منذ القديم، ومنذ وعت عيونُنا متابعة المرئية، وكلما أطل علينا وجهٌ نسائي جديد عبر شاشاتها، إلّا وكأنه حدث ٌ جلل أصاب هذه البلاد، فيُبرِز المجتمع أنيابه الشرسة لمحاربة هذا الوجه، والذي كانت المرئية حينها، تعده إضافة، في حين كانوا يعدونه عيباً ويرددون حولها ما حرِّم الله من كلمات.

كانت المرئية حينها تستجدي أية إضافة نسائية لكادرها، ليكتمل نصاب أعمالها الفنية في تلك العقود، لكن المجتمع كان يسير بعكس ذلك تماماً . . حدث هذا منذ أكثر من جيل، وتكرر لعقود، ولا زال يحدث إلى يومنا هذا (وكم هو غريب) .. أمّا في المستقبل وعلى ضوء ما نراه الآن (وبحسرة أكتُبُ هذا) ربما كانت أنياب القادم أشد فتكاً وأكثرِ بشاعة. 

لكن هذا لم يمنع الممثلة الليبية من التحدي، والوقوف في وجه هذا التخلف، ومن الاستمرار في ممارسةِ رسالتها، رغم التحديات وصعوبتها، ولا منعها من مواصلة العطاء في المجال الذي منحها الله الموهبة فيه، وقد نجح أغلبهن في تجاوز هذا التخلف، وكتبن أسمائهن بالبنط العريض كفنانات من طراز رفيع على المستويين العربي والمحلي، ولسنا هنا بمعرض ذكرهن جميعاً، لكن من جيل الرائدات، أذكر (سعاد الحداد .. حميده الخوجة .. زهرة مصباح) وممن أكملن بعدهن باقي الخطوات الصعبة (لطفية إبراهيم .. خدوجة صبري .. كريمان جبر .. سعاد خليل)، لقد واجهن المحنة وتجاوزنها إلى التفوق، وحصاد الجوائز والتكريمات محلياً وعربياً .. أيضاً جاءت بعد هؤلاء الرائدات (بسمة الأطرش .. مهيبة نجيب .. امل نوري .. زبيدة قاسم ) فكل هؤلاء الرائعات اللائي قدمن لنا فنّاً رفيعاً يستحققن مناً أوسمة الشجاعة على ما تحمَّلنَه من ظلم وقسوة مجتمعاتهن، في سبيل إيصال رسالتهن الفنية الانسانية السامية، في مجال التمثيل هذا الأفق الحضاري الذي يقاس من خلاله رقي الشعوب ورفعتها واحقيتها بالتواجد على ركح التاريخ، وكم نلن جوائز تقديرية تؤكد تفوقهن ورقي قدراتهن الفنية.

لكن .. هل توقفت هذه المواجهة غير الحضارية، رغم تجاوزنا زمنياً لغبار تلك العقود ووقوفنا، في قلب الحداثة، وولوجنا خضم الألفية الثالثة؟ .  لا لم يحدث شيء من ذلك..

تقَدَّمَ العالم بتلك العقود، تقدمت تقنياتُه صرنا بعصر آخَرَ،، وبدلاً من أن يضعنا هذا ضمن مسار التاريخ، وجدنا أنفسنا، وبواسطة هذه التقنيات، نقصي أنفسنا بعيدا، وأبعد مما كنّا عليه في زمن الرائدات، أم أن كانت الأميّة هي السائد العامّ، والمتعلِّم هو الواقف في الركن الضعيف، فوظفنا كل وسائل هذا العصر لغير ما صُنِعت له، واستعملناها لنقيض ما وُضِعت من أجله، وخاصة فيما تعلق بهذا المجال، حدث هذا في كل الأعوام الماضية، والتي شهدت العديد من الإضافات الإبداعية في مجال التمثيل النسائي بكل تخصصاته (وأتجاوز هنا ذكر الأسماء تجنباً لنسيان مبدعة تستحق التنويه بها أسوة بالأخريات)، وللمهتم أن يراجع ماكُتب حولهن بمواقع التواصل الاجتماعي ... وكم اشتدت محاربة فئة كبيرة من مجتمعنا لهذه الأسماء الابداعية حينها، ولكن، ووفقاً لسنن الحياة التي لا تنكفئ ولا تنكص على الأعقاب، ولا تركن أيضاً إلى الانكماش والجمود والتحجر، ها هن، وقد رَمَيْنَ بالتخلف عرض الحائط، يواصلن تأكيد هويتهن الانسانية والحضارية بمواصلتهن ممارسة هوايتهن الفنية الابداعية، يقودهن حس المسؤولية تجاه بلدهن ومجتمعهن، والالتزام بالمشاركة في نهوضهما الحضاري، ولقد شاهدنا أغلب هذه الوجوه يقمن بأدوارهن المتميزة خلال عديد الأعمال الفنية هذا العام والتي تُعْرَض بالموسم الرمضاني.

 لن أطيل الحديث، وسأشير في الختام إلى مقال نُشِرَ بموقع ( قناة 218 ) للمذيع محمد الطيب، وكان دافعاً لكتابة هذا المقال، حيث يتصدى الطيب للحرب الشعواء على وجه نسائي جديد طالعنا من خلال المسلسل الشبابي الناجح ( ولاد ناس ) وهو وجه الممثلة الصاعدة ( شهد علي )، ومثلما في كل حروبنا المخزية لم توفر هذه الحرب أحداً، وإن استهدفت الفنانة الصاعدة ( شهد علي ) باشد قذائفها تدميراً . و هنا بعض مما كتب (الطيب) تحت عنوان ( فوبيا الممثلات الليبيات ) ... ( هنا نطرح السؤال البسيط " ما المشكلة ؟ " ما المشكلة في ظهور هذه الممثلة الصاعدة ؟ .. إن كانت المشكلة في اختيار الملابس، فيمكن البحث عن المختص بالملابس في المسلسل وإدراج اسمه وانتقاده، وإن كانت المشكلة في المكياج وما يتبعه من مستلزمات التجميل، فيمكن للنقد أن يكون حول مشكلة عدم وجود متخصصين في المكياج في فريق المسلسل ومسلسلات أخرى، ولكن " هل المشكلة في ظهورها أصلاً في المسلسل وفوبيا الفنانات الليبيات ؟ . فهذه ليست بمشكلة. 

وأضاف الطيب : - ( رغم النقد الجارح والقذف أحياناً كثيرة، إلّا أن المرأة الليبية تثبت دائماً أنها الأقوى، ففي كل عام نجدهن كوجوه جديدة في عالم الفن، وربما كان دعم أسرهن سبباً مهماً، بمنح الثقة لهن . أما عن المعيار الذي صارت تشكله منصات التواصل الاجتماعي، وهذا هو الأهم، فقد كتب ( الطيب ) ... عدد التعليقات غير المنصفة في العالم الافتراضي ليس بمعيار، حيث يختبئ وراءها كل من هب ودب، حتى من لا يجرؤ على النطق والنقد في العالم الحقيقي، فهو موجود أيضاً بتعليق أو بوجه ضاحك لا يُسمن ولا يغني من جوع . 

أخيراً .. إلى كل من شارك في هذه الهجمة الشعواء والشرسة على مواقع التواصل الاجتماعي : - أنت لا تدرك أنك تكتب تاريخك بيدك، وتسجل مستوى وعيك على صفحات الويب ( أنت لا تدرك أن للحبر عمر الدهر ) وسيأتي يوم يقرأ فيه أحفادك، ما كان جدهم يخطه بيده من إسفاف وسب وشتم، وقذف محصنات ورمي بالغيب، حتى أنه لم يكن موضوعياً في نقده، ولا حضارياً فيما كتب ... وليدركوا كم كنت متخلفاً عن التوقيت الذي كانت تشير إليه ساعتك على هاتف الآيفون، حين كتبت وبيدك أنت أنك لم تكن ابناً شرعياً لعصرك الذي تنتمي إليه زوراً دون أن تكون منه.