يعتمد الاقتصاد الليبي بشكل شبه كامل على الدخل العائد من أنتاج وتصدير النفط، الذي يشكل أكثر من 95 % من الناتج الوطني السنوي للبلاد، على الرغم مما تمتلكه ليبيا من موارد أخرى اعتمادا على التاريخ والجغرافيا، حيث تتميز ليبيا بموقع جغرافي يجعلها بمثابة حلقة الوصل بين الشمال والجنوب، إضافة لما تحتويه من آثار تعود لمعظم الحضارات الكبرى التي شهدتها البشرية، ما يجعلها قبلة للسواح والزوار من مختلف أنحاء العالم.
وبالنظر لما يمثله النفط من أساس رئيسي في الناتج المحلي فقد اكتسى بذلك أهمية قصوى في توجيه الاقتصاد بل أصبح أنتاج النفط وتصديره والأسعار العالمية للخام أهم عوامل تقييم الاقتصاد الليبي، وأبرز مؤشرات ما تستقبله خزانة الدولة من إيرادات من العملة الأجنبية، حيثيشكل النفط نحو 94% من عائدات ليبيا من النقد الأجنبي و60% من العائدات الحكومية و30% من الناتج المحلي الإجمالي.
أكبر احتياطي نفطي أفريقي
ويقدر إنتاج ليبيا من النفط قبل أحداث فبراير 2011 من 1.6 إلى 1.8 مليون برميل يوميا، وكان من المخطط أن ترتفع هذه القيمة لتصل إلى قرابة 3 مليون برميل يوميا خلال خمس سنوات من 2009-2014، إلا أن ما شهدته البلاد من تغيرات جذرية جعل المعدل ينقلب ويأخذ الانتاج في التناقص، بل والتوقف في عدة مرات، الأمر الذي صرف التفكير بشكل نهائي عن التمدد ليتحول السعي في الوصول إلى المعدلات السابقة، على الرغم من أن ليبيا تمتلك أكبر احتياطي في قارة افريقيا والتاسع على مستوى دول العالم، والمقدر بما يزيد عن 40 مليار برميل من الاحتياطيات المؤكدة، علاوة على ما ينتظر أن يكتشف من خلال نتائج عمليات التنقيب التي توقفت هي الأخرى نتيجة الوضع الأمني والفوضى العارمة التي سيطرت على البلاد.
وقد شهد العام الحالي 2018 تفاقم الأوضاع في مختلف مجالات الحياة، وأزداد الوضع الاقتصادي انهيارا بشكل استثنائي لم يسبق أن شهدته البلاد منذ اكتشاف النفط فيها، وبلغ أثره أساسيات الحياة وظروف المواطن المعيشية اليومية، إذ وصل انهيار الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية أرقاما قياسية، لم تسجل من قبل على الإطلاق، حيث وصل الدولار الأمريكي حافة العشرة دنانير، في الوقت الذي بقي مستوى الأجور والمرتبات على ما هو عليه، بل أن المصارف عجزت عن تسييل النقود للمواطنين الذين كانوا ينتظمون في طوابير طويلة من أجل الحصول على النذر اليسير من حقوقهم، وأصبح الليبيون يتلقون الإعانات من قبل المنظمات الإنسانية الدولية التي تقدم مساعداتها في منظر أشبه ما يكون بتوزيع "الصدقات" في إحدى الدول الفقيرة، في الوقت الذي يحرص العالم على ضرورة استمرار تدفق النفط الليبي للخارج، لتحقق ليبيا بذلك معادلة تحمل في تفاصيلها مفارقة أشبه ما تكون بالأحجية، حيث يبلغ النفط المصدر من ليبيا ما يتجاوز المليون برميل يوميا، وتتجاوز في بعض الأحيان أسعار النفط سقف الـ 80 دولار أي ما يعني أن المبلغ الذي يفترض أن يورد من عمليات البيع في حدود الـ 100 مليون دولار يوميا، في الوقت الذي لا تزيد الأمور إلا ضيقا وتتأزم الظروف أكثر فأكثر.
الفشل في تفسير فشل الاقتصاد
ولا يتفق الخبراء على تفسير موحد لأسباب هذا الفشل في الاستفادة من إيرادات النفط، إلا أن معظم الأراء تتجه إلى أن الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد منذ ما يزيد عن سبع سنوات، وما ترتب على ذلك من نفوذ كبير للمجموعات المسلحة التي تفرض سطوتها على الحكومات لاسيما في غرب البلاد حيث تستقر حكومة الوفاق المعترف بها دوليا والتي يتم تحت إدارتها جمع الإيرادات والإشراف على الإنفاق العام الذي يذهب بالكامل تقريبًا لتغطية الرواتب الحكومية، ودعم منتجات أساسية من بينها الوقود المستورد، وكذلك الإنفاق على الواردات.
ويرى البنك الدولي وفقا لتقرير أصدره لتقييم الوضع الاقتصادي في ليبيا، أن التحسن الاقتصادي في ليبيا يتطلب قرارًا سياسيًا، موضحًا أن الاقتصاد الكلي غير مستقر، ويعاني من تضخم قياسي غير مسبوق ساهم في زيادة معدلات الفقر وعجز مالي مزدوج لا يمكن تحمل استمراره، بسبب ارتفاع المصروفات في الموازنة.
لكن مع افتراض إيجاد حل للصراع السياسي وضمان استقرار الاقتصاد الكلي والشروع في برنامج شامل لإعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية، يتوقع البنك الدولي أن يقفز إنتاج النفط إلى أقصى إمكاناته بواقع 1.5 مليون برميل يوميًا بحلول عام 2020، وهو الوقت اللازم لإصلاح البنية التحتية لصناعة النفط التي تضررت بشكل كبير جراء الحروب والصراعات المسلحة التي تتكرر حول مواقع الحقول والموانيء النفطية.
الفساد والسياسة أهم أسباب الفشل
ويؤكد التقرير أنه على الرغم من العائدات النفطية فإن المالية العامة ظلت تحت الضغط بسبب زيادة وجمود المصروفات الجارية بفعل دوافع سياسية، وتضاعفت إيرادات الموازنة لثلاثة أمثالها عام 2017، وبنسبة تصل إلى 31.8% من إجمالي الناتج المحلى الإجمالي، مقارنة بعام 2016، غير أن هذه الإيرادات لم تكن تكفي حتى لتغطية أجور الموظفين العموميين.
ويخلص التقرير إلى أن الموازنة العامة للبلاد تعثرت وحققت عجز كبير خلال الفترة من 2013 وحتى 2017 يقدر بما يزيد عن 80 مليار دينار ليبي، بينما قفز الدين المحلي حتى وصل إلى 59 مليار دينار عام 2017، ارتفاعًا من مليار دينار في 2010، فيما وصل العجز في ميزان الحساب الجاري إلى 9.4% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي.
ويشير التقرير إلى أن مشاكل الاقتصاد الليبي ليست بسبب العوامل السياسية فقط بل أن لتفشي الفساد في القطاعات المختلفة دورا لا يقل أهمية وتأثيرا عن العامل السياسي، حيث كشفت الأجهزة الرقتبية على الرغم من الصعوبات التي تواجه سبل عملها العديد من التجاوزات التي يتورط فيها مسؤولون من مختلف الحكومات وفي مختلف القطاعات، فليبيا لا تزال تقبع ضمن قائمة الـ20 دولة الأكثر فسادًا في العالم خلال الأعوام السبعة الماضية، إذ تسبب الفساد في استنزاف أموال الدولة وعدم استفادة مواطنيها من أي تحسن في أسعار النفط أو زيادة الإنتاج.
ويعزي مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية بديوان المحاسبة هذا التصنيف وارتفاع معدلات الفساد إلى الانقسام السياسي وازدواجية السلطات والصراعات التي تمر بها البلاد، بالإضافة إلى عدم تمكن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بالقيام بالمهام المكلفة بها، علاوة على عدم التقيد بالنظم واللوائح والقوانين المالية.
ومن بين العوامل المؤثرة في ضعف الاقتصاد الليبي أيضا تفشي ظاهرة التهريب، أو ما يعرف باقتصاد الظل، وهو ما يحجب الاقتصاد الحقيقي في البلاد في ظل تضخم عمليات التهريب بأنواعها سواء تهريب البشر أو الوقود والسلع المدعمة وكذلك تهريب المخدرات، ولكن ما يجعل حل هذه المشكلة صعب هو أن الاقتصاد غير الرسمي في ليبيا يقع تحت سيطرة الجماعات المسلحة التي تملك القوة الحقيقية على الأرض منذ 2011، وقدرت المؤسسة الوطنية للنفط الخسائر جراء عمليات التهريب المنظم للوقود تصل إلى 750 مليون دولار سنويًا، إذ تهرب سفن ليبية الديزل إلى سفن دولية في البحر، بينما يتم تهريب البنزين عبر حدود ليبيا البرية.
ولعل ما صعب التوصل لمعالجات لمثل هذه المشاكل هو الانقسام السياسي، وغياب التنسيق بين الجهات والأجهزة المتناظرة، وهو ما يجعل الجميع مسؤولون عما تعانيه البلاد من أزمة يعتبرها الخبراء هي السوأ التي عرفتها ليبيا.
وبعد تواصل الفشل وخروج المواطنين في مظاهرات حاشدة في عدة مدن ليبية للمطالبة بضرورة معالجة الوضع الاقتصادي المتردي، قدمت حكومة الوفاق بالتعاون مع البعثة الأممية للدعم في ليبيا ما اسمته بالإصلاحات الاقتصادية، تم في يونيو الماضي بتونس اجتماعا اقتصاديا بحضور دولي رعته السفارة الأمريكية لدى ليبيا التي تباشر مهامها من العاصمة التونسية.
إصلاحات أم مسكنات؟
واتفق المشاركون في اجتماع تونس، على حزمة من الإصلاحات الاقتصادية، تتضمن زيادة مخصصات الأسر السنوية من الصرف الأجنبي من 500 دولار إلى ألف دولار، وإعادة تفعيل قرار دفع علاوة الأسرة والأبناء، ورفع الدعم عن المحروقات، وتغيير سعر الصرف الأجنبي المتاح للاستيراد والعلاج والذي سيكون متاحا للجميع، وبعض المعالجات الأخرى.
وتم الاتفاق بناء على اجتماع تونس على العمل من خلال ثلاثة مسارات، وهي معالجة سعر صرف الدينار الليبي من خلال فرض رسوم على الاعتمادات والتحويلات، ومعالجة ملف الدعم، بالإضافة إلى آلية التعويض للتخفيف من الانعكاسات المباشرة وآثار قرارات الإصلاح الاقتصادي على المواطن، على أن يخصص الفائض من دخل الرسوم لاستخدامه في صرف علاوة الأسرة، ومعالجة المختنقات في البنية التحتية وصيانة المستشفيات والمدارس.
ويرى الخبير الاقتصادي الليبي سليمان الشحومي، أن أهم تغير اقتصادي خلال عام 2018 هو عودة الانتاج النفطي وتحسن مستوياته بشكل كبير، ما ساعد بشكل حاسم على اجراء اصلاح لسعر الصرف في نهاية العام وأظهر ذلك تحسن في أزمة السيولة والمستوي العام للأسعار بشكل ملحوظ، ولكنها تبقى اجراءات أحادية، ويحتاج الأمر لاستكمال باقي الإصلاحات وخصوصا المتعلقة بالجوانب المالية وخصوصا إصلاح نظام الدعم ونظام الإنفاق العام وإشراك البلديات .
ومهما كانت النتائج المباشرة لهذه الاصلاحات الاقتصادية تبدو قد أتت أكلها بتقليص سعر الدولار أمام الدينار الليبي، في السوق الموازي إلا أنها لم تتطرق لمعالجة جذور المشكلة، بل أنها لم تتجاوز كونها تدوير للأموال الموجودة خارج المنظومة المصرفية، التي فقدت ثقة المواطن والتجار على حد سواء.