جوشوا بورغيس
في أعقاب انتفاضات "الربيع العربي" التي اجتاحت المنطقة منذ عام 2011، ظهرت المنظمات الإرهابية والمتطرفة التي تلجأ إلى استخدام العنف في أفريقيا عبر الصحراء الكبرى أكثر قوة وجرأة ومسلحة تسليحاً أفضل وتشجعت لمتابعة أهداف أوسع تهدد المصالح الأمريكية بشكل متزايد. فقد ضاعف تنظيم «القاعدة» وجماعات جهادية أخرى من جهودهم لاستغلال الفجوات الأمنية والأسلحة المنتشرة في كل مكان والفساد المستشري، مما أتاح لهم الاتجار بالسلع المحرمة وإطلاق العنان لأيديولوجيتهم الفيروسية عبر الحدود الشاسعة وغير المؤمَّنة. وقد شكلت حالة عدم الاستقرار الناشئة نقاطاً لشن الهجمات على المصالح الأمريكية في المنطقة وما وراءها. ومالي هي أفضل دولة يمكن أن تمثل نموذجاً لمستوى التعقيد الذي يكتنف هذه المشاكل - فضلاً عن الجهود الأمريكية والدولية لحلها.
مالي باعتبارها ناقوس الخطر
كانت مالي تعتبر منذ فترة طويلة منارة للديمقراطية في منطقة الساحل (على الأقل بالمقارنة مع جيرانها)، لكنها تعاني الآن من معظم العلل والمشاكل المذكورة أعلاه. ورغم عقود من المساعدات الأجنبية التي بلغت مليارات الدولارات، إلا أن مالي لا تزال في قاع "مؤشر الفقر البشري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي". وبالإضافة إلى ذلك، فإن التمرد المستعر الذي يضرب البلاد منذ فترة طويلة على يد الأقلية من الطوارق شبه الرحل في الشمال نجم بشكل متناقض عن التنمية هناك وأعاقها. كما أن القتال منع الولايات المتحدة من تقديم مساعدات أمنية متسقة بسبب سياسة وزارة الخارجية القائمة على عدم التدخل في هذا النوع من النزاعات الداخلية.
وفي 2012، وفي أعقاب الحالة الفوضوية التي خلقها الانقلاب العسكري في العاصمة باماكو وتدفق الأسلحة والمقاتلين من ذوي الخبرة من ليبيا، انضم تحالف غير مترابط من الجماعات الإرهابية إلى الطوارق الانفصاليين لإخراج قوات الحكومة المالية من النصف الشمالي من البلاد وهي منطقة في حجم ولاية تكساس. وقد فشل المجتمع الدولي في التنبؤ بهذه الأحداث وجاء رد فعله بطيئاً، الأمر الذي أسفر عن خلق مئات الآلاف من المشردين وتحديات إنسانية مذهلة. وفي ماراثون اللوم الذي تلا ذلك، لم تُبل الولايات المتحدة بلاءً حسناً.
وعلى وجه الخصوص، أشار النقاد إلى إخفاقات النهج "الحكومي الشامل" الذي اتبعته واشنطن تجاه التنمية وبناء القدرات الأمنية. ورغم مضي عقد من الزمان تقريباً على أعمال مكافحة الإرهاب والمساعدات الأمنية الأمريكية، إلا أن القوات الحكومية المالية كانت عاجزة أساساً أمام تمرد مفكك. وقد تمكنت القوات الدولية بقيادة فرنسية من طرد المتطرفين في النهاية في وقت مبكر من هذا العام، كما اختارت البلاد رئيساً جديداً من خلال إجراء انتخابات ديمقراطية حصلت على ثناء دولي في آب/أغسطس. بيد أن مبعوث الأمم المتحدة الخاص لمنطقة الساحل رومانو برودي، حذر في أيلول/سبتمبر من أن "مستوى الهشاشة لا يزال مرتفعاً في المنطقة، وأن تركيز المجتمع الدولي بدأ يتراجع".
واليوم، لا تزال مالي مضطربة حيث تقع عمليات تفجير بزرع القنابل على جوانب الطرق وتُشن هجمات انتحارية وتنتشر أعمال السلب والنهب بمعدلات مزعجة حتى بعد أن تولت "بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي" مسؤولياتها عن حفظ الأمن في تموز/يوليو. وقد بذلت باماكو بعض الجهود لمواجهة الأنشطة المتطرفة والإجرامية من خلال تحسين الحوكمة وتوصيل المساعدات. بيد أن التقدم قد أُعيق بسبب الفساد وسوء الإدارة داخل الحكومة المالية وكذلك الارتباط غير المنظم من جانب الولايات المتحدة وغيرها من الشركاء الأجانب.
وخلال الأسابيع الأخيرة، وقعت تطورات أكثر إزعاجاً مع إعلان "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" التابعة لجماعة الطوارق المتمردة عن تعليقها الأحادي لاتفاق السلام الذي توسطت فيه أطراف إقليمية مع باماكو. وقد جاء ذلك بعد مرور شهر واحد فقط من إعلان "وكالة أنباء نواكشوط الموريتانية" عن اندماج جماعتين متطرفتين في منطقة الصحراء لتشكيل منظمة إرهابية جديدة تعرف باسم "لواء المرابطين"، يتمثل هدفها في توحيد المسلمين "من النيل إلى المحيط الأطلسي تحت راية سلفية".
ورغم أن هذه الأنباء ليست مفاجئة بالكلية، إلا أن هذه التطورات هي سبب للخوف يتجاوز كثيراً حدود مالي المفككة. فهي تُمثل انتكاسة لجهود الحكومة المنتخبة ديمقراطياً للتواصل مع الماليين الشماليين الساخطين. كما أنها تُضيف إلى الأدلة المتنامية على أن التطرف العنيف ينتشر إلى الجنوب من المغرب إلى الصحراء، حيث تعمل جماعات منتسبة لـ تنظيم «القاعدة» وعناصر إجرامية على بناء تحالفات في جميع أنحاء المنطقة.
علاج أم مادة سامة؟
في مطلع هذا العام، وفي محاولة تستحق الإشادة لكنها لا تزال وليدة من أجل توفير إطار عمل أكثر استدامة للمساعدات الدولية في المنطقة، نشرت الأمم المتحدة "استراتيجيتها المتكاملة لمنطقة الساحل"، التي تهدف إلى تحسين "السلام والأمن والحوكمة". كما عقدت "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والاتحاد الأفريقي" مؤتمرات مؤخراً تركز على موضوعات مماثلة. وفي الشهر الماضي، قابلت ممثلة الولايات المتحدة الدائمة لدى الأمم المتحدة، سامانثا باور، العديد من الزعماء الوطنيين على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة المساعدات التي تزيد قيمتها عن 700 مليون دولار والتي أرسلتها واشنطن إلى المنطقة خلال السنوات الأخيرة.
وبالإضافة إلى المساعدات الإنسانية والتنموية إلى الشركاء في منطقة الصحراء الكبرى، تموِّل الولايات المتحدة برنامج مساعدات متعدد السنوات يُعرف باسم "الشراكة المعنية بمكافحة الإرهاب عبر الصحراء الكبرى"، وهي مجموعة مبادرات لوزارة الخارجية الأمريكية تهدف إلى مواجهة الفكر المتطرف العنيف وبناء قدرات أمن إقليمية. ومنذ بداية "الشراكة المعنية بمكافحة الإرهاب عبر الصحراء الكبرى" في عام 2005، سعت هذه إلى إكمال برامج أمريكية وأفريقية أخرى من خلال مجموعة من الحزم المرتبطة بالدبلوماسية والتنمية والأمن، بعضها حققت نجاحات منفصلة (على سبيل المثال، مناورات عسكرية متعددة الجنسيات وعمليات استخباراتية لمكافحة التطرف ومساعدات طبية إنسانية). وللأسف، فإن التعاون فيما بين الوكالات لم يكن بنفس القوة التي كانت متصورة في البداية. وفي كانون الثاني/يناير من هذا العام، وصفت صحيفة الغارديان "الجهود الأمريكية لمكافحة التحدي الإسلامي المتنامي" بأنها "غير ناجحة وفي بعض الأحيان فوضوية".
ومثل هذه التعليقات تذكرنا بتقرير "مكتب مساءلة الحكومة" حول "الشراكة المعنية بمكافحة الإرهاب عبر الصحراء الكبرى" الذي تم تقديمه إلى "لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب" الأمريكي في عام 2008. فقد انتقد ذلك التقرير فشل الحكومة في وضع خطة شاملة ومتكاملة لـ "الشراكة المعنية بمكافحة الإرهاب عبر الصحراء الكبرى"، حيث ذكر أن "قياس التقدم تجاه تحقيق أهداف «الشراكة المعنية بمكافحة الإرهاب عبر الصحراء الكبرى» كان محدوداً". وربما كان الأمر الأكثر إزعاجاً هو الانتقاد ضيق الأفق والتشاحن بين الوزارات. وقد أشار التقرير إلى عدم قدرة وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين على الاتفاق على تسلسل القيادة والمسؤولية، مشيراً إلى أن مثل ذلك الاختلاف "أعاق بعض أنشطة «الشراكة المعنية بمكافحة الإرهاب عبر الصحراء الكبرى»".
وصفات سياسية
في الأسبوع الأخير من تشرين الأول/أكتوبر، سوف تعقد واشنطن مؤتمرها السنوي لـ "الشراكة المعنية بمكافحة الإرهاب عبر الصحراء الكبرى"، تجمع فيه اللاعبين الأساسيين من وزارات الخارجية والدفاع والخزانة و "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" لتنسيق المبادرات المختلفة للشراكة. ومع ذلك، فخلال السنوات الأخيرة، غالباً ما فشل المؤتمر في تحقيق نتائج ملموسة، حيث كان يمثل بصفة أساسية منتدى للمناقشات والتنسيق مع تعاون أو توجيه محدود على المستوى الاستراتيجي.
وفي سبيل تعزيز قوة الدفع الإيجابية المحدودة في مالي وعبر الصحراء الكبرى، ينبغي على واشنطن أن تضمن أن تُكمل برامجها بعضها البعض، مع تقسيم واضح للعمل وتسلسل القيادة. ويبدو ذلك غير محتمل ما لم يعيّن الرئيس أوباما مبعوثاً خاصاً لمنطقة الصحراء الكبرى يمتلك صلاحية التوسط في الخلافات التي تنشأ بين الوكالات ويشرف على وضع استراتيجية محدَّثة ومتكاملة على غرار "الشراكة المعنية بمكافحة الإرهاب عبر الصحراء الكبرى".
والطريقة الأخرى لتحسين احتمالات النجاح هي ضمان تكامل البرامج الأمريكية وتنسيقها مع البرامج الدولية والإقليمية. ولا يمكن التوصل إلى أي حل بدون دعم فرنسا والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. والجزائر هي لاعب رئيسي على وجه الخصوص - ورغم تحفظها العنيد على مدار سنوات إلا أن الحكومة الجزائرية مركزية في مكافحة التهديد الذي يشكله تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، والذي يمكن القول إنه يملك القوة العسكرية الأكثر مقدرة وخبرة غرب مصر. ومع مشاركة الجزائر، فإن استراتيجية التعاون الأمني الإقليمي الجديد سيكون أمامها فرصة أفضل لتحقيق النجاح. وأخيراً، فإن جهود الولايات المتحدة لتحسين الأمن والحوكمة يرجح أن تزدهر إذا كانت تلك الأهداف مترابطة عضوياً، حيث إن كليهما من الأسس الضرورية للاستقرار.
هناك حكمة أفريقية تقول "إذا أردت أن تسير بسرعة، فاذهب منفرداً. وإذا كنت تريد أن تذهب بعيداً، فاذهب مع غيرك". وعند وضع مسار جديد، يجب على واشنطن أن تأخذ في اعتبارها هذه الحكمة وأن تواصل تركيزها على ما وراء الأفق.
العقيد جوشوا بورغيس من القوات الجوية الأمريكية، هو زميل زائر للشؤون العسكرية في معهد واشنطن. الاستنتاجات والآراء الواردة في هذه المقالة هي آراء الكاتب، ولا تعكس الموقف الرسمي لحكومة الولايات المتحدة أو وزارة الدفاع أو القوات الجوية الأمريكية أو الجامعة الجوية.