هل كانت العلاقة الجزائرية المغربية على ما يرام قبل القرار الجزائري الأخير القاضي بقطع العلاقة الدبلوماسية بين البلدين؟ بالطبع لم تكن على ما يرام. وإنّ أقصى درجات القطيعة بين بلدين جارين هو إغلاق الحدود البرية، وما تبقى هو مجرد تفاصيل.
في الصورة شخصيات جزائرية ومغربية بوجدة المغربية (من ضمنهم الهواري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة)
في غمار الحرب على فرنسا
نستفيد من تاريخ البلدين، أن استقلال المغرب (مارس 1956) صبّ في مصلحة جبهة التحرير وجناحها العسكري، جيش التحرير الوطني، حيث أصبح المغرب منذ لحظة استقلاله يمثل الجبهة الخلفية الغربية لحرب التحرير الجزائرية إلى جانب تونس وليبيا شرقا. عند استقلال المغرب وتونس كان قد مضى على حرب التحرير الجزائرية عام وثلاثة أشهر فقط، وظلّت وجدة وعدد من المدن المغربية، من شرق المملكة إلى غربها، تحتضن الثوار الجزائريين، طيلة ستة أعوام، وتوفّر لهم إمكانية النشاط لوجستيا وإعلاميا واستخباراتيا...
المخابرات الجزائرية تأسست في المغرب عام 1956، ومقرها الأول كان بوجدة، بحي بودير. وظل المغرب الفضاء المثالي لكل أنشطة جبهة التحرير. على المستوى الإعلامي كانت مدينة الناظور هي المدينة التي احتضنت الإذاعة التي لعبت دورا متفردا في التعبئة والدعاية والتواصل. وكان مسعود زوغار أحد أبرز رجال المخابرات الجزائريين ينشط بالمغرب حتى أنه أصبح معروفا تحت لقب رشيد كازا (نسبة إلى الدار البيضاء). وفضلا عن دعم الراحل محمد الخامس للثورة التحريرية فقد التحم المغاربة مع أشقائهم الجزائريين في معركة التحرير من الدعم الشعبي إلى الالتحاق بجبهات القتال.
في الصورة الملك الحسن الثاني والرئيس بن بلا
تحت راية الاستقلال
ومن المفارقات، لم يمرْ على استقلال الجزائر سوى عام وثلاثة أشهر حتى انقلب الإخوة إلى أعداء، واندلعت بينهم، في شهر أكتوبر 1963، حربٌ لم تتوقف إلا بعد تدخل الجامعة العربية والوحدة الأفريقية. كل طرف يلقي باللائمة على الآخر. وكانت الجاليتان في المغرب كما في الجزائر هي من دفعت الثمن.
بعد انقلاب بومدين على بن بلا صيف 1965، تحسّنت العلاقة بين البلدين، وعاد إليها بعض الدفء؛ لكن بعد عقد من الزمن أصبحت أكثر سوءا بسبب نزاع الصحراء 1975، وأسوأ حدث مازالت الذاكرة المغربية الجزائرية تستعيده بكثير من الألم والحسرة، ليس الخلاف بين الدولتين ولا حتى معارك القتال في مغالا، بل الترحيل التعسفي الذي راح ضحيته آلاف المغاربة وروابطهم الرحمية والتصاهرية مع الجزائريين. وتعطّل التواصل بين البلدين حتى نهاية الحرب الباردة. في سياق التحولات التي صاحبت انهيار الاتحاد السوفييتي، حدث انفراج بين البلدين في عهد الراحلين الملك الحسن الثاني والرئيس الشادلي بن جديد؛ وانفتحت الحدود البرية والتأم شمل البُلدان الخمسة في مراكش 1989 حيث تم الإعلان عن تأسيس اتحاد المغرب العربي، الذي تعطل بعد خمسة أعوام من تأسيسه إثر العملية الإرهابية التي استهدفت مراكش 24 أغسطس 1994، وكانت سببا في تعطل العلاقة بين البلدين بعد الاتهامات المغربية للجزائر. أغلقت الجزائر من جانب واحد حدودها البرية مع المغرب منذ عام 1994، ورغم كل المساعي المغربية لم تستجب الجزائر.
لم تتوقف الحرب بشكلها الضحل بين الحكومات المتعاقبة: استفزازات واتهامات من هنا وهناك تترجم جفافا في الخيال وانحطاطا في الأخلاق. هذه الحرب الضحلة كانت تجد صدى في نفوس المرضى من إعلاميين ومثقفين وكانت تجد إدانة من الشعبين وغالبية المثقفين والسياسيين والحقوقيين.
لكن لماذا هذا الوضع الضحل؟ لا حرب ولا سلم؟
يخطئ من (كان) ومازال يعتقد أن الأزمة بين الدولتين كانت ناجمة عن مشاكل بينهما، بل تلك الأزمة كانت ناجمة عن مشاكل بنيوية يعيشها كل بلد على حدة: مشاكل متعددة الأبعاد، فشلت الدولتان في معالجتها جراء قصورهما السياسي، وجراء فشلهما في الاندماج في عصرهما بكل ما يقتضيه هذا الاندماج من وعي وعلم ومهارة في التدبير السياسي الحديث للمجال الترابي والتنموي والهوياتي.
يكفي أن نقف على حجم الفساد في البلدين، وعلى تخلف الطبقتين السياسيتين، وعلى التدني الأخلاقي والمعرفي في الخطاب الإعلامي، وعلى تضخم الأنا، ومظاهر سلبية أخرى.. لنكتشف حقيقة الأزمة. وإن البلد الذي سيحيط وعيا بأزمته الداخلية ويعدُّ لها العدة التنموية والحقوقية، ويبني خطابا سياسيا وإعلاميا خاليا من مشاعر الكراهية ومن الأكاذيب هو من ينتصر في الأخير على أزمته ويكون قدوة ومثالا للآخر، بل سيكون قاطرة الاتحاد المغاربي.
في الصورة السلطان مولاي عبد الرحمان والأمير عبد القادر
حرب الذاكرات: من المستفيد؟
بين البلدين ترابط عميق منذ الأزمنة القديمة، وظلت الهجرة بين البلدين حيوية ولاسيما في الظروف الصعبة. العودة إلى الماضي أمر مهم لاستنباط الدروس وليس بهدف العيش مع الأسلاف والاصطفاف مع أحدهم ضد الآخر، أو جرّ خلافاتهم إلى الحاضر بهدف تسميم حياة الشعوب. فأن نعود إلى الماضي فمن أجل فهمه واستيعابه، وإعطائه الفرصة لكي يتنفس ثم نعمل على تفكيكه وإبطال مفعوله الأيديولوجي القاتل، وأن نجعل من تلك الأحداث مادة علمية وفنّية للإمتاع والمؤانسة وبث ثقافة التضامن والتعاون وليس لنشر ثقافة الكراهية والعنصرية.
في الوقت الذي يدّعي كل طرف العظمة، يلعب أيضا دور الضحية. ولا يفتأ حراس الذاكرة في البلدين ينشرون سردياتهم المتأزمة، ويجترون أسطوانتهم المشروخة دون كلل أو ملل. هؤلاء في الجزائر يتهمون المغرب بخيانة يوغرطة والأمير عبد القادر والاعتداء على جزائر بن بلا في حرب الرمال، ومؤخرا اتهموه بدعم حركة الماك. وأولئك في المغرب يصرون أن جزء من الجزائر هو أراض مغربية، وأن الجزائر اصطنعت تنظيما لتنغيص أمنهم، ولا يفتأون يرددون أنهم كانوا سندا وحضنا للجزائريين في حربهم ضد فرنسا.
لقد اتضح أن الحل ليس في المزايدات وفي الخطابات الشعبوية، وأن لا جدوى من هذه السردية التاريخية الانتقائية لأسباب الخلاف، وأن هذه المماحكات الإعلامية تخفي عجزا بنيويا لدى صنف من المتطفلين على السياسة في البلدين، وتترجم قصورهم في تمثل حركة التاريخ. واتضح أن العظمة ليست في كيل التهم للطرف الآخر، بل في العكوف على إصلاح الشأن الداخلي.
لقد كان الخلاف قاتلا بين يوغرطة وبوكوس، كما كان الخلاف مأساويا بين الأمير عبد القادر ومولاي عبد الرحمان مثلا، وهو خلاف عائلي حول السلطة بين يوغرطة ووالد زوجته بوكوس، أو حول طريقة معالجة الوضع الذي ترتب عن الاحتلال الفرنسي بين الأمير عبد القادر وابن عمه السلطان المغربي؛ ومن الخطأ أن نقحم الشعوب في خلاف سياسي من المفترض أن يخضع للمعالجة العلمية حتى يكون مصدر إلهام في مد جسور التواصل وتصحيح التمثلات القاصرة أو الخاطئة. الخلاف ظاهرة طبيعية حتى بين أبناء البلد الواحد، في المغرب كما في الجزائر نجمت عنه أوضاع تراجيدية في حقب عديدة.
من المسؤول عن الانشقاقات وتبعاتها الدموية التي عاشتها الحركة الوطنية في المغرب؟ هل هي الجزائر؟ ومن المسؤول عن الانشقاقات في الحركة الوطنية وتبعاتها الدموية في الجزائر؟ هل هو المغرب؟ يبدو أن هناك خللا في الإدراك.
الذاكرة المغربية الجزائرية متشعبة ومعقدة، متأزمة وشقية، وتكاد تنفجر من لوعة الأشواق. كان الجزائريون والمغاربة شركاء في الحكم هنا في المغرب أو هناك في الجزائر. كان للجزائريين مثلا حضور قوي في الحياة السياسية المغربية، وكان للمغاربة حضور في الحياة السياسية الجزائرية، يقول المفكر المغاربي حسن أوريد: أن من رسم العلم المغربي ووضع قواعد البروتكول المخزني، هو قدور بن غربيط، الجزائري، وأن صاحب فكرة عيد العرش، جزائري هو السيد ميسة، ومَن كان مديرا للكتابة الشخصية لمحمد الخامس الفقيه المعمري، وأول وزير للقصور الملكية والتشريفات، ومؤسس نواة أكبر حزب إسلامي هو الدكتور الخطيب، وأن مؤرخ المملكة هوعبد الوهاب بن منصور.. ومن جهة أخرى فإن أول رئيس للجزائر المستقلة المرحوم أحمد بن بلا من أصول مغربية، كان محاطا بمستشارين من المغرب، منهم محمد الطاهري وعبد السلام الجبلي؛ والعربي بن مهيدي ترجع أصوله إلى منطقة سوس. أما من عاشوا في المغرب من الجزائريين قبل الاستقلال، منهم هواري بومدين، وعبد العزيز بوتفليقة، والعربي بلخير، وقاصدي مرباح، واليزيد الزرهوني، وشكيب خليل..".
ما العمل؟
إن هذا الوضع الشاذ هو أقرب إلى اللغز لمن يجهل المعطيات والسياقات التاريخية، ويجهل العوائق الأيديولوجية والسيكولوجية التي حالت دون تقارب الدولتين. وحتى ننجح في فك طلاسم هذا الوضع الشاذ يجب أن نتوغل عميقا في نفسية ووجدان هذين الشعبين، وحتى نفهم دوافع وخلفيات هذا الجفاء يجب أن نفهم مشاعر الحب بين الشعبين، وهي مشاعر محفوفة بالخوف أيضا. يحتاج الأمر إلى ورشات بحثية متعددة التخصصات العلمية. كيف نجم هذا الحب ونجم معه الشعور بالخوف؟
في خطابه الأخير بمناسبة عيد العرش (30 يوليو المنصرم)، دعا الملك محمد السادس الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى العمل سويا على “تطوير العلاقات الأخوية”، مؤكدا أن الوضع الحالي للعلاقات مع الجزائر “ليس في مصلحة شعبي البلدين، كما أنه غير مقبول من طرف العديد من الدول”.
وسبق للملك محمد السادس أن اقترح أواخر العام 2018 إحداث آلية للحوار الثنائي، بينما ردت الجزائر بشكل غير مباشر بالدعوة إلى اجتماع لوزراء خارجية اتحاد المغرب العربي (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا) الذي أضحى مجمدا عمليا منذ أكثر من ربع قرن.
الخطاب الملكي اتسم بأقصى درجات التودد، متحررا من عبارات اللوم والعتاب، مخاطبا الوجدان والمنطق، ساعيا إلى تبديد المخاوف واسترجاع الثقة بين البلدين، داعيا إلى تجاوز العوائق الأيديولوجية والنفسية التي تشكلت على مدى العقود السابقة والانخراط في بناء علاقة جديدة أساسها التعاون والعمل المشترك.
كان الخطاب مفعما بمشاعر الود، كما لو أنه يريد أن يثير الانتباه إلى أمر جلل يجب أن تتضافر الجهود من أجل إبطال حدوثه، وأن الجفاء الذي طبع العلاقة بين البلدين بلغ منتهاه، وقد آن أن ينخرط الكل في حملة إسعاف لإنقاذ ما تبقى من العلاقة، لإنقاذ نبل المعنى الذي يجب أن تنطوي عليه علاقة شعبين شقيقين وجارين.
الخطاب الملكي في عهد الملك محمد السادس، إزاء الجزائر، ظل يحرص على كسب ثقة الجزائريين وكسب وُدّهم، بينما صاحب القرار في الجزائر لم يرد على النداءات المغربية بأي إجراء عملي، كما لو أن الجزائر لم تعرف كيف تتقدم خطوة في اتجاه المغرب، ولم تقدر. لا أظن أن الجزائر كانت تفتقد إلى الرغبة أو إلى الإرادة، بل إلى القدرة والمهارة، وربما الشجاعة.
لكن الخطاب الملكي الأخير نجح في رج جدار الجفاء بين المغرب والجزائر، ودفع حالة الجفاء إلى الخروج من آخر تخندقاتها. وكان الرد الجزائري عمليا هذه المرة، وكان لصاحب القرار من الشجاعة أن يرد بشكل صريح وأن يقرر قطع العلاقة كليا. كان القرار الجزائري القاضي بقطع العلاقة مع المغرب يشبه اندفاع رجل غاضب يصر أن يلقي بالمسؤولية كلها على أخيه الذي لم يكن نداؤه مقنعا بما فيه الكفاية، أو بعبارة أخرى، أن النداء المغربي الودي كان مقنعا في إثارة غضب أخيه الجزائري. ويبدو أن الجزائر والمغرب كلاهما في حاجة إلى اعتراف الآخر.
ولأنّ التواصل البري ظل مقطوعا طيلة عقود الاستقلال، فإنّ القرار الجزائري الأخير، في رأيي، هو أفضل القرارات التي ستقلب العلاقة من النقيض إلى النقيض، من وضعية التلعثم التي ظل يعاني منها الشعبان، إلى وضعيةٍ بالغة الوضوح، من منطلق أن هذه الوضعية الواضحة ستجبر كلا البلدين على الانغماس أكثر في شؤونهما الداخلية واختبار قدرتهما على مجابهة التحديات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها كل بلد على حدة.
لقد ظل الشعبان يعيشان على أمل كاذب في عودة الانفراج بين دولتيهما، وبلا شك فإن العيش على الآمال الكاذبة ليس وراءه سوى الخسران المبين. والآن، وقد عبّرت الجزائر بشكل رسمي عن هذه القطيعة، ووضعت حدا لتلك الآمال الكاذبة، يمكن القول أن مسيرة التغيير الإيجابي في البلدين قد بدأت خطوتها الأولى.
مع هذه القطيعة، التي ستكون نعمة على مستقبل الشعبين، سيجد أصحاب القرار أنفسهما عاريين من كل قوة كاذبة إلا من تلك القوة المتبصرة التي راكمها كل طرف طيلة عقود الاستقلال، والتي ستصب في نهاية المطاف في ما ينفع الشعبين، أما الزبد فسيذهب جفاء ويبقى ما يفضي إلى علاقة جزائرية مغربية خلاقة.
لا شك أننا نفتقر إلى ثقافة وتقاليد الاعتراف. كيف ومتى يعترف كل طرف بوجود الآخر وبأهميته وبسيادته؟ كلنا نؤمن أن العلاقة ستعود حتما، وستعود على أسس صلبة. لكن كيف ستعود؟
أعود هنا إلى حالة الشعور بالخوف الذي استفحل بين بلدين يكن كلاهما الحب للآخر، وينتظر منه الاعتراف ليس بالحب، بل بالاحترام. وفي اعتقادي، كان الخوف ناجما عن السياق التاريخي الاستثنائي الذي تحقق فيه استقلال البلدين. لم تكن النخب السياسية والفكرية في البلدين على إلمام بالسياسة في معناها الحديث، ولم تكن قد استوعبت مفهوم الدولة في سياقه التاريخي الحديث. تلك النخب وهي تدخل غمار الاستقلال لم تكن قد تحررت من التمثلات القديمة للدولة، كما لم تكن تتوفر لا على المهارة السياسية (Le savoir- faire politique) ولا على الكفاءات والإمكانات التي تسمح لها بتدبير الحكم وفق ما تقتضيه روح العصر. كانت تلك النخب تعاني من الجهل، وبالتالي من الخوف: الخوف من الفشل على الصعيد الداخلي، والخوف من الجيران. كان كل طرف ينتظر احترام الطرف الآخر، والاحترام يترجم الاعتراف.
كان المغرب يعتبر موريتانيا إقليمه الذي ضاع منه، وظل حريصا على استرجاع الصحراء من الاحتلال الإسباني، وظل ذلك الحرص مشوبا بالخوف والارتباك. بينما النخبة الحاكمة في الجزائر ظلت تعيش على وقع الخوف جراء الصراع الذي حدث بين جيش الحدود والمعارضين، وتضاعف خوفها تحت ضغط المطالبة المغربية باستعادة بعض الأقاليم التي ضمتها فرنسا إلى الجزائر.
كلا النخبتين، في المغرب كما في الجزائر، لم تكن تمتلك المهارة السياسية والقانونية للدفاع عن أطروحتها، فضلا عن ضعف الثقة وهشاشة الجبهة الداخلية في كلا الدولتين، وتدخّلُ أطراف خارجية لم يكن هدفها سوى تحقيق المزيد من المغانم من إطالة الجفاء بين البلدين. وهذا كله ساهم في تفاقم العلاقة البينية بين الدولتين، والوضع يشبه خلاف بين أخوين حول تركة لم يحسنا التصرف فيها.
من الموضوعية أن نعترف بأن في البلدين أصوات حكيمة أبقت على الأزمة في حدودها الدنيا، وبالموازاة أن نعترف أن المسؤولية مشتركة، ففي كلا البلدين هناك تيار ذو نزعة توسعية لم يستوعب بعد أن السيطرة على الشعب والتوسع بمظهره التعسفي البدائي قد عفا عنه الزمن، وهذه الثقافة التوسعية بمظهرها البدائي تتجلى في الخطاب الإعلامي كما في الخطاب السياسي في الوسط الحزبي بكلا البلدين.
شخصيا، لدي قصص وتجارب مع الحدود البرية. أنفقت عقدين من الزمن أو أكثر في النضال من أجل عودة العلاقات المغربية الجزائرية، عبر الكتابة الصحفية والندوات والتصريحات والمشاركة في وقفات بالشريط الحدودي حتى أنني شعرت بالإرهاق وبعدم الجدوى. وأدركت أن الخلل في طبقتنا السياسية ونخبنا الفكرية وضحالة الخطاب الإعلامي. بل دعوت البلدين أن يغلقا حتى الجو، مادامت المعابر البرية مغلقة.
من جهتي، لم أنزعج من القرار الجزائري القاضي بالقطيعة الدبلوماسية. لقد شعرت بالارتياح بهذا القرار، من منطلق أن الشيء إذا وصل حده انقلب إلى ضده. هذه القطيعة مهما كانت قاسية على البعض، ومهما كانت انعكاساتها سلبية على الدولتين، فإنها ستضع كلا الطرفين على محك اختبار حقيقي، وستكون مدخلا حقيقيا إلى طرح الأسئلة النوعية والبحث عن أنجع الطرق المؤدية إلى التفاهم.
الأمر ليس سهلا، بل هناك خوف من أن تنفلت الأمور إلى المواجهة العسكرية، لكن وبناء على معرفتي بالبلدين، ومع أني أعرف مكامن النقصان لدى السياستين أؤمن بقدرة البلدين على تحويل هذه الأزمة إلى فرصة لإصلاح البيت الداخلي، وما تبقى سيكون تحصيل حاصل.
الأمل معقود على القوى الحية في البلدين، وهذه القوى تحتاج إلى الكثير من التبصر والشجاعة إلى إعادة النظر في كثير من القضايا التي تعاطى معها أسلافنا بداية الاستقلال. فمن الجهل أن نبقى أسرى أطروحات خضعت سياقاتها التاريخية إلى التغيير. وباختصار شديد لن يتجاوز البلدان حالة الجفاء إلا بالخروج من البراديغما القديمة التي مازالت تهيمن على النسق التربوي والخطاب الإعلامي إلى البراديغما الحديثة التي لا يمكن بدونها الاندماج في روح العصر.
من زاوية أخرى
هل العلاقة المغربية الجزائرية هي وحدها تعيش أزمة؟ لماذا لم تتطور العلاقة الجزائرية التونسية؟ والعلاقة التونسية الليبية؟ والعلاقة الجزائرية الليبية؟ والعلاقة المغربية الموريتانية؟ والعلاقة الموريتانية الجزائرية؟ هذه العلاقات كلها بين بلدان جارة، وهي علاقات ظلت تراوح مكانها، باستثناء الحدود البرية المفتوحة.
العلاقة المغربية الجزائرية، ليست الوحيدة المتأزمة، فكل العلاقات الأخرى تعيش أزمة، الفرق فقط في أن أزمة العلاقة المغربية الجزائرية أصبحت واضحة، وأن كل العلاقات المغاربية البينية تحتاج إلى تحليل ومعالجة وتصحيح.
الحدود المغاربية البرية كلها ليست على أحسن حال، كلها تعاني من الجفاف التنموي والانفلات الأمني (التهريب والإرهاب والهجرة غير النظامية). إنها من أغبى الحدود في العالم.
على أي حال، لا أنتظر عودة العلاقة المغربية الجزائرية في المستقبل القريب. وما دام كل طرف يلقي باللائمة على الآخر، ويعتبر نفسه قوة إقليمية، سنرى في قادم الأيام كيف سيتعاطى الطرفان مع جيرانهم الآخرين. كيف ستعالج الجزائر مسألة حدودها البرية مع تونس وليبيا وموريتانيا؟ وكيف سيعالج المغرب مسالة حدوده مع موريتانيا؟ من هنا سيبدأ الاختبار الحقيقي.