الذي يجري اليوم في ليبيا، هو أن الليبيين استعذبوا نشرات الأخبار المليئة بأخبار الفساد وتعدد مسميات الميليشيات.... صار الليبيون ينامون على الأخبار ويفيقون على الأخبار... يتسلون بالبرامج السياسية... ويعيدون الكرة في اليوم عدة مرات... لقد حفظوا وجوه المحللين... وحفظوا ألوان ربطات عنقهم، وألوان كلامهم ومن أين يستقون معلوماتهم... الذي يجري في ليبيا حوّل الليبيين إلى آلات تتابع وتشاهد، وتتحجر الدموع في مآقيها... وهم فيما سبق كانوا يغطون أعينهم أمام مشاهد العنف في أفلام ومسلسلات سينمائية تخييلية... الذي يجري اليوم في ليبيا تشيب له الأطفال. 

اسمحوا لي، اليوم أن أخرق كل قوائم الحساسيات الليبية التي يضاف إليها كل ساعة، مئة ممنوع ومحرم ومستهجن، بحجة متطلبات المرحلة وعدم المساس بالروح المعنوية للقابضين على الصبر جمراً، لأن لا خيار بديلاً للجمر، سوى ملايين الدينارات يدفعها الشعب الليبي مقابل مئات الساعات في رمال وبحار، يتلقى فيها الإهانات وربما الضربات، ويفقد الحق في معاملة إنسانية وقد يفقد الحياة في مرافئ صَدرت له الموت، ثم أغلقت "موانيها" في وجه الهاربين من الموت! اسمحوا لي، وأنا المغسول مثلكم بفظائع أكثر من عشر سنوات من الحرب والفقد والهول، بالظن وبعض الظن حكمة، في أيام أزمات ليبيا هذه، أن المواطن الليبي قد دخل في التداعيات الأسوأ لأزمة صراعات السياسيين، حيث لاشيء يستر "عضم" ليبيا وعظام الليبيين، سوى جلد جارت عليه كل عوامل التعرية غير المسبوقة. اسمحوا لي بالصدق عليكم، والاعتراف أمامكم بما تعرفونه، وهو أن حال ليبيا في تدهور، وأن اليومي والمُلح في حياة المواطن الليبي، سيغدو صعباً أكثر فأكثر، فاللحم الحي لليبيا التهم، والموارد شحت، وجمعية المنتفعين من وجع ليبيا تتسع يوماً بعد آخر، وسماسرة بيعه أنقاضاً، باتوا أسراب جراد تفك بمناقير نهمها، جراح الشعب الليبي المخدرة بالألم المتواصل قطبة بعد قطبة، وتفك معها كل ياقات أخلاق وقيم المجتمع الليبي، وتخلع عنه براقع مجاملة، كنا نخفي خلفها الغضب مؤونة.

لقد طاولت الأزمة الليبية ولاحقت المواطن الليبي في خلواته وإيقاع أيامه الرتيب، دخلت بكل ما لديها من حرارة وتعقيد إلى أعصابه وإلى طريقة تعامله مع أبنائه، وهذا البعد النوعي في الأزمة هو الذي يقدم المواطن على حقيقته ويقدر على قدر وعيه واحتماله للأزمة... لقد عانى الشعب الليبي ولا زال يعاني منذ أكثر من عشر سنوات، بدأت تنقص فيها الكثير من الروابط الاجتماعية، انعكست أوضاع ليبيا سلباً على هذا الشعب الأبي، على المستوى النفسي والاجتماعي والاقتصادي، وما تعرض له معظم الشباب الليبي والأطفال خصوصاً خلال السنوات الماضية، وعدم قدرة الشخص على التأقلم والتعايش مع هذا الواقع المرير، أدت الأزمة إلى حدوث اضطرابات في النوم يصاحبه فزع ليلي، فالأسر الليبية تعاني من التوتر، وظاهرة المليشيات المعممة تجعل المواطن الليبي يفكر بمبدأ الحفاظ على الأشياء والحدّ الأدنى بالنسبة له هو البقاء على قيد الحياة: البحث عن الأمان والطعام، وبعد الحصول عليهما تبدأ لتعود الحياة إلى البداية من قبل ذهاب الأمان والطعام، المهم أن نعي ونفهم هرم ماسلو: ترتيب احتياجات الإنسان من القاعدة الغذاء ثم الأكسجين فالبقاء حياً، شكل غريزي ثم البحث الأكثر رقياً ومكملات الحياة، توعية الحياة الاجتماعية والوظائف النفسية. 

لقد فقد الليبيون الثقة وفقدوا الأمان... انزووا كارهين الناس جميعاً وخائفين من الناس جميعاً، تحولوا إلى أخوة أعداء، وأحياناً إلى وحوش في غابة... القوي يقتل الضعيف والفاجر لا يقيم وزناً للروح ولا للشرف... الذي يحدث في ليبيا لا تقدر عليه خيالات الكتاب ولن تحيط به الروايات، وقد يأتي جيل يقرأ نتفاً من سجلات الزمن الليبي فيصاب بالجنون... الذي يجري في ليبيا يحتاج إلى دهور حتى يعاد ترميمه... ففي ليبيا خراب أخلاقي و إنساني... في ليبيا عملاء يبيعون الدم الليبي والوطن الليبي ولا يهابون لعنة الأجيال... في ليبيا فساد ونفاق... وتجار سياسة محتكرون... وفي ليبيا أولاد حرام لا تعنيهم الأديان ولا الإنسان... كل ما يعنيهم المال ثم المال... لذلك انقسم المجتمع الليبي إلى فقراء معدمين، وإلى شهداء ومقهورين، و إلى أغنياء يكدسون الذهب والفضة ويبيعون حتى أعراضهم لأجل هذا الذهب... وفي ليبيا كذابون يفتون ويقتلون... ولصوص دين ولصوص دنيا...؟ كأننا في آخر العهد قبل قيام القيامة.

‏الذي يجري اليوم في ليبيا... أن الشعب الليبي تعب وأخذ اليأس يدبّ في عروقه تعب من الصبر ومن استجداء النسيان، تعب من الحذر ومن خدر الكلام... ليبيا التي كنا نعرفها أين هي؟‏ هل توجد إلا في قلوب المواطنين الليبيين الأحرار؟‏ الذي يجري اليوم في ليبيا، أنّ الشعب ترك أحلامه تتمزق أمامه، وترك الأقلام تجف من الحبر... ما جدوى الأقلام والميليشيات تكتب على الرقاب...؟‏ لقد تحجرت الحروف وخلعت المشاريع... لقد مزق الورق الأبيض ولم نعد ننتظر إبداعاً أو خيالاً... وحده رصاص الميليشيات هو الذي يبدع حياة الليبيين... الذي يجري اليوم في ليبيا... أنّ من كانوا يفتحون قلوبهم وموائدهم وبيوتهم في وجه الغرباء وعابري السبيل... حولتهم  الأزمة التي طالت وامتدت لسنوات، حوّلتهم إلى غرباء ومن باب الإنصاف أقول: أحبّكم مهما أساء بعضكم وأخطأ في التاريخ والجغرافيا. هؤلاء أنتم أيها الشرفاء الأحرار، يا من لا تتقنون الانقراض، وترفعون راية النخوة قبل الشوارب والطواقي.

اسمحوا لي، والمواطن الليبي يغادر الخيبة إلى خيبة، و يغادر الخوف من العدو، إلى الخوف من القريب الحبيب، أن أخبركم أن ما يشقيني اليوم، أن الهوية الليبية التي كانت فخراً في كل الدنيا، باتت اليوم عائقاً لليبيين وبين كل الدنيا، وأن ليبيا الذي شرب الجميع من نبع خيرها، ملأ سفهاء ليبيا وسفهاء غيرها، بئرها بالحجارة! من هنا نستطيع القول للمتجبرين والمتكبرين والفاسدين الذين يسخّرون مواقعهم لاستغلال المواطن الليبي وسرقة مقدراته، ويتباهون بثرواتهم وقدراتهم: ضللتم المسار وأخطأتم الاختيار فلا شيء يباهي به الإنسان أعظم من الأمانة، وأجلّ من الشرف وأفضل من التواضع وأرقى من خدمة الوطن وصون حريته واستقلاله ومنعته وأمنه وأمانه، ومن لا يبذل كل ما بوسعه وفي أي موقع كان لتحقيق عزة ليبيا وازدهارها وتقدمها، هو بلا أدنى شك عاق وجاحد وجاهل إذا لم أقل خائن، فليبيا مسؤولية جميع أبنائها ومن يفرّط بها بأي شكل من الأشكال لا يستحق أن يعيش على ترابها ومكانها الطبيعي على مزابل التاريخ حيث يعيش الخونة والعملاء.‏ 


*المقال يعبّر على وجهة نظر الكاتب