تنظر إيران بعين الحذر الى الوضع في ليبيا ، فيما تدعو مراكز الدراسات التابعة لنظام الملالي الى التخندق ضمن محور تركيا وقطر منافستيها اللدودتين في سوريا ، فسيطرة الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر على العاصمة طرابلس يعتبر لدى الإيرانيين انتصارا لمحور الاعتدال العربي وخاصة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة اللتين واجهتا مشروعها التوسعي في اليمن.

ورغم أن الدراسات التي أعدها عدد من المراكز الإيرانية المتخصصة قدمت قراءة عقلانية لأسباب الصراع ودوافع المعركة التي يخوضها الجيش ، وخاصة في مواجهة الإرهاب وتغول قوى الإسلام السياسي المرفوضة من عموم الشعب ، إلا أنها توصلت الى أن انتصار الجنرال حفتر لا يخدم مصالح إيران وإنما قد يجتث دورها المتنامي في شمال إفريقيا ودول الساحل الصحراء.

وفي هذا السياق ، نشر مركز أبرار للدراسات والأبحاث في إيران ، دراسة بعنوان « ما هو موقف إيران من الصراع الدائر في ليبيا » ترجمه موقع « جاده إيران » الى اللغة العربية ومما جاء فيها أن « الساحة الليبية تشهد منذ الإطاحة بالعقيد معمر القذافي العديد من التطورات والأحداث المتلاحقة. وعلى الرغم من أن الجمهورية الاسلامية لم يكن لها دور فعال ومؤثر علي الساحة الليبية، إلا أن دخول العديد من القوى الإقليمية و الدولية على المشهد الليبي وخاصة القوى المعادية للجمهورية الاسلامية المتمثلة في المملكة العربية السعودية والتي يمكن من خلال دعمها لقوات الجنرال حفتر ان تبسط نفودها على منطقة الشمال الأفريقي، من اجل ذلك ولاستبيان الموقف عن كثب عقد معهد طهران للدراسات المعاصرة في الخليج الفارسي و شمال أفريقيا ورشة عمل تحت عنوان (التطورات الليبية و تبعاتها الإقليمية علي جمهورية إيران الاسلامية ) وحضر اللقاء مجموعة من الخبراء و الباحثين في هذا الشأن و ناقش الاجتماع عده محاور وهي  متابعة التطورات الليبية والقوى الفاعلة في المشهد الليبي ،ورصد وتقييم أهداف ومصالح الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية على الساحة الليبية في ظل ما تشهده من تطورات ، والعواقب المحتملة على جمهورية إيران الإسلامية والمنطقة ورفع توصيات لصناع السياسات الإيرانية».

ويبدو من خلال عنوان ورشة العمل أن طهران مهتمة وبشكل جدي بالتطورات في الساحة الليبية وما يمكن أن ينجر عن ذلك من انعكاسات على نظام الملالي الذي لم يخف تطلعاته بعد ما سمي بثورات الربيع العربي للعب دور محوري في شمال أفريقيا ، لكن ثورة 30 يونيو 2013 قطعت عليه طريق التحالف مع جماعة الإخوان التي تبدو أكثر تيارات الإسلام السياسي السني تماهيا مع دولة الإمام الفقيه ، وفي 1 مايو 2018 قامت السلطات المغربية بقطع علاقاتها مع إيران بسبب اتهامات تفيد تسهيل عمليات إرسال الأسلحة والدعم العسكري من جانب طهران لجبهة "البوليساريو" الإنفصالية ، كما أن الأوضاع الداخلية والتحولات الإقليمية عرقلت المشروع الإيراني في دول المغرب العربي ومنها ليبيا بشكل واضح رغم محاولات عدة للتواصل مع الميلشيات في طرابلس ومصراتة.

وجاء في  الدراسة  التي أعدها مركز أبرار ،أنه و«منذ قيام الثورة الليبية و والاطاحة بالقذافي شهدت ليبيا العديد من الصراعات و الانقسامات فعلي الرغم من انتخاب الشعب لممثلي المؤتمر الوطني العام  في اول تجربة ديمقراطية لهم، إلا أن هذه التجربة لم تتكلل بالنجاح، فدخول الإسلاميين في المجال العام وفرض آرائهم و توجهاتهم علي المجتمع آثار حفيظة الليبيين و حدث اول انقلاب فاشل على السلطة الشرعية المنتخبة، حيث سعى الكونغرس الامريكي مع بعض القوات شبه العسكرية الى عزل رئيس الوزراء» حيث « أدى انعدام الأمن والاستقرار في ليبيا و بروز  التيار الإسلامي فی الحیاة السياسية الي دخول ليبيا في صراع جديد بين التيار الليبرالي والاسلامي، فشن الجنرال خليفة حفتر اولى معاركه ضد التيار الإسلامي و أطلق عليها اسم معركة الكرامة مستعينا في ذلك بالجيش الليبي السابق، نتيجة لما سبق خسر  التيار الاسلامي في الانتخابات البرلمانية التالية الا انهم لم يقبلوا بهذه الخسارة ودارت معارك بينهم وبين قوات الجنرال حفتر » وذلك في إشارة الى منظومة فجر ليبيا الإرهابية التي شكلها الإخوان للانقلاب على نتائج الانتخابات البرلمانية التي انتظمت في مايو 2014 وأفرزت هزيمة قوى الإسلام السياسي.

وتتابع الدراسة أن هذه المعارك بين التيارين الليبرالي والاسلامي مهدت الطريق لظهور التيارات التكفيرية في البلاد مما رفع الأزمة الليبية الي مستوي جديد. في ذلك الوقت كان يسيطر كل من الاطراف المتصارعة علي جزء محدد من  ليبيا، وأثار وجود الجماعات السلفية في ليبيا القلق لدى الدول الغربية خشية عودة الاسلام المتطرف مرة اخرى مما دفع لعقد مباحثات مباشرة بين الكونغرس الأمريكي  و مجلس النواب الوطني وعلى أثر هذه المفاوضات تم تعيين فايز السراج رئيسا للمجلس الرئاسي الليبي ( في إشارة الى اتفاق الصخيرات  في ديسمبر 2016) » لكن « هذا الوضع لم يرض بعض الاطراف الاقليمية كون فايز السراج محسوب على تيار الاخوان المسلمين وتجدد الصراع مرة اخرى بين قوات حفتر المدعوم من الامارات ومصر وفرنسا وروسيا وفايز السراج المدعوم من تركيا و بعض الدول الغربية ، نتج عن هذا الصراع الاف القتلى و انعدام الأمن و الاستقرار» وفق نص الدراسة.

وفق المركز الإيراني فإنه « بالإضافة الي العوامل الداخلية التي ساهمت في التطورات الحالية، لا يمكن إغفال العوامل الخارجية في تلك التطورات. فالصراع في ليبيا يبدو أنه صراع ليبي ليبي إلا أن الأمر ليس كذلك، فكلا الفريقين المتقاتلين يحظى بدعم إقليمي ودولي وجميعهم يعتقدون أن لهم الحق في رسم وتحديد مستقبل ليبيا لما دفعوه من أموال ودعم عسكري ونظرا لدخول المملكة العربية السعودية وأمريكا في تطورات المشهد الليبي، دفع هذا جمهورية إيران الاسلامية لدراسة وتقييم المشهد الليبي، ويعتقد الكثيرون أنه يمكن إدراج المملكة العربية السعودية في فئة الخاسرين في ليبيا نظرا لدعمه الجنرال حفتر»

وهنا كعادته ، يحاول العقل السياسي الإيراني المرتبطة بعقيدة النظام ربط المسائل في ما بينها وفق تصوراته الخاصة ، حيث تنعكس مساعيه الدائمة للتوسع على حساب الدول الأخرى على قراءته للعلاقات بين بقية الدول ، وهنا  تزعم الدراسة أن  بين أسباب الدعم السعودي للجنرال حفتر ، السيطرة علي طرابلس و إرساء نظام عسكري ليبي موال للمملكة ،و تطبيق التجربة المصرية في ليبيا ومنع الإخوان المسلمين من الوصول الي السلطة في البلاد ، مشيرة الى  إن التطورات الحالية تعزز موقع السعودية في شمال أفريقيا، بعد هزائمها المتلاحقة في سوريا واليمن والعراق ، وفق نص الدراسة . إضافة الى إن خوف المملكة العربية السعودية من انتشار الموجة الثانية من الربيع العربي دفعها إلى محاربته خارج حدودها، ومنع انشاء أنظمة برلمانية في العالم العربي ،كما أن دعم حفتر يعني إضعاف محور السراج والإخوان (قطر وتركيا) بينما دعم السلفيين الليبيين هو هدف آخر للمملكة العربية السعودية.

وحول العواقب المحتملة للتطورات الليبية علي المنطقة وخاصة ايران ، قالت الدراسة إن التطورات الليبية لها أثار خطيرة على الأمن ومعادلات القوة في غرب أسيا، كما أن دخول لاعبين في الأزمة الليبية (مصر، تركيا، السعودية وروسيا ) الى جانب القوى الداخلية الليبية يمكن أن يغير وجهة المنطقة ومعادلات القوة في أفريقيا، كما أن نجاح مشروع السعودية  في ليبيا سيقضي علي قوة إيران في شمال أفريقيا ، لكن الساحة الليبية لا تقتصر فقط على السعودية والإمارات، فمحور تركيا و قطر حاضر هناك بقوة، وهذا الوضع يضع ايران امام سيناريوين، أحدهما  سيء والآخر أسوأ وهذا ما يدفع إيران لتفضيل محور تركيا وقطر على الخيار الآخر.

وقد أوصى أصحاب الدراسة بضرورة  دعم المسار الدولي فی لیبیا و المتمثل فی حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا حيث من شأن ذلك أن يقوي دور إيران في ليبيا و يضعف دور المملكة العربية السعودية الداعمة للجنرال حفتر، و ظهور إيران كدولة تعمل في إطار الشرعية الدولية ،و متابعة الوضع الميداني الليبي عن كثب ووضع السيناريوهات المحتملة لما ستؤول إليه الأمور في البلاد، و المرونة في التعامل مع كل المستجدات ،و رصد و متابعة القوى الاقليمية والدولية الفاعلة في ليبيا ومن خلال هذا الرصد ، يمكن  معرفة ما اذا سيكون لإيران موطئ قدم في ليبيا ،وايجاد وطرح سردية أن المملكة العربية السعودية هي المانع الرئيسي أمام وقف القتال من خلال دعم الجنرال حفتر، كذلك التأكيد من خلال ذات السردية على ما وصفته الدراسة ب« الدور المخرب للأمارات والسعودية في دمار ليبيا واليمن والعراق وسوريا بسبب تدخلاتهما والتجهيز لمناخ عربي ودولي مؤيد للرواية الإيرانية من خلال النخب العربية».

تقارير واستنتاجات معهد طهران للدراسات الدولية المعاصرة تصب في ذات ما تول إليه مركز أبرار ، من ضرورة دعم التدخل التركي القطري وحكومة السراج لقطع الطريق أمام دول الاعتدال العربي ومنها المملكة العربية السعودية التي قال المعهد في إحدى دراساته أنها قد تتحول الى قوة فاعلة في القارة الأفريقية بما يتناقض مع مصالح إيران

ويشير المراقبون الى أن نظام الملالي اختار أن يناقض بتوجهاته هذه المرة ، توجهات حلفائه في موسكو ودمشق ، وأن يقف في ذات المحور الذي يواجهه في الأراضي السورية بما في ذلك الميلشيات المتطرفة والجماعات الإرهابية الموالية لأنقرة ، وهو ما يعني أن عداءه للسعودية ومن ورائها محور الاعتدال العربي يغطي على عدائه مواقفه الأخرى الناتجة عن الصراع داخل سوريا، فإيران لا تزال تتمتع بعلاقات قوية مع تركيا ، وتحالف معلن مع قطر، كما أنها لا تزال تراهن على قوى الإسلام السياسي السني وخاصة جماعة الإخوان التي كان لها معها تاريخ حافل بالولاءات والتحالفات.