يبدو أن المشهد في ليبيا يتجه نحو المزيد من التصعيد الشعبي والوقوف في وجه حكومة الدبيبة، فقد أصبح الشعب الليبي يعاني من تدهور الظروف المعيشية وتدهور الخدمات العامة والانقطاع المتكرّر للكهرباء والمياه وشحّ الوقود في بلد نفطي، أما الفساد فقد استشرى بطريقة جنونية. وما زاد الأمور تعقيداً، هي ممارسات الميليشيات الإخوانية التي فتحت الباب لمشغلها التركي لسرقة ثروات الشعب الليبي النفطية ونشر الإرهاب وبث الفوضى التي يدفع ثمنها المواطن الليبي الذي عانى الظلم والقهر من إرهاب هذه الميليشيات وداعمها التركي. فبعد تآمر هذه الميليشيات على الشعب الليبي واستقدامها للمزيد من الإرهابيين خدمة للأجندات التركية المشبوهة، يتجه الشعب الليبي وعلى رأسه أعضاء من مجلس النواب، لرفع الصوت عالياً مطالباً باستقالة حكومة الدبيبة. 


وفي هذا السياق طالب أعضاء مجلس النواب الليبي عن إقليم برقة شرق البلاد الأربعاء الماضي، بسحب الثقة من حكومة عبد الحميد الدبيبة، واستبدال رئيسها بما أسموه "شخصية وطنية" تلم شمل المواطنين ولا تفرقهم. وقال نواب الإقليم البالغ عددهم 28 نائبا، في بيان، إن"مجلس النواب هو الجسم الشرعي الوحيد وفقا للقانون، وآخر كيان تشريعي منتخب، في ظل الانقسامات السياسية التي تمر بها البلاد". 

واتهم بيان النواب، الحكومة "بعدم تقديم أبسط الخدمات للمواطن"، بعد مرور أكثر من ثلاث أرباع مدتها المنتهية في كانون الأول/ديسمبر المقبل. وأضاف أن "الحكومة لم توحد مؤسسات الدولة، ولم تلتزم بخريطة الطريق التي مُنحت الثقة بموجبها، وأصبحت حكومة فرقة وفتنة بدلا من أن تكون حكومة لجميع الأطراف، لتصل بنا إلى انتخابات في موعدها". كما اتهم البيان، "رئيس الحكومة، بالقيام بتصرفات وتصريحات وتكليفات غير مسؤولة، ولا مقبولة ويتحكم في صنعها أصحاب المال السياسي الفاسد". 

ولتأكيد فشل الحكومة المؤقتة، فقد قدم سفير ليبيا لدى الاتحاد الأوروبي، حافظ قدور، استقالته من منصبه، الأحد 15/08/2021، بسبب اعتراضه على سياسات حكومة عبد الحميد الدبيبة. وجاء ذلك في بيان موقع باسم السفير، بسبب اعتراضه على سياسات وممارسات الحكومة ورئيسها في المجالين الداخلي والخارجي... 

وهاجم البيان أداء الحكومة الحالية، مشيرا إلى فشلها في تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار الوطني والمعيشي والخدمي... وأضاف سفير ليبيا لدى الاتحاد الأوروبي في البيان المنسوب له، أنّ الحكومة فشلت في توحيد مؤسسات الدولة، ومنعت كل ما أمكنها في توحيد الوطن والشعب والدولة، وتقترب به من حالة الصدام والصراع.


لماذا لا تستقيل حكومة الدبيبة؟

سؤال يطرحه المواطنون الليبيون الآن في ظل قساوة الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد، والأوضاع الفائقة الدقة التي يواجهونها، حيث تشهد ليبيا موجة واسعة من الامتعاض الواضح من أداء المؤسسات التابعة لحكومة الدبيبة...؟ لا يختلف إثنان أو يتنازع عنزان، أنّ أداء حكومة الدبيبة، غير مقنع، ولا يرقى لمستوى تضحيات الليبيين وصبرهم، وقدرتهم على التحمل. إن المسؤولين بحكومة الدبيبة، لم يدركوا بعد أن المواطن الليبي يعيش في عالم جديد مفتوح، ووسائل التواصل الاجتماعي التي يستطيع من خلالها أن يذكر المسؤول، بالصوت والصورة، ماذا وعد وقال، قبل أيام أو أسابيع أو أشهر؟ وبالتالي لم يعد بإمكان أحد أن يطلق وعوداً تخديرية في هذا الزمن. 

وأمام الوضعية المزرية التي يعيشها المواطن الليبي، لا يمكن الطلب منه وهو الذي يفتقد الحدود الدنيا للحياة أن يصبر، وهو يرى تناقضات اجتماعية مرعبة، فالليبيون الجدد من "أمراء الحرب" يزدادون فجوراً وبذخاً، واستعراضاً لثرواتهم، التي جنوها خلال الحرب على بلدهم وشعبهم، دون أي خجل ووجل، لا بل أصبحوا يلجؤون لتصوير هذا الفجور على صفحات الفيس، وهناك أبناء في ليبيا يزدادون جوعاً وفقراً، وهذه التناقضات الاجتماعية الطبقية تزداد، ولا تتقلص، وإذا كنا ندرك أن الحروب لا تنتج أنبياءً ورسلاً للأسف، لكن ازدياد الاحتكار بيد فئة قليلة، وتمركز رأس المال بيد هؤلاء، وانزياح وهجرة الكفاءات الصناعية والتقليدية، سوف يكون له انعكاس خطير، مع انتشار أحاديث ومعلومات عن تحكم هؤلاء بقرارات الحكومة الاقتصادية، وتحول الجهاز الحكومي إلى خادم لمصالح هؤلاء!
 

للأسف الشديد وحسب معاناة الشعب الليبي التي لا تنتهي، فإنّ حكومة الدبيبة، لم تنجح في نقل البلاد إلى بر الأمان أو حتى السكة الأولى منه، وحقيقة المشهد الليبي راهناً تؤكد سيطرة انتماءات سياسية غير واضحة وولاءات توهّم أصحابها أن التخلص من نظام الجماهيرية سيجلب ديمقراطية تعددية لبلاد، باتت تسيطر على قيادة الأمور فيها ميليشيات عسكرية تخوض معارك لا تحقق شيئاً سوى سلسلة من الدمار وتمزيق مستمر للجيوسياسة الليبية على الصعد كافة. 

والثابت لدينا اليوم، أنّ تركيا وجدت بحكومة الدبيبة فرصة ذهبية من أجل تثبيت أقدامها في شمال أفريقيا، واحتلال موقع استراتيجي تحاصر به اليونان ومصر، في إطار الصراع الحامي حول ثروات البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى ما ستجنيه من ثروات طبيعية من بترول وغاز طبيعي في ليبيا يؤمن لها خط النمو التصاعدي، وتحويل ليبيا إلى قاعدة متقدمة لها في شمال أفريقيا من أجل المنافسة على الاستثمارات داخل القارة السمراء، حيث انتقل عدد السفارات التركية في أفريقيا من 12 سفارة سنة 2012 إلى 42 سفارة سنة 2019، وهو ما يفسر الاهتمام التركي المتزايد بأفريقيا، وليس سراً أن ليبيا تمتلك أكبر احتياطي نفطي في القارة الإفريقية حيث تجاوزت احتياطاتها ال 40 مليار برميل.


 
ومن حقنا أن نسأل كل الذين ركبوا موجة الثورة الزائفة والمزعومة: هل أصبحت ليبيا واحة للحرية كما كان يهتف من خرج في وجه نظام حكم معمر القذافي؟ وهل أصبحت ليبيا دولة ديمقراطية تنتخب قياداتها وفق آراء الشعب وقناعاته؟ أم إنها أصبحت مرتعاً للجماعات الأخوانية والمرتزقة، التي لم تنحصر شرورها في الأرض الليبية، بل استطالت وتوسعت لتشمل أرجاء مختلفة من دول العالم وفق رغبات وأوامر مشغليها ومموليها ومسوقيها. هل أصبحت ليبيا أكثر ازدهاراً وتطوراً أم أن ما حصل ويحصل فيها دمّر البشر والحجر وعاد بها عشرات السنين إلى الوراء؟ لسنا في حاجة الآن لتأكيد أن كل عوامل الثورة المزعومة لم يكن لها أي مسوغ في المجتمع الليبي، الذي كان متوسط دخل الفرد فيه من أعلى متوسطات الدخول في المنطقة العربية، وكان يتميز بوفرة سبل العيش الكريم والعدالة الاجتماعية، بل والرفاهية للأغلبية العظمى من المواطنين حتى في ظل الحصار الاقتصادي الرهيب والطويل، وكانت ليبيا دائماً حاضنة فعلية لكل العرب. 


لقد حكم القذافي ليبيا لأربعين عاماً، وقادها نحو تقدّم كبير في المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو تقدم لاقى تقدير وإعجاب العديد من الدول العربية والإفريقية آنذاك، وكان القذافي يمثّل شخصية بارزة في النضال ضد الإمبريالية، بخاصة ضد الولايات المتحدة وسياساتها التي تنفذها في الشرق الأوسط، لذلك أمست حياته ومماته حدثين محوريين لفهم ما تمر به ليبيا حالياً. ومنذ أن تولّى القذافي السلطة، كان النفط المورد الأساسي للبلاد، ويمثّل انتصار ثورة عام 1969 نقلة نوعية دفعت الحكومة الجديدة إلى استخدام إيراداتها النفطية لتعزيز إجراءات إعادة التوزيع بين السكان، ما ولّد نموذجاً جديداً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. وكان من بين التدابير الاقتصادية التي قادت سياسات القذافي تأميم العديد من شركات النفط الغربي، مثل شركة بريتش بتروليوم، وإنشاء المؤسسة الوطنية للنفط. وتمّ إطلاق برامج اجتماعية طموحة في مجال التعليم والصحة والسكن والأشغال العامة والدعم الحكومي للكهرباء والمواد الغذائية، فأدّت هذه السياسات إلى تحسّن كبير في الظروف المعيشية، فتحوّلت ليبيا من كونها إحدى أفقر البلدان في إفريقيا عام 1969 إلى دولة رائدة في مؤشر التنمية البشرية في القارة الإفريقية عام 2011. 

وعلى المستوى الوطني، استطاع القذافي التعامل مع معضلتين أساسيتين من سمات المجتمع الليبي، وهما صعوبة السيطرة على القبائل من جهة، وتفتت المجتمع إلى مجموعات قبلية وإقليمية متنوعة، ومتعارضة أحياناً، إذ تشير التقديرات إلى وجود نحو 140 قبيلة في الأراضي الليبية، ولكل منها ولاءاتها المختلفة. أما على المستوى الدولي، فينبغي تسليط الضوء على الوحدة العربية والمواجهة المفتوحة أمام الولايات المتحدة بسبب المعارضة التي مارسها القذافي على تأثير هذه الدولة الإمبريالية، فشكّل علاقات أوثق مع الدول العربية لتنفيذ سياسات مشتركة تناهض سياسات واشنطن في الشرق الأوسط وإفريقيا. وعمل الزعيم الليبي على تعزيز العلاقات مع الدول العربية كسورية ومصر والمغرب وتونس... وغيرها، كما ارتبط القذافي ببلدان أمريكا اللاتينية أمثال فنزويلا وكوبا، ما أدى به إلى تنمية شبكة واسعة من الاتصالات والنفوذ غير المريح في نظر أوروبا والولايات المتحدة. 


لقد كانت الجماهيرية الليبية في عهد القذافي مستقرة اقتصادياً واجتماعياً، أما الآن في عهد حكومة الدبيبة، بات الليبيون يعيشون الفقر والتشرد والهجرة... والأمم المتحدة تؤكد اليوم أنّ 1.3 مليون شخص في ليبيا بحاجة إلى مساعدات إنسانية نتيجة الصراع  والوباء. أما حكومة الدبيبة فهي ليست معنية بمعاناة الشعب الليبي، فهذه الحكومة المؤقتة، وحسب مذكرة وقعها نواب ليبيون، لم تلتزم بما تعهدت به، بل أصبحت تُنفق الأموال تحت مسمى 12/1 من الميزانية، حتى وصل الإنفاق إلى مبالغ تقدر بالمليارات دون أن يظهر أي تحسن في الخدمات. وتابعت المذكرة: "حكومة الدبيبة أنفقت جل هذه المبالغ على دول أخرى كدولة تونس وتركيا، ولم يرَ المواطن الليبي أي نصيب له في تلك الأموال، بل إن الخدمات الأساسية والضرورية زادت تدهورًا، وأصبحت هذه الحكومة تشكل عبئًا على المواطن بسبب مصاريفها العالية".


خلاصة الكلام: الكتابة في الموضوع الليبي أصبحت كالقابض على الجمر، والموقف الرمادي اليوم في ليبيا، مرفوض لأنه رديف الضعف والانهزام والخيانة والرهان على أعداء الشعب والأمة، والطاقة الكامنة في الوطنيين الليبيين الأحرار على امتداد ساحات ليبيا والتي تتمثل في تأكيد تماسك الشعب والمؤسسات والجيش العربي الليبي مؤهل وجاهز لسحق الإرهاب والعمالة والارتزاق... ولحكومة الدبيبة، أقول: استقيلوا أيها السادة واستريحوا قليلاً لتريحوا الشعب الليبي كثيراً، فقد تعبتم وأتعبتم ووضعتم ليبيا ومصيرها في مآزق وأدخلتموها في أنفاق مظلمة. لقد مُزِّقت ليبيا شر تمزيق، ولن ينجح أي فريق منكم في أن يستأثر بالوطن ويلحقه بملكه أو في أن يقتطع منه قطعة يشكلها وطناً أو يضعها تحت تصرف من أوحى له بأنه قادر على أن يكون وطناً... لا تعيشوا الأوهام ولا تصدروها لشعبكم فقد أهلكته تلك السياسات والمبالغات وأهلكه ساسة يسوقون له الوهم ويجعلونه يدفع ثمنه غالياً.