هل تحول شهر رمضان المبارك من شهر للمحبة والصبر والهدوء النفسي والاجتماعي إلى شهر تجتاحه العصبية والمزاجية والتقاعس عن العمل والواجب وقلة الصبر إلى درجة الغضب العارم الذي يخلف وراءه أثاراً سلبية وتداعيات خطيرة على صاحبه وعلى الأشخاص المحيطين فيه؟

سؤال بات يطرح كثيراً في رمضان بسبب انتشار حالات العصبية والمزاجية عند الكثيرين ما دفع البعض إلى تسميته شهر العصبية والمزاجية بدلا من أن يكون شهراً للمحبة والخير والعطاء ومساعدة وتقديم العون للآخرين. اللهم إني صائم... وغيرها من العبارات التي تتردد طيلة هذا الشهر الكريم على مسامعنا، فإذا كنت من القوم الذين غضب الله عليهم ستقودك قدماك لتركب طاكسي يقوده سائق صائم، أو تذهب إلى موظف حكومي في رمضان لإجراء معاملتك، وعندها سترى بعينك العذاب بألوانه... فمن موظف كسول إلى بائع خمول إلى رب أسرة مدمن على الغضب والامتعاض والانفعال اللا مبرر بوجه أفراد أسرته، إلى سائق حافلة أوصله الصيام وفي أول رحلة صباحية إلى حدود القرف من الركاب الذين يحلم برميهم من الشباك، أو إلى سائق تاكسي يطمح لبلع ما في جيبنا، أو إلى ممرضة ترشق مرضاها بنظرات حادة تنكأ جراحهم وأخرى تتجاهل نداءات مرضاها المتكررة تارة وتماطل في تحقيقها تارة حتى إشعار أخر... هو مشهد قديم جديد، تعايشنا معه في كل عام من هذا الشهر الفضيل، وهو عصبية بعض الصائمين، وكأنهم يحمّلون المواطنين عناء صيامهم. وتتقاطع ذرائع وحجج العصبية والمزاجية وقلة الصبر والتقاعس عن العمل عند التلطي خلف شهر الصوم المبارك.‏

امتناع قسري:

تستمر أجواء المشاحنات بين الناس من شروق الشمس حتى مغيبها منذ اليوم الأول من رمضان، فكثيرون تتقلب أمزجتهم لأسباب عديدة، ما ينعكس سلباً على أدائهم الوظيفي وعلى علاقاتهم الاجتماعية أيضاً، ولا تقتصر العصبية بالنسبة لبعض الصائمين على الخلافات والمشاحنات الاجتماعية، فهي قد تمتد لتشمل سلوكيات أخرى كعدم احترامهم لقواعد السير واستخدام السرعة الزائدة... وحول أسباب تزايد عصبية المغاربة في رمضان، يعتقد ''مراد'' مهندس، أن نسبة المدخنين عالية جداً، وابتعادهم قسراً عن التدخين يزيد من العصبية، إضافة إلى أن  منغصات العيش المتزايدة يوماً بعد يوم كلها تثير الأعصاب، إلا أنه ينبغي للصائم أن يحقق معاني صومه، ومنها الصبر وعدم الغضب خلال هذا الشهر... ويرى ''عبد العظيم'' موظف، أن طبيعة شهر رمضان المبارك ودرجات الحرارة المرتفعة التي ترافقه تعمل على زيادة العصبية لديه، إضافة إلى أن الازدحام المروري وطبيعة العمل الشاق الذي يقوم به، وامتناعه عن التدخين كل ذلك يجعل منه إنساناً مختلفاً كثيراً عما هو عليه في الحقيقة... أما ''مروة'' ربة منزل،  فترى أن سبب تغير المزاج برمضان ''هو الامتناع عن كل شيء كان مباحاً في الأيام العادية، فالسبب الرئيسي بتغيير المزاج هو كثرة التفكير، وانتظار الوقت، ودائماً الانتظار تنتج عنه العصبية، فكيف إذا كان الانتظار هو للطعام والشراب... 

وتعتقد ''سميحة'' موظفة، أن المدخن ومدمن شرب القهوة إنسان ''مسلوب الإرادة'' خصوصاً إذا ادعى عدم القدرة على التخلص من تلك العادة، فتتحول مشاعر الخشوع والحب عند الصائمين إلى عصبية وسلوك عدواني، وإذا انتقلت هذه العصبية إلى منزل الزوجية تشتعل الخلافات لأتفه الأسباب، لذا فإن مقولة ''أنت صائم إذا أنت عصبي'' خاطئة، فهي تربط بين الصوم والسلوك الذي يعبر عن ضعف الإرادة، ذلك أن الصوم يعبر عن قوة الإرادة وليس الضعف.''عبد الكريم'' تاجر، قال بدوره تعليقاً على سلوكيات رمضان أنه تفادياً للمشاكل مع زبائنه يقوم بإغلاق محله قبل الإفطار، حيث يستقبل زبائنه بعد الإفطار، وهو بذلك حسب تعبيره يتجنب كره زبائنه ويتجنب إفساد صيامه.‏ من جانبه قال ''المختار'' إن زوجته وأولاده لا يجرؤون على الحديث معه قبل الإفطار، حتى أن زوجته تتفادى أن تطلب منه شيئاً يخصها أو يخص الأولاد الذين تطلب منهم إحضار حاجيات المنزل من خضار وما إلى ذلك.‏ بدورها أوضحت ''بشرى'' موظفة، أن سبب عصبيتها في رمضان يعود إلى واجباتها المنزلية الكثيرة التي تكبر في رمضان نظراً لضيق الوقت، حيث تعود إلى المنزل بعد ساعات من العمل المضني في الوظيفة لتجد المنزل في حالة من الفوضى الكبيرة من قبل أولادها، وبالتالي عليها تنظيفه ومسحه وترتيبه ثم البدء بعد ذلك بتحضير طعام الإفطار، وهذا ما يجعلها عصبية وانفعالية إلى حد ما.‏

أعراض الحرمان:

يوضح الدكتور ''ل.محمد'' أخصائي تغذية، أن المخ يعتمد أساسياً على السكر‏، حيث إن كل كيلو واحد يستهلك‏ 25 في المائة‏ من سكر الجسم‏، كما أن المخ يكون أكثر عضو يتأثر نتيجة قلة السكر، لذلك عندما يقل السكر في الجسم تزداد عصبية الشخص‏... ‏وأضاف الدكتور ''أن العصبية الزائدة لبعض الأشخاص في رمضان تكون لسببين،‏ الأول أن قلة الأكل تجعل الشخص عصبياً‏‏ لأن العامل النفسي يؤثر على المخ‏،‏ مشيراً إلى أن نسبة السكر تقل في الدم ونسبة المنبهات العصبية تزداد عند الشخص خلال الصيام‏، والثاني أن الأشخاص المدخنين يكونون أكثر عصبية أثناء الصيام في شهر رمضان. فعندما ينقطع المدمن عن التدخين لبضع ساعات يبدأ يعاني من أعراض الحرمان من النيكوتين الذي اعتادت عليه خلايا دماغه، فيشعر بالعصبية وسرعة الغضب والتململ والصداع، وضعف التركيز وانخفاض المزاج، والقلق وضعف الذاكرة واضطراب النوم، لذا هنا ننصح المواطن ألا يسهر كثيراً، ولا يستمر بتناول الأكل والشرب، لأن ذلك يفقد الجسم تركيزه ويصبح بالتالي عصبي المزاج، فالجسم بحاجة إلى ساعات كافية من النوم كي يستعيد نشاطه، وإذا لم يأخذ كفايته من النوم ستكون ساعات العمل بالنسبة له شاقة نتيجة نقص النوم وليس نتيجة للصيام.

عبادة تجريدية:

وحول رأي الدين في انتشار العصبية كظاهرة في رمضان، بين لنا الدكتور ''اسماعيل.ج'' أستاذ الشريعة الإسلامية، أن حقيقة الأمر أن رمضان هو شهر العبادة، وشهر الهدوء النفسي والطمأنينة، وأكد لنا أنه إذا فهمت العبادة فهماً حقيقياً، فلابد أن تؤكد الغاية من الصوم التي جُعلت من أجلها هذه العبادة، وبّين أن هذه العبادة جُعلت لإحداث جانب من التوازن النفسي عند الإنسان، فهي تقوي الضمير، وتزيد من قدرة الصائم على تحمل الشدائد والمصاعب، منوهاً أن الصوم عبادة رائعة، فالصوم ليس للصوم وإنما هو جهد يبذله الإنسان ليصل إلى السماحة في أخلاقه حيث يصبح هيناًً وميسراً ثم يصل إلى الإحساس بالآخرين، وهنا نصل إلى العبادة التجريدية. فليس مقبولاً ولا معقولاً ولا مرتبطاً بالصيام أن يكون الإنسان سيئ الأخلاق وعصبياً، فكل النصوص تأتي بعكس ذلك، فكلمة إني صائم لا تعني أن أردّ السيئة بالسيئة، بل أن أحسن السيئة بالحسنة، وما نراه اليوم من تعصيب ونفور عند الصائمين يدل على أن الصوم صار تقليداً وليس تهذيباًً تربوياًً بحكمة العبادة، لأن العبادات ليست لأجل العبادات، فالله تعالى لا يحتاج إلى صيامنا وإطاعتنا وإنما هي تكريس لحياة الإنسان نحو البناء والمشاركة والإيثار وصنع المبادرات الكريمة في المجتمع والوطن، فالله غني عن العالمين وهذه العبادات للخلق وليست لله، فالهدف من الصوم وسيلة لتقوية الإيمان، ثم تحقيق الوقاية على كل المستويات: الفرد، والنفس، والقلب، وكذلك المجتمع، و إذا كانت الوسيلة الإيمانية صحيحة، فسوف يتحقق الهدف الصحيح،  في حين إذا كان إيمان الفرد ظاهرياً وليس حقيقياً فبذلك لا يمكن تحقيق الهدف من الصوم.

ضبط للنفس:

إذا نظرنا للعادات نرى أن من الشعوب من يأكل وجبة ومنهم ثلاث وجبات، ومنهم الذي يأكل حتى يشبع، ومنهم يأكل ولا يشبع، وبالتالي القضية هي قضية عادة، وكما اعتدنا على العادة السيئة، فالأصل أن نعتاد على العادة الحسنة، فإذا كانت هناك مجموعة عادات ألفناها، واعتدنا عليها، تظهر هنا عظمة الصوم، فهو لا يجعل لحياة الإنسان رتابة معينة حسب رأي أستاذة علم الاجتماع  الدكتورة ''ق.م.ف'' مضيفة: ''إن مسألة الانفعالية التي نراها في شهر رمضان سائدة نتيجة سببين الأول العامل النفسي المتوارث بيننا، حيث يعتقد الجميع أن الصائم لابد أن يصاب بنوبات العصبية والتوتر، وهو ما يجعل كثيرين ينساقون خلف هذا الإحساس حتى وإن كانت حالتهم النفسية جيدة، إذا هي حالة وهمية أكثر من أن تكون طبيعية، والسبب الثاني لعصبية الصائم هي حالة الإدمان على بعض المنبهات ''كالقهوة والشاي والدخان...''. فالصيام ليس صيام المعدة فقط إنما هو حالة تنمّي عند الصائم استطاعة ضبط النفس، لذا مثلما نحن قادرون على ضبط أنفسنا دون طعام وشراب يجب أن نملك القدرة على ضبط أنفسنا، فالابتسامة في وجه المسلم صدقة، إذاً المغزى  الحقيقي للصوم هو أنه مجاهدة للنفس، والامتناع عن السلوكيات السيئة، وليس الطعام والشراب فقط.