجماعات الإرهابية ، وكل حديث عن إمكانية الحل السياسي يبدو غير مجد حيث لا حرية ولا ديمقراطية ولا سيادة دولة ولا حوكمة ولا أمن ولا إستقرار ولا إنتخابات ولا سلم أهليا في ظل سلطة ميلشياوية

إن الحل في ليبيا هو إرساء مؤسسات الدولة ،ومنها القوات المسلحة وعلى رأسها الجيش الوطني الذي أثبت نجاعته في محاربة الإرهاب وبسط الأمن والإستقرار وتأمين الثروات في مواقع سيطرته وفي الإلتزام بالمواثيق والتعهدات الدولية ، وتحالفه المعلن مع قوى الإعتدال في المنطقة ، كما أكد إلتزامه بالإنتقال السياسي وكتابة الدستور وتنظيم الإنتخابات وإحترام إرادة الشعب وبإعلان المصالحة الوطنية  والتعهد بعلاقات متوازنة مع دول الجوار والعالم ، وكل ذلك جعله يحظى بإعتراف دولي واضح من خلال التعامل مع مواقفه بالكثير من التفهم والإحترام

قد تطول معركة تحرير العاصمة أياما ، ولكنها ستحقق الأهداف المرسومة لها في ظل التأييد الشعبي الجارف الذي تحظى به ، وكذلك في ظل حصول القيادة العامة على الضوء لأخضر لتنفيذ المهمة ، أما السراج فقد يواصل المكابرة قبل أن يخرج من اللعبة نهائيا ، هناك حالات سابقة سجلها التاريخ لا تختلف عن حالته ، ولكن خاتمة مساره ستحمل وصمة لا يريدها أحد وهي وصمة من رهن بلاده لأطماع الأجنبي فقط ليستمر في الحكم أو ليرضي العصابات المحيطة به