تحت وقع الأهوال في غزة والموصل، تغاضى العالم عن أي حدث آخر في الشرق الأوسط، حتى الحرب السورية تراجعت إلى مرتبة ثانوية في الاهتمام السياسي والإعلامي. ولم تلفت الاغتيالات اليومية في بنغازي الانتباه إلى فداحة الانهيار في ليبيا. وحدها معركة مطار طرابلس الدولي ونيران خزانات الوقود أعادت تسليط الضوء على بلاد تأسرها الميليشيات.

لم تلحظ دوائر صنع القرار في الغرب سوى جانب واحد من الواقع المتعدد البُعد. يسهل الحديث عن فشل الدولة واحتضار الديموقراطية الوليدة والتهويل بشبح إمارة إسلامية، بدل التعمق في جذور الإخفاقات الراهنة، والكثير منها موروث من عام 2011 حين استعجل الغرب التدخل في ليبيا ثم تركها لشأنها. فالمشكلة لا تحل بالتخلص من شخص العقيد معمر القذافي بل بوضع خطط واقعية لبناء دولة من الصفر وما دون، الأمر الذي لم يتم، وهو الخطأ الذي ارتكب مرتين في أفغانستان.
ما تقدم لا يعني أن ليبيا ليست في أزمة وجودية في المقام الأول وأزمات آنية أخرى. و"معركة طرابلس سياسية يدفع ثمنها المدنيون"، كما قالت لـ"النهار" أسماء سريبة، عضو المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته، وتحركها مصالح "الإخوان المسلمين"، وذراعها "حزب العدالة والبناء"، وتصريحات المسؤولين فيه "تعيدنا إلى المربع الأول وعهد القذافي".
طرابلس مدينة خلت من الأجانب، وعمليات الإجلاء الجماعي تُرجع عقارب الساعة ثلاث سنوات إلى الوراء. عاصمة البلاد الغنية بالنفط تعاني الشح في المحروقات. والكهرباء والمياه تغيب ساعات، وبعض المواد الغذائية مفقود والمُتاح ارتفعت أسعاره. والحياة اليومية تسير على وقع جولات التقاتل بالصواريخ. رائحة الحريق تخنق الأنفاس والمدينة تُظللها سحب سود، والسكان محاصرون في منازلهم. الهيئات الحكومية معطلة، فهي إما في قبضة المسلحين وإما يتعذر بلوغها، والمصارف تعمل بالحد الأدنى خوفاً من السرقات، والمدارس لن تستقبل التلاميذ في أيلول.
ومن أراد الفرار من معارك طرابلس، عليه خوض مغامرة محفوفة بالمخاطر. فالمطار خرج عن الخدمة بالتدمير الكلي أو الجزئي لـ21 طائرة. ثلاث طائرات فقط نجت بعدما طار بها ملاحوها إلى مالطا. مليار ونصف مليار دولار قيمة الاضرار، إلى الكارثة البيئية والاقتصادية المتمثلة في احتراق الوقود الذي أُعيد إشعاله بعد إخماده.
إذاً من لم يكن محظوظاً ليرحل مع الأميركيين جواً عبر مطار معيتيقة العسكري أو في فرقاطات كما سائر الأوروبيين، عليه المخاطرة بالانتقال إلى خارج العاصمة أو الانطلاق براً في رحلة طويلة ومضنية إلى تونس. وربما وجد نفسه فريسة عصابات التهريب بحراً في قوارب الموت.

"أنصار الشريعة" وشبح "الإمارة"
أما في بنغازي حيث دمرت صواريخ قاعة الانتظار في مطار بينينة، فان الاغتيالات واقع يومي، رجال ونساء يؤمنون بالديموقراطية يسقطون فريسة التصفية. و"معركة الكرامة" التي أطلقها اللواء خليفة حفتر لاستئصال النفوذ المتنامي للمتشددين الإسلاميين انتهت إلى نتائج عكسية. فبدل أن تكون فرصة ثمينة لإعادة الأمور إلى نصابها في بلاد لم تختر الإسلاميين في أي استحقاق انتخابي، وإن يكونوا نجحوا في الالتفاف على كلمة صناديق الاقتراع والإمساك بمفاصل الحكم، تحولت حرباً خاسرة.
وقال الصحافي عبدالوهاب مليطان لـ"النهار" إن حفتر أخطأ في حصر الجميع في زاوية واحدة. فعوض محاورة الفصائل المقتنعة بمفهوم الدولة والتعاون معها لمواجهة المتطرفين، أطلق عمليته في وجه "أنصار الشريعة" ومعها "سائر الجماعات ذات الانتماء الإسلامي غير التكفيري وفصائل أخرى، فاتحدت كلها ضده" تحت مسمى "مجلس ثوار بنغازي"، وهو كيان غير متجانس.
وإذا كانت "أنصار الشريعة" تسيطر على المجلس، فإن ذلك لا يطمس وجود إسلاميين آخرين. ويشرح مليطان أن زعيم "أنصار الشريعة" في بنغازي محمد الزهاوي يختلف في التوجه والفكر عن وسام بن حميد، قائد ما بات يُعرف بـ"درع ليبيا 1" بعد انقسام هذا الفصيل مجموعات عدة. ذلك ان "بن حميد مقتنع بمفهوم الدولة ومؤسساتها، ولديه رؤية في هذا الشأن، أما الزهاوي ففكره تكفيري ويستهدف خصوصاً مؤسستي الجيش والشرطة".
ولا إحصاءات دقيقة عن عدد أفراد "أنصار الشريعة" في بنغازي، وهم في بعض التقديرات يقاربون الألف. وفي حين بدأت وسائل إعلام غربية وخليجية دق ناقوس الخطر من "إمارة إسلامية" في المدينة، لم يحصل ذلك فعلا، ليس بعد. وإذا كان الزهاوي أعلن قبل أيام السيطرة المطلقة على المدينة، فإن التظاهرات الكبيرة التي تحدت المظاهر المسلحة وخرجت تأييداً للجيش والشرطة تدحض مزاعمه.
أضف أن الزهاوي ليس أبا بكر البغدادي، "الخليفة" المفترض لـ"الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا وأينما تفشى التشدد التكفيري. صحيح أن "أنصار الشريعة" موجودة في بنغازي ودرنة وسرت، إلا أن لكل منطقة زعيمها، فلا "أمير" واحداً ولا "خليفة". الزهاوي يتزعم الفصيل في بنغازي، وسفيان بن قمو في درنة، وكان أحمد التير يقود "أنصار الشريعة" في سرت، وقد سقط في اشتباكات بين ميليشيات. ولـ"أنصار الشريعة" موالون في طرابلس وصبراتة ومصراتة وزوارة ومدن اخرى، لكنهم أفراد وليسوا جماعات.
إذاً، الفصيل لا يملك البنية التحتية لـ"الدولة الإسلامية" أو "جبهة النصرة". وهذا لا يعني تجاهل قوته وحضوره. ففي درنة مقاتلون من الجزائر واليمن ومصر وتونس وتركيا، وهؤلاء استوطنوا الجبال والوديان، كما فعل المتشددون في الجزائر في زمن "العشرية السوداء".
وكما قال أحد السكان الذي تحدث إلى "النهار" طالباً عدم ذكر اسمه، "إنهم أصحاب سوابق وسجلات جنائية، وكل شيء مباح لديهم، الخمر والسجائر والحشيش والدعارة واللواط". وهم لم يفرضوا، حتى الآن على الأقل، قيوداً على الحريات الفردية، لكنهم قاموا أخيراً بعرض للقوة في سيارات رباعية الدفع يُذكر بمسيرة مماثلة نظمها مقاتلو "الدولة الإسلامية" في الرقة.
وفي درنة حيث تشكل الفدية مصدراً أساسياً لتمويل المتشددين، أنشأ هؤلاء جهازاً قضائياً سموه "محكمة الشورى الإسلامية"، و"فيها أشخاص يزعمون أنهم قضاة، وهم في الحقيقة سجناء سابقون، والمستوى التعليمي لديهم متدن". وروى ساكن درنة الذي تحدثنا معه أن بينهم مصرياً و"بعض العرب"، وهم "يخفون وجوههم". وقد أشرفوا أخيراً على "إعدام بالرصاص نُفذ في إحدى الساحات في حق شخصين متورطين في جريمة قتل".
وقبل سنتين أطلق الإسلاميون إذاعة تحض على الجهاد و"تُكفر الدولة"، وهو أسلوب سبق لحركة "طالبان" ان اتبعته. وفي النشأة الأولى لـ"أنصار الشريعة" شبهٌ مع قيام "طالبان" التي كانت أساساً حركة لمكافحة فساد أمراء الحرب الأفغان قبل جنوحها الى التشدد التكفيري.
مطلع تموز أرسل ما يسمى "تنظيم القاعدة بليبيا – كتيبة أبي محجن الطائفي" 50 مجاهداً، منهم الطبيب ومهندس النفط والمحنك في التكنيك العسكري والاستشهاديون" إلى البغدادي بعد مبايعته "أميراً على دولة الإسلام".
وفي الفترة ذاتها، أكدت مصادر أمنية في النيجر أن المتشدد الجزائري مختار بلمختار فر من مالي إلى ليبيا لإدارة عمليات تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" من هناك. وتحدثت صحيفة "الخبر" الجزائرية عن عودة "جهاديين" ليبيين من سوريا لإقامة فرع لـ"الدولة الإسلامية" في ليبيا أولاً ثم في تونس.

السياسة رهينة الانتظار
على هذه الخلفية، وعلى رغم كل التحديات ووسط حراسة مشددة، عقد مجلس النواب المنتخب جلسة تشاورية السبت في طبرق قرب الحدود المصرية وفي حضور 160 عضواً من أصل 200، في انتظار تسلم السلطة اليوم الاثنين من المؤتمر الوطني العام.
ولكن أي سلطة تحكم وهي منفية خارج طرابلس وبنغازي، والقبضة الميليشيوية تتحكم بمصير المدينتين، ومعهما غرب ليبيا وشرقها؟ وهل جمع الإسلاميين والقوميين والفيديراليين والعسكريين لا يزال ممكناً الى طاولة حوار للاتفاق على نظام جديد، ولو كان ملكية دستورية كما اقترح وزير الخارجية محمد عبدالعزيز؟
كل هذا التقهقر السياسي دفع الرئيس السابق للمجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبدالجليل الذي كلفته الحكومة الموقتة الاضطلاع بمهمة وساطة، إلى التحذير من "مخاطر تتجاوز حدود الخيال، ربما كان أقلها ضرراً احتمال تقسيم البلاد". ولكُم أن تتصوروا أثر ذلك على مصر والجزائر وتونس والسودان، ومالي والنيجر وتشاد، وصولاً إلى سوريا والعراق، وامتداداً إلى أوروبا. حقاً، يفوق الخيال.

 

*نقلا عن صحيفة النهار